أخر المقالات

التفلسف بالمدرسة الابتدائية (ج3)

 


  برنار جوليبر

Bernard Jolibert


رابط الجزء الثاني من المقال: من هنا


التأطير

ها نحن نعود إلى السؤال الجوهري المتعلق بالتأطير المدرسي للأنشطة الفلسفية، أي بتكوين المعلمين الذين يدعون التحدث باسم الفلسفة. كل واحد، داخل النظام الفرنسي، يدرِّس وفق القدرات، أو الاختبارات أو المباريات المعترف بها التي تجازي على قدر معارف ومهارات المرشحين في مختلف التخصصات الموكل إليهم تبليغها. يركز التعليم الابتدائي بشكل أساسي على المواد المدرسة: الفرنسية، والرياضيات، والتاريخ والجغرافية، والفيزياء والكيمياء، والفنون التشكيلية، والموسيقى، التربية البدنية والرياضية. لا شيء يشهد على أي كفاءة في الفلسفية. فهل حضور عدد من أساتذة المدارس الجدد، لدروس في الفلسفة لبضع ساعات في السنة النهائية، يوفر لهم إمكانية فهم ما يشكل المقاربة النقدية لمسألة ما؟ ما هي الضمانات التي يكفلها التكوين الفلسفي المقدَّم بالمدارس العليا للتدريس والتعليم ESPE([i]) الجديدة، التي اختفت فيها الفلسفة بشكل عملي؟ لقد أصبح تاريخ الفلسفة غائبا تماما عن البرامج، كما هو الحال بالنسبة للتفكير الفلسفي العام، وعُوض بدراسة، وتوقية في الغالب، للمواد السلوكية (النفسية، علوم الاتصال، الخ.)

اقرأ أيضا: زمن الطفولة (الجزء4)

مما لا شك فيه أن المعلم لا يهتم، خلال النقاش الدائر بين التلاميذ، بما يشكل القاعدة التاريخية للفلسفة (المذاهب، النظريات وغيرها) وإنما فقط بما يشكل المتطلبات العامة. كيف إذن يتم ادعاء توجيهِ، وتصحيحِ وإدارة حوار فلسفي مع جهل أسس هذه المادة؟ يتطلب تدريس هذه القراءة اللصيقة لبعض الكتّاب المهمين في تاريخ الفلسفة. من الصعوبة بمكان إدارة حوار في هذا الإطار، بحيث أنه، إضافة إلى تاريخ الأفكار، من الواجب أيضا تملك مضامينها، وصيغ تعابيرها، والمصايد المفاهيمية والأساليب الحجاجية. هل يمكن لمن يجهل كل شيء تقريبا عن مادةٍ تاريخُها جزء أساسي منها أن يفتح الطريق المؤدية لها؟ إن الذي يدعي قدرته على تدريس ما يجهله إنما يخدع نفسه، وهذا ليس بالأمر الخطير، لكنه يخطئ أيضا بالنسبة لما يميز الفلسفة بشكل خاص، والتي شهدت مواقف أخرى كثيرة. الأكثر خطورة كونه يخدع الآخرين بشأن المهام الأولية والأساسية للمدرسة الابتدائية: الأطفال الذين يظنون حقا أنهم يتفلسفون، والآباء الذين نرغب في جعلهم يعتقدون أن القدرة النقدية تنمو في شكل من العفوية المبكرة الطبيعية، دون مرجعية أو جهد.

هناك مشكل أشد خطورة ويتعلق بحياد المدرسة. أحيانا يتم دعوة متدخلين من خارج المؤسسة الذين يحضرون لتنشيط «مبادلة الرأي المدعمة بالحجج» هذه. حينها نجازف بالسماح لأشخاص بالدخول إلى حرم المدرسة يأتون، باسم حرية النقد، لتقديم الدعاية الإيديولوجية للتلاميذ. إذ ذاك تتدخل مجموعات ضغطٍ مختلفة (دينية، سياسية، اقتصادية وغيرها) بشكل مباشر، تحت غطاء الحياد المدرسي البيِّن، لتتسلل إلى عقول الأطفال (والمعلمين) والتلاعب بهم بسهولة كبيرة لحصولهم على موافقة رسمية من المؤسسة([ii]).

اقرأ أيضا: بيداغوجيا المعنى

في جميع هذه الحالات، نتصرف وكأننا نعتقد أنه بالإمكان أن نتفلسف دون أدنى اعتبار للذين تفلسفوا من قبل. ننسى أن ثقافة فلسفية متينة لا يمكنها إلا أن تقوم على تاريخ الفكر الفلسفي([iii]). كل جديد واعٍ بذاته، كل ابتكار، في البيداغوجيا كما في غيرها، عليه يكون ملما بالمعرفة السابقة حتى يتم الحسم معها، إما القطع مع ما تم تجاوزه أو محاولة الحفاظ على ما يستحق ذلك. بالتالي، لن يكون بإمكاننا تنظيم حوارات فلسفية دون معرفة تاريخ هذه المادة. والوحدات المختارة ل«اكتشاف الكتّاب الفلاسفة» أو «وحدات التكوين المكثفة» التي تقترحها بعض الجامعات لن تكون كافية لإقامة ثقافة فلسفية حقيقية. جوسيلين بيرغوري Jocelyne Beguery، المدافعة الشرسة عن المقاربة الفلسفية المبكرة، ولشعورها بالصعوبة الموجودة، طالبت في مرات عديدة بتكوينٍ متين لأساتذة المدارس المقبلين على التخرج بغية التمكن من «الإمساك بعمق المشكلات المطروحة([iv])».

هل يندرج هذا الاهتمام بالمتطلبات الفلسفية تحت عبادة النخبة للشواهد والألقاب، أم بالإرادة في الحفاظ على مناصب أم باهتمام مبالغ فيه لنقاء تخصصي؟ قد يوجد بعض من هذا في بعض أشكال مقاومة هذا التجديد، لكنه لا يضفي الشرعية على مخافة الاستعمال التعسفي لمصطلح الفلسفة. إن الشهادات، والدراسات الطويلة التي تنتهي بالامتحانات، والمباريات العصيبة، وكل الحواجز المؤسسية التي تحول دون التوظيف لا تتوافق مع اهتمام بالتدلل النخبوي أو «التمييزي»: إنها تهدف أولا إلى الاعتراف بالكفاءات المطلوبة للتدريس، مما يسمح بتوفير الانضباط داخل الإطار المؤسساتي للمدرسة، وفقا للتعليمات الرسمية التي تقيم قسم الفلسفة «على التكوين المدرسي السابق [...] الذي تَحشد له العديد من العناصر، خصوصا إتقان التعبير والبناء الحجي، والثقافة الأدبية والفنية، والمعارف العلمية والمعرفة التاريخية» (برنامج الفلسفة لسنة 2002).

اقرأ أيضا: ما هو فعل التفلسف  

ما يثير الانتباه خلال زيارة قسم تُنظم داخله هذه الحوارات الفلسفية، من وجهة نظر فلسفية صارمة يدعمها النشاط، هو تطبيق بيداغوجية عشوائية: كالخلطِ بين الحوار والنقاش دون وجود وحدة حقيقية في المواضيع، وترتيبِ المواقف الفكرية المختلفة دون ربط بينها، والتي غالبا ما لا تتوافق بينها حيث يحل التأكيد النرجسي، والمركزية العرقية والنسبية محل الحجية. إن المعلم الذي لا يتقن المفهوم الذي من المفروض فيه أن يمكّن تلامذته من مقاربته (كالعنف، الموت، الحب، المواطنة، الخير، العنصرية، العلمانية وغيرها) معلمٌ يُبقي الأطفال فقط في الحيرة، عندما لا يقوم بتثبيتها فيهم. أما بالنسبة لدعوة لويس كارول Lewis Carroll للترويج لمقاربة مبكرة صعوبات المنطق التقليدي رفقة الأطفال، فلابد من البدء بالارتقاء إلى ذروة المعارف النظرية لمؤلِّف المنطق دون صعوبة([v]) بغية النجاح في لعبة القوة المتعلقة باقتراح تقديمٍ يكون في نفس الوقت شيق ومناسب.

ضع ملاحظاتك في خانة التعليقات أسفله👇👇

اقرأ أيضا: مدرس الفلسفة فيلسوف؟



المرجع

Revue philosophique de la France et de l'étranger 2015/3 (Tome 140), pages 291 à 306. Éditions Presses Universitaires de France

الهوامش

[i]-  المدارس العليا للتعليم والتدريس، الموروثة عن المعهد الجامعي لتكوين المعلمين (IUFM) التي حلت محل معاهد تكوين المعلمين (ENI).

[ii] -Bernard Jolibert, La Laïcité, actualité et histoire d’une idée, Bruxelles, EME, 2005, p. 115.  . انظر بالضبط الفصل المتعلق بتوغل طوائف في العالم المدرسي تحت غطاء التجديد البيداغوجي أوالانفتاح الروحي على العالم.

[iii] -  Bruno Barthelmé, « L a philosophie à l’école primaire », art. cit., p. 188.

[iv] - Jocelyne Beguery, Philosopher à l’école primaire, Paris, Retz, 2012, p. 36.

[v] -  Lewis Carroll, La Logique sans peine (1887), trad. de Jean Gattégno et Ernest Coumet, Paris, Hermann, 1966.


نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-