دينيس كامبوشنير
Denis Kambouchner
قمت مجددا بالاطلاع على الأعداد الصادرة من مجلة Télémaque: إنها مثيرة
للإعجاب من جوانب عدة. تم تناول كم هائل من المواضيع من نواحي عديدة، مع ما يستدعي
ذلك دوما من سعة اطلاع المعرفي واتزان؛ خمسون عددا لإظهار الكيفية الحديث عن
التربية وعن القضايا ذات الصلة بطريقة سخية ومدروسة، دون تنازل أمام حشو أو الجدال
عقيم، مع إبرازٍ في الخلفية لمسألة معرفة الحفاظ، في ظروفنا الراهنة، على مُثل
التربية الجديدة وإعادة تشكيلها، مستنيرة بالوجه الأنسب بتنوعها وجينيولوجياتها.
السؤال المطروح علينا يتعلق بكيفية الحفاظ على هذا التوازن في الذكاء – والإصرار العملي – في ظل ظروف خارجية تزداد قسوة. أود قول كلمة في هذا السياق، الذي يفرض علينا، في نهاية المطاف، تجنب كلمة أزمة، التي سبق لي استخدامها [...] ([1])، والتي تصبح في الأخير مناسِبة أكثر إذا اتُخذت في بعدها الدرامي.
العملية التي نحن بصددها تتكون، بشكل عام، من ثلاثة
جوانب: التعزيز المستمر، في جميع أنحاء العالم، لأنظمة مصادرة الثروة لصالح
الأوليغارشيات المترسخة؛ صعود -مرتبط- للمذاهب والممارسات العدوانية والرجعية، لاسيما
منها تلك ذات النمط الهوياتي، مما يؤدي عمليا إلى تقليص المُشترك إلى مجرد تقاسم
العنف، ويحيل الفضاء العمومي إلى مجال للتعبير عن هذه العدوانية؛ ميل الدول نحو
التخلص من عبء الخدمات العمومية والانحصار على الوظائف الأمنية، وعلى المراقبة
والتوزيع. كيف نتمنى ألا تتأثر التربيةُ بذلك؟ حتى وإن دُثرت بملابس رقمية جديدة،
فهي محكومة بأن تُدار بطرق غير عادلة على الدوام –ليس بالمقارنة مع الأزمنة السالفة،
وهو ما لن يكون له معنى، وإنما في علاقة بما كانت عليه منذ زمن قريب، وأكثر من ذلك
بما كنا نأمل أن تكونه.
لذلك فوضعنا هو، على صورة ما يحدث يوميا، وضعية الفوضى
المسيطرة على العقول والإرادات نتيجة كثرة المشاكل الجسيمة. ما كان يبدو قابلا
للتدبير قبل خمسين أو مائة سنة، لكونه كان يدخل في السابق ضمن مجال مؤسسي معين، لم
يعد يبدو كذلك اليوم، ليس بالضرورة لوجود فوضى واضحة، وإنما لأن الفعل العام نفسه يقيس حدود قدراته دوما بشكل
متزايد (عندما لا يقتصر الأمر على سياسة العرض)، وأنْ ليس له، بتأثير الانتشار، مسؤولية
وسلطة يمكنها اليوم أن تمارَس بشكل كامل. نجد لدى أرسطو تعريفا رائعا للمواطن
العادي بوصفه aoristos archôn، وهو ما
يعني حرفيا: «حاكم غير محدد»([2]):
المواطنة هي سلطة غير مقيّدة بزمن ولا محددة بصلاحيات، هي سلطة أساسية من الدرجة
الأولى. إن الكهنوت العام في العقيدة المسيحية، اللوثرية منها على الخصوص، قد حوّل
فيما بعد كل متعبد إلى كاهن. في وقت سابق، جعلت عقيدة «الجمهورية» لكل مدرس شكلا
من السلطة التعليمية magisterium، مما جعل من أستاذ الفلسفة مثلا «مؤلِّفا لدروسه». وعلى الرغم من اختلاف
المرجعيات، إلا أن خيطا رفيعا يربط بين هذه المبادئ: لا أحد، هنا، يخضع تماما لسلطة
خارجية؛ ولا وجود لموضوع السياسة، والدين والتعليم إلا بقدر كونه غير خاضع. ينبغي
التخوف من أن يكون هذا الظرف قد فقد اليوم تقريبا كل معناه. التجاوز الهيكلي
لفعلنا وفكرنا من طرف الجماهير لما لا يتم تدبيره يشكل نظاما مع ما يجب تسميته بلترة
لدينا، والتي هي نفسها غير منفصلة عن توفير رعاية مؤسساتية خارجية مطلوبة بشكل
متزايد. كمدرسين، نرى اليوم أكثر من أي وقت مضى أن تعريف مهامنا تتحكم فيه المؤسسات
المختلفة، العامة منها والخاصة، التي تنتشر عباراتها بفضل وسائل لا يمكن مقارنتها
بتلك التي نمتلكها. في مثل هذه الظروف العويصة جدا، تتمثل المشكلة في معرفة إلى
أين يمكن توجيه الجزء الأكبر من جهودنا، بما يتجاوز خدمتنا بالمعنى الضيق للكلمة.
ما أحتفظ به من إحساس يتلخص في أنه كلما ازداد إلغاء
الطابع المؤسساتي للتربية، كلما ابتعدت عنا آليات تثبيت المعايير –كلما ازداد تصميمنا،
كفاعلين تربويين، على أن نوحد جهودنا بشأن هذه المعايير، تحقيقا في هذا إطار
لأنماط جديدة من التواصل والتوافق. بعبارة أخرى، علينا أن نعطي مضمونا جديدا
لمشروعٍ مدرسي، يأخذ بعين الاعتبار سلسلة من التحولات الثقافية، والتي تتمفصل في نفس
الوقت بطريقة أكثر وضوحا مما تمت تجربته منذ فترة طويلة.
هذا يفترض منا مواجهة سلسلة من الأسئلة الهامة، وبالدرجة
الأولى تلك التي يفسر عدم حلها جزئيا الشلل النصفي الذي يعاني منه النظام التربوي
الفرنسي.
الأكثر قراءة هذا الشهر: التربية من زاوية فلسفية
في ظل الأداء الضعيف للمدرسة الفرنسية، وفي خضم ما يعترف
به الجميع اليوم على أنه تقييد لعملية دمقرطة التعليم الثانوي كما نفذ لأزيد من
نصف قرن، فإن العوامل البنيوية تؤثر بشكل كبير، ولدواعي بينة نشجب جمود النظام
الذي، في نفس الوقت، يحظر الاستعمال الكلي للمبادرات الجماعية أو الفردية ويحد بشدة
الموارد المحلية من الوسائل البيداغوجية في وجه الساكنة المعنية. تكمن الصعوبة
الكبرى في هذا الشأن في تحديد الطريقة التي بها يتم توفير قدر أكبر من الحرية لجميع
مستويات التنظيم التعليمي المنهك بالتراتبية والبيروقراطية، دون أن يكون هذا التحرر
مرادفا للفوضى ومن ثمة تكريس لعدم المساواة. علينا أن نتفق، ودون الانصياع لأي
مثالية مؤسساتية، مع الرأي القائل أن الجزء الكبير من هذه المسألة هي مسألة فكرية:
أن العسكرة caporalisme التي تعاني
منها العديد من قطاعات التعليم العمومي هي في حد ذاتها استجابات تآمرية أساسا لكل
أشكال صعوبات ال«ميدان»، وأن أي نظام تعليمي، بأي طريقة تم تمويله، لا يمكن توظيفه
دون الشيء القليل من توضيح أفكاره التوجيهية.
إننا، في هذا المستوى، بعيدون عما نصبو إليه. فالأمر لم
يقتصر فقط على الاختلالات التي تسبب فيها النظام الفرنسي في توظيف المعلمين والتعايش
بين العديد من الهيئات في بعض مراتب التعليم هي التي عززت التنافر بكل أشكاله، بل إن
مسائل قديمة متعلقة بقيمة التكوين الكلاسيكي (أي التربية التلقينية كما سادت في
التعليم الثانوي حتى نهاية القرن 19)، وتحديد تربية حديثة، لم يسبق لها أن عولجت
بالكفاءة اللازمة. العداء بين ال«جمهوريين» وال«بيداغوجيين»، الذي سيطر على المشهد
التربوي الفرنسي لأكثر من خمسة وعشرين سنة، يمكن بحق التنديد به من حيث أنه صورة
كاريكاتورية وباعتباره أيضا قد استحث جزئيا من طرف المنظمة الإعلامية للنقاش.
وتبقى الحقيقة أن التوتر بين الانشغال بالتنشئة الاجتماعية وبالثقافة الفكرية لم
يتم حله قط ولا حتى مواجهته كما كان ينبغي، ولم يتم معالجة مشكلةِ معرفةِ ما قد يدين به تطور وازدهار القدرات العقلية بصفة عامة
للذاكرة بمفهومها الواسع، بما في ذلك إنتاجات ومناهج الماضي. على العكس من ذلك، جاء
ما يسمى بالبديهيات السوسيولوجية ليسمم ما يمكن أن يكون موجودا من نقاش ويمنع إلى
حد ما أي تفكير هادئ في هذا الشأن: النقاش الذي أوصل كل عملية للتعليم الثانوي،
على الأقل ضمن قطاعاته العامة، إلى اعتماد «ثقافة شرعية»، وهو تعبير غريب في حد
ذاته الذي ضرب بالشك، عند ربطه بفكرة «التعسف الثقافي»، أي ادعاء بالشرعية و،
بالتالي، كل موقف ذي قيمة، حتى الأكثر مجرَّبة منها.
عقود بعد صياغة هذه الأطروحة، يذهب نزوع السلطات
العمومية والأكاديمية إلى تقليص طموح المدرسة في القيم المدنية والبيئية، إلى توضيح
المأزق الذي أوقعتنا فيه النسخة المبتذلة المقابلة. لن يسمح هذا الخيار بأي حال من
الأحوال بتحطيم الحلقة الملعونة لإعادة الإنتاج المدرسي للتفاوتات الاجتماعية، ولا
بخلق شروط تربية «شاملة» حقيقية. إنها بالأحرى واجهة و، بالتالي، اعتراف بالبؤس،
حيث يكون من الملحِّ بشكل عاجل إعادة تأهيل فوائد التعلمات المكثفة وغنى الآفاق
الثقافية. لهذا الغرض، وبالتالي من أجل إعادة بناء ما يسميه جون بيير تيراي Jean-Pierre Terrail «مدرسة المطلب
الفكري»([3])،
على أسس ديموقراطية جديدة، لا يزال من الضروري الاتفاق أولا حول حقيقة أن عددا
كبيرا من الأمور، يتعين على التلاميذ تعلمها وبالتالي تعليمها، بطريقة توجب تأملا
فكريا جماعيا حقيقيا مع تعديلٍ في نفس الوقت يكون أكثر دقة –بطريقة يمكن أن يؤدي
أيضا استخدام التكنولوجيا الرقمية إلى تحسينها لكن لا تغييرها بشكل أساسي. على هذه
المسائل التي يجب تعليمها وتعلمها أن تزدادا بكل تأكيد تنوعا بشكل متزايد بحسب
المستوى الدراسي؛ أما مبدأ أن عددها كبير فلا يمكن التنازل عنه، وأما إشكالية
الكفاءات، المهيمنة اليوم، فعيبها الأول كونها بالتعريف عاجزة عن الترجمة على أرض
الواقع. لطالما بدت لي الفكرة المتعلقة بتعلم التحدث بطلاقة، في كل مكان، للغات عديدة،
وأنواع مختلفة من للغات، على العكس من ذلك، فعالة وبليغة في هذا الصدد.
أشدد هنا على الإشارة إلى الأولوية تتعلق عموما بفكرة
الثقافة الفكرية (والتقنية أيضا)، المرتبطة بمسألة الإمكانيات المتاحة للمدرسة
لتحقيق هذه الثقافة على أساس آخر غير مختزل. لولا هذا الشرط الأخير، لكان علينا
الاعتراف هنا بواحدة من أقدم المسائل الفلسفية. لكن حتى هذا لا ينبغي أن يثبط
عزيمتنا، خاصة وأننا نعرف منذ البداية أن: طريق تيليماك نحو عوليس يشبه الأوديسيا.
Le Télémaque 2016/2 (N° 50), pages 139 à 142 Éditions
Presses universitaires de Caen
الهوامش
[1] - D.
Kambouchner, « L’autorité pédagogique et la crise du sens des savoirs scolaires
», Le Télémaque, n° 35, 2009, p. 97-112.
[2] - Aristote,
Politique, III, 1, 1275 a 32 ; b 14.
[3] - J.-P. Terrail, Pour une école de l’exigence intellectuelle. Changer
de paradigme pédagogique, Paris, La Fabrique, 2016.