Michel SOËTARD
اقرأ لنفس الباحث: المدرسة بين علم الاجتماع، والثقافة والفلسفة
تعرف ال"فلسفة الفرنسية" بميلها
إلى النزعة الإنسانية الفكرية الضاربة في التاريخ: فهي لا تحب، ولا أحبت
أبدا الصخب الممنهج لمثيلتها الألمانية، ولا امبريقية الفكر الإنجليزي المنفلتة
دوما. إنها فلسفة عقلانية من حيث المبدأ، اجتماعية من حيث الطبع، ممزوجة بنفحة
روحانية مقبولة، علمانية دون
أن تكون داعية للعلمانية laïciste،
وضعية دون أن تكون داعية لها positiviste، مستمرة في
الحفاظ على "فكر إنساني" يصاحب ارتجاجات مجتمعنا العاجز عن الاستقرار، وذلك
على الرغم من كل أسئلتها النقدية. من بين أعلام هذه ال"فلسفة الفرنسية"
نجد أوليفيي روبول Olivier Reboul، الذي كان
وسيظل، من خلال مؤلفاته، الفيلسوف الأكثر دقة وبراعة. و سيبقى على الخصوص، بالنسبة
لهؤلاء المهتمين بالتربية، مؤلف الكتب التي نسميها عن طواعية بال"مُفضلة".
فبعد أطروحته حول ألان Alain، ثم دراساته حول كانط و نيتشه، نشر سنة 1989 كتيبه "فلسفة التربية" الذي أصبح أحد دعامات مكتبة
المربي المجرب، والذي يعتبر عصارة تأملاته في التربية من خلال اللغة.
لقد استطاع أوليفيي روبول، في لغة
رصينة، أن يكون متميزا في تناوله مواضيع سيطر غالبا ما سيطر فيها اللبس على
العقول، وبرع في حل التناقض المذهبي الذي كلما وقعنا في شركه أصبحنا أسيري الرؤى
الأحادية، ثم انتهى برسم حدود الفكر الفلسفي في التربية، والذي من الممكن تلخيصه
فيما أوعز به آلان: تعلموا التفكير أولا، بكل ما تحمله الكلمة من صرامة وغزارة،
وسيأتي الباقي تباعا. إنها طريقة لرفض الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر، إذن أنا موجود". بل إن روبول لم يستسلم، بل
أعلن أنه إذا كان: " التزامنا التقليدي، ذو النزعة الإنسانية، أمر يقيني، فإنه لا وجود
لفلسفة دون التزام. وللقارئ حق الإجابة على هذا".
لكن هل تكفي عمليتا تحليل المفاهيم، وترجيح
المتناقضات، الضروريتان بكل تأكيد في عالم تعرف فيه العلوم التربوية غموضا فكريا متشددا،
وذلك حتى تضع فلسفة التربية، عنوان الكتاب الذي صدر سنة 1989، نفسها في المسار
الصحيح؟ يجيب روبول، باعتباره أحد مريدي آلان النجباء، بالإيجاب.
إلا أن السؤال الكبير –الذي يجب طرحه أولا على آلان- يتلخص في معرفة ما إذا كان التعليم بالمعنى الاشتقاقي
للكلمة، أي من حيث اعتباره "إشارة" تجاه معرفة توافقية تتجاوز الاختلافات،
كاف للإحاطة بالظاهرة التربوية؟ ألا يتعلق الأمر، لدى روبول، بفلسفة ذات علاقة ب –ما فوق، وحول – التربية، التي تكتسب
أهميتها من حيث كون فعل التفكير لا يضر أبدا، على الرغم من أنها تتجنب الدخول في
صلب الموضوع، بل ويمكنها، أيضا، بناء عالم
يسمو إليه الفكر بعد تخليه عن ال"غشاء الجلدي"([1]).
المشكل الوحيد هنا يتمثل في كون المربي يتواجد في صراع مع الفكر الذي يتشكل بقلب
ال"غشاء الجلدي"، وأن انتماءه الفعلي إلى مدرسة المفكرين، مشروط بحسمه،
بشكل أو بآخر، في المتناقضات المذهبية التي لها علاقة بالفعل: رغبة أم إجبار؟
تلقائية أم نقل؟ استمرارية أم قطيعة؟....
لقد كان بإمكان حوار التربية والفلسفة،
الذي واكب عمل وفكر روبول، أن يتركز على
تلك الإحالة إلى المجال القدسي التي شكلت الصياغة النهائية التي انتهى إليها مؤلَّف
سنة 1989. فإذا كانت تربية الطفل، كمثيلتها الخاصة بالنوع الإنساني، هي في العمق "تربية
للقدسي" –منسجمين في هذا "مع التقليد الفلسفي الذي يمثله كل من كونت،
دوركهايم وألان": أي
باعتبارها تربية متطهرة من "قدسية السلف"-، فبإمكانها التساؤل حول ما
إذا كانت المشكلة المطروحة في التربية ومن
طرفها قد سبق حلها، وحول ما إذا كانت وضعية المقدس كما تم استيعابها لا تزدري
الواقع المبتذل المستنجد هو الآخر بالمقدس، ولا تزدري
"فجور (هذا) العالم الذي يتحتم على المربي بالتحديد الإمساك به([2]).
ليست المسألة تماما مسألة وجود مقدس على الرغم من النزاعات المادية التي تحاصر
الإنسان، وإنما مسألة اختراق هذا المقدس، في عالم تفرض فيه كل من الروحانية والمادية نفسيهما. فإذا ما
تحقق المعنى في موضع ما، في الفكر، في الإله، في المادة المبجلة،
فأي معنى يبقى بعد ذلك للتربية؟ إنها لن تأخذ معناها إلا في عالمٍ المعنى فيه غير
بديهي تماما([3]).
هكذا إذن تم طرح مسألة وضعية الخطاب
الفلسفي" الإنساني والتقليدي" في التربية: وستكون لنا مناسبة للعودة إليه.
المصدر
·
نص مأخوذ من:La pédagogie
aujourd’hui, sous la direction G. Avanzini, Dumond, coll. Savoir enseigner .
PP : 98-115
الهوامش
[1]- "نقصد بفعل التعليم، أن نحترم
أولا في الإنسان ما يجعل منه إنسانا، وليس آلة لردود الأفعال وللنزوات؛ التعرف
لديه عن ما فيه من نور يجعل من كل الناس، وقت يفكرون، "زملاء دراسة عند ذات
المعلم"؛ أن نقبل في النهاية بهذا النور من حيث أنه اللغز العميق لدى كل
إنسان على حدة، الذي لا يمكن لأحد، بما فيهم ذات الإنسان نفسه، أن يغيره أو
يفهمه". ضمن أو. روبول O.Reboul, 1989, ص : 179
[2] - بالإمكان مقابلة
هذا بالتحليل الذي قام به ايريك وايل E.Weil
لمطلب المقدس في المجتمع الحديث الذي انخرط في صراع مع الطبيعة والذي هو "من
حيث المبدأ رياضي، مادي وميكانيكي" (" الفلسفة السياسية"،
فران Vrin، 1956، ص 62 وما يليها). أتذكر أيضا مؤاخذة باستالوتزي على ذوي
النزعة الإنسانية المشهورين، الذين قدموا له تكوينا جيدا بكارولينوم في زيوريخ، لكن دون أن يزودوه بوسائل عمل
تطبيقية تناسب العالم الجديد الذي بدأ ينشأ (انظر كتاب "باستالوتزي
" ضمن مجموعة "بيداغوجيون وبيداغوجيات " P.U.F. النص الأول).
[3] - أستعير هنا بكل
سرور قولة قوية لمارتان بوبر Martin Buber
ضمن كتابه مقالات حول التربية (Reden ùber die Erzichung) ,Heidelberg , 1956 ص : 46-47 ): السؤال المطروح بإلحاح بشكل متواصل هو : ما الهدف، ولماذا يجب أن نربي؟
سؤال يتجاهل (أو ينكر) الوضعية. وحدها العصور التي عرفت عموما شخصية وازنة –
مسيحية، أو أرستقراطية أو مواطنة- قادرة على
الجواب على هذا السؤال، دون أن يكون الجواب بالضرورة كتابيا، إذ أنه يسطع فوق
الرؤوس و تشير إليه السبابة. جعل هذه الشخصية
نموذجا لكل الأفراد، اعتمادا على كل المواد الممكنة، هو ما نسميه
ال"تكوين"(Bildung) .لكن ما الذي يبقى قابلا للتكوين حين تتحطم كل الوجوه، و لا
يقدر أي منها أن يفرض نفسه وأن يعطي شكلا للمادة الإنسانية الحالية!... ليس هناك، ولم يكن هناك أبدا،
معيارا متينا للتربية. المعيار المقصود هنا
ليس سوى معيار ثقافة، أو مجتمع، أو كنيسة، أو عصر، كانت التربية بدورها تخضع له،
كما هو حال كل حركة أو كل فعل عقلي ارتبط به [المعيار]، وعبر عنه في لغته. و
الواقع
أن التربية لا تتمتع باستقلاليتها الخاصة ضمن عالم تم
تكوينه؛ بل إن وجودها رهين بعالم فقد هيئته. ففي التربية ذاتها تتولد المسؤولية الشخصية، في انهيار العلاقات الموروثة،
وفي خضم الإعصار الدائر لحريتها؛ مسؤولية لا يمكنها في نهاية التحليل أن تعتمد،
حين يتعلق الأمر بتحمل عبء القرار، على أية كنيسة, ولا مجتمع ولا ثقافة...