أخر المقالات

التفلسف بالمدرسة الابتدائية (ج2)


                                                                          برنار جوليبر

Bernard Jolibert

رابط الجزء الأول من المقال: التفلسف بالمدرسة الابتدائية (ج1)  


الفلسفة و«رؤية العالم»

لنبدأ، فيما يتعلق بالمضمون، بالتمييز بين الفلسفة والتصور العام للعالم لأن في التباسهما يكمن الغموض في المقام الأول. إنْ كانت كل فلسفة مبنية هي تمثُّل للعالم (Weltanschauung)، فكل تمثُّل للعالم ليس بفلسفة. فالفنون، والعلوم، والديانات، والعقليات العاطفية، والتقنيات، والثقافات المتنوعة تنشر تصوراتٍ عن العالم التي ليست على أية حال فلسفات و، بكل بساطة، ليست حتى فلسفية([i]). ينطبق الشيء نفسه على ما يسمى ب«الحوارات» التي، بعيدا عن الاتقان للجدل السقراطي، تتحول عمليا إلى مناقشات ملتبسة دون جدية حقيقية. فإن كان التأمل الفلسفي جزءا من الثقافة، فكل ما هو ثقافي ليس بالضرورة فلسفيا. وليس لأن كل كائن بشري يحاول، البارحة كما اليوم، طفلا كما الراشد، أن «يعطي معنى لحياته» فهو منغمس في الفلسفة. فهناك توجهات وجودية جذرية غير فلسفية، وأخريات معادية بجلاء للفلسفة. ومن غير الكافي أن نقارن مفتشية التربية الوطنية، المؤيدة إلى حد ما لهذه الممارسات الجديدة، بالمفتشيةَ العامة للفلسفة، التي تبدي تحفظا، لجعل هذه الأخيرة هي الحصن الأخير للمحافظة على التقاليد النخبوية ومن الأولى حاملة لواء الحداثة الديموقراطية.

النصوص الرسمية واضحة تماما بهذا الصدد: لا يتعلق الأمر ب«التفلسف» مع الأطفال وإنما فتح الطريق أمامهم، من خلال «نقاش مبني على حجج»، بشكل متقن لاكتشاف واستعمال مفاهيم أخلاقية صالحة اجتماعيا لمتطلبات العيش سوية، وسلوكات مقبولة أخلاقيا، ونماذج أيديولوجية مُسهلة للحياة الديموقراطية التي يلاحظ المشرِّع أنها يُساء التعامل معها في هذه الأوقات. الشكل الحجاجي، وحتى الجدالي، لا يسمح بالحكم مسبقا على الوجه الفلسفي للتبادل. لتحقيق هذا الهدف الأخير، يجب على كل واحد توضيح الأسس المنطقية، والنفسية، والاجتماعية، والإيديولوجية لحججه الخاصة. فن الإقناع، والتبرير، وتوليف التوافقات، الصالحة في السياسة كما في الحياة اليومية، أمور لا علاقة لها بمتطلبات التأمل الفلسفي التي، فيما وراء التبادل الحواري، تستهدف إصلاحا أخلاقيا داخليا. إنْ كانت الفلسفة تستطيع اتخاذ شكل تبادل حواري، فهي أيضا، وربما على الخصوص، «تأمل يهدف بشكل وثيق تنمية الذات من خلال البحث عن الحقيقة([ii])».


موضوع مشابه: ما هو فعل التفلسف؟


من المؤكد أنه من مرغوب فيه الأخذ بعين الاعتبار القضايا الأخلاقية، والسياسية، والاجتماعية والوجدانية التي يتطارحها التلاميذ داخل المدرسة و، بذلك، من المشروع تحفيز قدرتهم على التساؤل وفقا لمتطلبات العقلانية، لكن لا يجب أن ننسى أن إثارة انتباه التلاميذ للاستعمال التدريجي للعقل لا يقتصر على لحظة معينة من الأنشطة المدرسية أو على مادة معينة، وإنما من الواجب أن يكون حاضرا في كل مكان، في تعلم اللغة، والرياضيات، كما في إيقاظ الحساسية، ولا يجب الخلط بين النقاش العام الموجه أخلاقيا نحو الاندماج الاجتماعي وبين التأمل الفلسفي الذي يهدف إلى الفهم التأملي للحقيقة.

النقاشات المتعلقة بالآراء التي تتمثل أهدافها البيداغوجية في تبادل الآراء، والتمكن من اللغة، والاحترام المتبادل أو الاهتمام بالمثاقفة لها بذلك نية مختلفة تماما عن الغرض من الحوارات الفلسفية. هذه الأهداف هي في حد ذاتها متعارضة. فالنقاش المدرسي يسعى إلى تحقيق السلم الاجتماعي، أما الحوار الفلسفي فيستهدف الحقيقة، حتى وإن أدت إلى حدوث مأزق، سواء أكان معاديا للمجتمع، لا أخلاقيا، مضادا لما هو مدرسي، فوضويا، بل وحتى مضادا للفلسفة. لم تعد الفلسفة في خدمة البيداغوجية المؤسساتية بقدر ما هي بالضرورة في خدمة مُثل اجتماعي محدد، حتى ولو كان ديموقراطيا. فالهدف الوحيد للحوار الفلسفي هو الحقيقة. لقد أوضح برونو بارثيلمي Bruno Barthelmé بشكل بارع أن اختزال الممارسة الفلسفية المدرسية في تبادل حواري، حتى الذي دار منه بشكل جيد، يعنى استبعاد كل المؤلفين الذين يقترحون طرحا مذهبيا لنظريتهم عن الفلسفة([iii]). إنِ اختار أفلاطون الطريقة الحوارية لتقديم المقاربة السقراطية وأنه انتهى في غالب الأحيان إلى منغلقات، فإنه لم ينكر الأمل في إمكانية وجود حقيقة. ليست المعضلة المنطقية aporie نفيا للحقيقة، وإنما هي اعتراف أجوف، بتأكيده الأكثر جذرية، وطرحٍ لمبدأ «تقريب الحقيقة»، كما قام بذلك هيوم، إنه الخروج من الإطار الضيق للنسبية المطلقة والتأكيد على مذهب يفترض ضمنيا الإشارة إلى فكرة الحقيقة.

قائمة الآراء التي نوقشت بشكل أكثر أو أقل وضوحا، بل ورُتبت بشكل عضوي من خلال تدخل المعلم، لا تشكل بالضرورة فكرا فلسفيا. لكي يمكن لنشاط فكري أن يُصنف فلسفيٌّ، سواء في عالم المدرسة أو في أي مكان على أية حال، لابد من توفر عدد من الشروط. التمكن من اللغة الشفهية، والتربية على التمدن والتربية على المواطنة بفعل «حوارٍ منظم» يعني بالتأكيد «أخلاقا تواصلية([iv])» لكنها لا تسمح بالضرورة بتعميقها بشكل مدروس. على هذا المستوى، لا نزال أمام الأخلاق الأقل اعتراضا للنقد، لأنها مسألة الغرس المتقن للقيم وللمسلكيات المرغوبة اجتماعيا لا الحكم على ملاءمتها أو قيمتها. نحن لم نصل بعد إلى الأخلاق، باعتبارها أقصى مستويات التفكير الأخلاقي النقدي حيث نتساءل عن كل القيم الأخلاقية، بما فيها تلك التي تتحمل المدرسة مسؤولية نقلها، لمحاولة الكشف عن أسسها وقيمتها القصوى حتى يتم، بطبيعة الحال، اقتراح ال«انقلاب» الذي رغب فيه نيتشه.


موضوع مشابه: زمن الطفولة


إن استطعنا مقارنة المهام العامة، النبيلة والسخية، للمدرسة بالمتطلبات المفترض كونها ضيقة وقابلة للانقسام إلى تخصصات الجامعية، فإن إمكانية قبول الأولى مرتبطة بصلاحية الثانية. ما إن تكن هذه المتطلبات التخصصية غير محتفظ بها ولا محترمة، حتى تصبح المواد نفسها، التي يحب أنصار تدريس الفلسفة بالمدرسة الابتدائية الدفاع عنها، تجازف بأن تذوب في اللغط والتناقض. إن النشاط الفلسفي، باعتباره تأمليا، يفترض تشكُّل معارف يتأسس عليها التفكير والأدوات النحوية والبلاغية التي تسمح بالعودة إلى الذات. إن استثنينا المعرفة السابقة، فإنه لا يتم التفكير في هذه الأسس الشائعة التي تسمح المدرسةُ باكتسابها، والمصنفة بحق بكونها أولية من حيث أنها تقدم للتلاميذ عناصر المعارف النظرية المستقبلية والتفكير النقدي المستقبلي. ويبين ثيودور ليت Theodor Litt أن «التفكير التأملي»، الفلسفي منه بشكل خالص، عليه أن يبدأ بالاعتماد على «فكر موضوعي» أول للعالم([v]). في غياب هذه المقاربة الأولى، قد لا يكون ما نسميه فلسفة سوى لغو محض. كما أن الفكر الفلسفي هو أيضا نشاط نقدي ينطوي على احترام الحد الأدنى من القواعد المنطقية والقدرة على التجريد المعياري. ويريد، في الأخير، أن يكون عقلانيا، أي كونيا في مرماه ويوجهه الاهتمام بالحقيقة وحدها، وليس ببعض المصالح الظرفية، أو بعض الفوائد البيداغوجية، أو الاجتماعية أو السياسية.

وليس الموضوع الذي يُتناول هو ما يشعرنا أننا إزاء الفلسفة بل طريقة معالجته. فالكثير من المتخصصين والذين ليسوا فلاسفة يتحدثون عن الموت والمواطنة، إن تمسكنا بهذيْن المثالين. لكن هناك طريقة فلسفية لمعالجة لهذه المواضيع لا يتناولها بها لا المشرفين على الجنائز ولا معتنقي الديانات ولا المرشحين للانتخابات. الطريقة التي تفلسف بها ميلابرانش Malebranche حول «المسمار الدوار pas de vis»، باعتبارها استعارةٌ ما قبل ديالكتيكية للزهد الروحي بعدما أصبحت شائعة، هي عكس الطريقة التي جعل بها ديكارت من «قطعة الشمع» الأداة النموذجية لنقد الإيمان العفوي في الحقيقة الحسية. التفاهة الواضحة للموضوع المعالَج أو للنموذج المختار لا يشكل بأي حال من الأحوال عائقا أمام لتفكير النقدي. إن الطريقة الجذرية لمساءلة الحقيقة هي التي تصنع الفيلسوف، وإنْ واجه الفلاسفة صعوبة في التفاهم بينهم حول ما يمكن أن تعنيه الفلسفة، فلايزال من الممكن الإمساك ببعض الخطوات الأساسية المشتركة التي تميز السمات المحددة لهذا التخصص. الذين يدعون فعل ذلك عليهم البدء بسؤال أنفسهم عما يمكن أن يشكله فعل التفلسف بالضبط. 

ضع ملاحظاتك في خانة التعليقات أسفله👇👇

  اقرأ أيضا: مدرس الفلسفة فيلسوف؟





المرجع

Revue philosophique de la France et de l'étranger 2015/3 (Tome 140), pages 291 à 306. Éditions Presses Universitaires de France

الهوامش

[i]- Bernard Jolibert, « Philosophie et représentation du monde, à propos d’un emploi affaibli du mot philosophie », in Le Philosophoire, 2013, n° 40, p. 26.

[ii] -  Pierre Hadot, Qu’est-ce que la philosophie antique ?, Paris, Gallimard, 1995, p. 27.

[iii]- Bruno Barthelmé, « La philosophie à l’école primaire ? », in Jean Lombard (dir.), L’École et la Philosophie, Paris, L’Harmattan, 2005, pp. 157 sq.

[iv] - Christophe Marsollier, La Philosophie à l’école, op. cit., p. 49.

[v] -  Theodor Litt, Introduction à la philosophie, Lausanne, L’Âge d’Homme, 1983, pp. 13 sq.


نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-