أخر المقالات

الفلسفة والتربية





خصص ا.فانزيني، سنة 1975، فصلا للحديث عن علاقة الفلسفة بالعلوم الإنسانية، حيث جعل منها علاقة « صراعات وشكوك »، وبيّن أن الحاجة للفلسفة كانت بقدر عجز «علوم التربية» البنيوي على أن توليها مكانة خارج  إطار إبستيمولوجيا الوضعية الجديدة التي تسعى إلى تبرير وجود تلك العلوم بالاستناد فقط على  الإجراء العلمي وحده . وقد لاحظ، بذكاء كبير، أن غياب المصطلح الدال على هذه المعرفة « الما-بعد علوم التربية » يشهد على الصعوبات الكبيرة، وعدم القابلية الشبه التامة لحل المشكل كما هو مطروح، بل إن صعوبة البحث التربوي نفسه تجسيد لاستمرار  المشكل. لكن ماذا وقع بعد مرور عشرين سنة على هذا القول؟ إذا كانت القاعدة المؤسساتية لعلوم التربية قد ترسخت، وإذا  لم يعد مقبولا أن تشطب الوزارة عليها من ضمن لائحة المعارف الجامعية، وبغض النظر عن كل النزاعات الممكن خلقها لها، فالسؤال الجوهري الذي وضعه أفانزيني لا يزال مطروحا. ففي إطار التحول العميق الذي تعرفه البنية السوسيو-ثقافية الفرنسية، أصبحت الدعوة إلى التفكير في المعنى داخل الحقل التربوي أكثر إلحاحا من نقل مكتسبات العلوم الإنسانية و الاجتماعية  والنفسية إلى المجال البيداغوجي الذي ظلت آثاره على التجديد بعيدة عما كان مأمولا فيه، بل، على العكس من ذلك، كان ذاك النقل سببا في شيوع جو من الغموض والخيبة، في الوقت الذي ظلت فيه ال « فلسفة الفرنسية »، في الطرف الآخر، تصب جام غضبها على معرفة تعتبرها مغتصبة. ترى، هل ستكون لدينا الجرأة على المراهنة على الأزمة التي تعيشها، ببلادنا، العلوم الاجتماعية والفلسفة على حد سواء، لجعل فعل التفكير في التربية يتقدم؟ قد لا يكون الرهان متهورا إلى حد كبير: لنعمل على بلورته.


 العودة الكبرى   


تشتهر فرنسا بذكرى 14 يوليوز، لكن من الممكن أن تشتهر أيضا بكونها مجتمعا محافظا وأكثر إثارة لمصالحه: إنه ضحية التحولات التي تقوده، طوعا أو كرها، نحو مصيره المحتوم، أي نحو مجتمع الحريات. لابد أن نتفق على أننا لا نعني بذلك مجتمعا يحمل صورة مجردة عن الحرية، والمساواة و الأخوة، وإنما مجتمع يعطي للأفراد الذين ساهموا فعلا في تكونه  وسائل تحقيق هذه الأفكار الديمقراطية المثلى. من بين هذه الوسائل نذكر التربية التي، باعتبارها تكوين للإنسان، أصبحت من دون شك الأكثر فعالية، علما أن الجواب عن الأسئلة المطروحة لا يمكن أن يأتي من « الفكر الشمولي » وإنما من المبادرة والقدرات التي يضطلع بها كل فرد كي يثير فيه و حوله هذه الأجوبة. لقد أصبح مجتمعنا، أردنا أم كرهنا، مجتمعا تربويا: فرجل السياسة المطلوب منه النجاح سيصبح الرجل الذي يثبت، إلى جانب برامجه و وعوده، أنه « رجل التربية الأفضل».
غير أن هذا الأمر تطلب حدوث هزات عنيفة قبل الاقتناع به. فكانت أولا الصدمة الثقافية التي تميزت بأحداث ماي 68 والتي كان من أهم نتائجها تكسير النموذج التربوي الجمهوري، المبني على النزعة الإنسانية للدولة، والذي، رغم استحقاقاته التاريخية المعترف بها للمدرسة، لوحظ عليه، في نهاية المطاف، أنه كان إلى« إعادة الإنتاج » و« المحافظة»على المجتمع أقرب منه إلى «تطوير»ه: إذ منذ ذلك الحين لم يندمل الجرح الذي انفتح في حضن المجتمع الفرنسي، وفي دعامته الأساسية الأكثر قيمة المتمثلة في نظامه التربوي. جرح لا يزال يسيل باستمرارِ تحلّل النسيج الاجتماعي، سواء من الداخل عبر المطالب القطاعية المتضاعفة وهزم أجهزة الضبط الكبرى، أو في إطار المبادلات الأوروبية والعالمية التي يتعذر ضمانها لأي بلد كان للظهور بوجه متميز. إنضاف إلى هذا انهيار نموذج الدولة المستورد من الشرق، الذي شكّل، بشكل مباشر أو غير مباشر، مرجعا لنخبتنا المثقفة إما بالتقليد أو كرد للفعل، بينما عمل رجال العلم النبهاء، بشكل مواز، على هدم أسطورة الثورة الفرنسية الحامية لكل الخيرات. تابع النظام التعليمي اندحاره، ثم فقد معناه، إلى درجة أن كل من آمن وافتخر به ابتعد عنه، وأن شريحة واسعة من الشباب وجدوا الفرصة سانحة للتخلي عنه طواعية عبر الغياب، أو اللامبالاة، وبكلمة واحدة: عدم الثقة في المدرسة.
كان أمل « علوم التربية »، بعد تأسيسها عام 1967 ضمن حركة اليوتوبية الاجتماعية، معايشةُ لحظات ميلاد المجتمع الجديد. لقد استطاعت هذه العلوم بالفعل أن تشق لها موقعا في ظل وضعية سياسة صعبة، وكان بإمكان الموجة الإصلاحية، في خضمها، أن تعصف بتلك العلوم في أية لحظة. لا أحد ينكر أنها قد ساهمت في التحول الاجتماعي الكبير، وأنها قدمت « مناضلين بيداغوجيين » من كل جنس، كأدوات نقدية ووسائل للإبداع : إذ أن ميل« المحافظين » للثأر من هذه العلوم كان كافيا للبرهنة على أن معنى «المعرفة الجديدة» يتمثل في ذاك التحول ذاته. فبعد احتضانها لطروحات وموحيات التربية التي اعتقدت معه، بداية هذا القرن، في الثورة البيداغوجية، تبنت علوم التربية، رأسا، مشروع تحول اجتماعي واسع، الفاعل الأساسي فيه هي المدرسة، وشرعت توا في الاشتغال في هذا الاتجاه بشجاعة ملفتة. لقد كان دخول المعرفة التربوية الجامعة سنة 1967 حدثا مميزا، قدم لها، دفعة واحدة، مجالا للإنعتاق ساعدها على بلورة كل استيـهامـاتها اليافعة، بل -لم لا؟ - مدعوة أخيرا بكل آمال تربية معينة، في استقلالية الراشد، إلى أن تستوعب ذاتها بعيدا عن كل تعريف تمليه دولة أو كنيسة.
في هذا السياق النضالي لعلوم التربية لم يتعلق الأمر بمسألة فلسفية و لم يكن ليكون الأمر كذلك؛ كانت فلسفة التربية تتمثل، على وجه التحديد، في هذه المعرفة النامية، التي تتأسس في خضم النقد الاجتماعي، وتنتقد ذاتها إبان البناء الاجتماعي. إنها علم إنساني مناضل، ممارسة صادمة، كان للتأثير الكبير لكل من ماركس، نتشه، فوكو والفلسفة النقدية، يد في معايشتها للحركة الاجتماعية الكبرى.
ثم كانت العودة الكبرى. عودة مجتمع حريص على استرجاع صفاته المميزة، يتحدث من جديد عن ال«خُلق» و«القيم»، ويجد نفسه على حين غرة، بعد الكثير مما قيل في معنى المدرسة، يطالب أن يكتسب التلميذ التعلّمات الأكثر أولوية اكتسابا جيدا. عودة شكلت اندحارا لنموذج مجتمعي راهَن، أيضا، على الجمع بين الحرية، الانضباط والسعادة، وانتهى، بعد رفع الحجاب، بالكشف عن تجمهر مخيف للمصالح. لقد عانى المجال السياسي مما تراكم حوله من شكوك، وزادت موجة عدم الثقة من إضعافه. عودة ورجوع للحِكَم الداخلية   في هذا الخضم وجدت ال« علوم الاجتماعية » نفسها في وضعية مهتزة، فتراجعت بحكمة عن مجال الماكروسوسيولوجية، التي تكبلها الإيديولوجية، لتوجه اهتمامها بشكل خاص لمهام ميكروسوسيولوجية تغرف من ينابيع  ال « واقعية ». وهكذا، بفضل التأثير المتواصل لعلم الاجتماع النقدي، ثم للواقعية السوسيولوجية، أمكن للمجتمع الفرنسي أن يتخلص من « الدوركايمية » (وفي هذا، علاوة على ذلك، خدمة كبيرة للمنهج الذي وضعه أبو سوسيولوجيتنا [الفرنسية] ). ومنذ ذلك الحين وفي خضم بحثها عن نموذج إيبستيمولوجي قادر على جمع شتات أعضائها، لم يعد بإمكان علوم التربية إطلاقاً الاقتناع بإطار معرفي اجتماعي يمثل في نفس الآن علما وضعيا للواقعة (اجتماعيا بالأساس) وفلسفة للمعنى (اجتماعية بالأساس).
لقد أصبح من اللازم إذن البحث في موضوع آخر. عندها شُرع في الحديث عن «طلب  للمعنى»، و«عودة القيم» بل وأيضا عن « فلسفة التربية»، وذلك في إطار البحث، والحق يقال، عن طريقة سحرية لحل وضعية متأزمة، عوض الاقتناع و، بدرجة أقل، عن وجود إرادة مؤسساتية لخلق مناصب تسد هذه الحاجيات الجديدة: معلوم، ومنذ أفلاطون، انه حين تكون المدينة في حالة تشتت، فالخيار الوحيد الذي يظل قائما هو بين الفيلسوف المتوجه نحو الكوني والسفسطائي الممارس دون مركب نقص لعبة المصالح؛ والواقع، والحالة هذه، أن جهودا تبذل لإسكات سقراط حماية للمصالح الخاصة. وتزيد المسألة تعقيدا حين نعلم  أن الفكر الفرنسي لا يتوفر على تراث مرتبط بفلسفة التربية، بخلاف الفكر الألماني مع هربارت Herbart والإيطالي مع دجانتيل Gentile: إذ أن الإصلاح المرتجل الذي تقوم به حاليا مؤسساتنا المختصة في علوم التربية، يجد تفسيره أيضا في إحجام ال"فلسفة الفرنسية" عن القيام بدورها في الوقت المناسب، وأن صوت كوندورسيه ِCondorcet قد طوقه، بشكل واسع، صخب المؤامرات السياسية. علاوة على هذا، فإن الفلاسفة ذوي الصفة كانوا وسيظلون، من قلب الجامعة الفرنسية إلى أعلى هرم الدولة، أشد أعداء ال» معرفة التربوية « الحديثة صلابة، معلقين أن بها مزيجا مشكوكا فيه بين فكر –»شبه فلسفي« - حول المعنى، وتحليل –» شبه علمي«- للواقعة الإنسانية، من شأنه أن يلحق إساءة كبيرة لتلك ال" شمولية universités " في المعرفة التي حملوا شعلتها لمدة طويلة (والحال أن مجدهم قد انتهى). ثم علينا في الأخير، الآن ومستقبلا، أن لا نغفل تردد المربي الممارس الشبه الكلي في إبراز الوضعيـات والتحاليل ذات الصلة ب"علـم الأداء praxéologique ", وذلك، فقط، بغرض إيجاد حل مستند على التفكير النظري الصرف. غير أنه، هو الآخر، معذور تماما، مادام أن لا أحد كلمه في هذا الآمر. الوضعية راجعة بالتحديد إلى... تقليد خاص بفلسفة التربية.
أمام مطلب التفكير في المعنى في التربية، جربت محاولات عديدة، سيكون من المفيد تقديمها وتقييمها الآن.


الفلسفة الفرنسية و التربية


تعرف ال"فلسفة الفرنسية" بميلها إلى النزعة الإنسانية الفكرية الضاربة في التاريخ: فهي لا تحب، ولا أحبت أبدا الصخب الممنهج لمثيلتها الألمانية، ولا امبريقية الفكر الإنجليزي المنفلتة دوما. إنها فلسفة عقلانية من حيث المبدأ، اجتماعية من حيث الطبع، ممزوجة بنفحة روحانية مقبولة، علمانية دون أن تكون داعية للعلمانية laïciste، وضعية دون أن تكون داعية لها positiviste، مستمرة في الحفاظ على "فكر إنساني" يصاحب ارتجاجات مجتمعنا العاجز عن الاستقرار، وذلك على الرغم من كل أسئلتها النقدية. من بين أعلام هذه ال"فلسفة الفرنسية" نجد أوليفيي روبول Olivier Reboul، الذي كان وسيظل، من خلال مؤلفاته، الفيلسوف الأكثر دقة وبراعة. و سيبقى على الخصوص، بالنسبة لهؤلاء المهتمين بالتربية، مؤلف الكتب التي نسميها عن طواعية بال"مُفضلة". فبعد أطروحته حول ألان  Alain، ثم دراساته حول كانط و نيتشه، نشر سنة 1989 كتيبه "فلسفة التربية" الذي أصبح أحد دعامات مكتبة المربي المجرب، والذي يعتبر عصارة تأملاته في التربية من خلال  اللغة.
لقد استطاع أوليفيي روبول، في لغة رصينة، أن يكون متميزا في تناوله مواضيع سيطر غالبا ما سيطر فيها اللبس على العقول، وبرع في حل التناقض المذهبي الذي كلما وقعنا في شركه أصبحنا أسيري الرؤى الأحادية، ثم انتهى برسم حدود الفكر الفلسفي في التربية، والذي من الممكن تلخيصه فيما أوعز به آلان: تعلموا التفكير أولا، بكل ما تحمله الكلمة من صرامة وغزارة، وسيأتي الباقي تباعا. إنها طريقة لرفض الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر، إذن أنا موجود". بل إن روبول لم يستسلم، بل أعلن أنه إذا كان: " التزامنا التقليدي، ذو النزعة الإنسانية، أمر يقيني، فإنه لا وجود لفلسفة دون التزام. وللقارئ حق الإجابة على هذا".
لكن هل تكفي عمليتا تحليل المفاهيم، وترجيح المتناقضات، الضروريتان بكل تأكيد في عالم تعرف فيه العلوم التربوية غموضا فكريا متشددا، وذلك حتى تضع فلسفة التربية، عنوان الكتاب الذي صدر سنة 1989، نفسها في المسار الصحيح؟ يجيب روبول، باعتباره أحد مريدي آلان النجباء، بالإيجاب. إلا أن السؤال الكبير –الذي يجب طرحه أولا على آلان-  يتلخص في معرفة ما إذا كان التعليم بالمعنى الاشتقاقي للكلمة، أي من حيث اعتباره "إشارة" تجاه معرفة توافقية تتجاوز الاختلافات، كاف للإحاطة بالظاهرة التربوية؟ ألا يتعلق الأمر، لدى روبول، بفلسفة ذات  علاقة ب –ما فوق، وحول – التربية، التي تكتسب أهميتها من حيث كون فعل التفكير لا يضر أبدا، على الرغم من أنها تتجنب الدخول في صلب  الموضوع، بل ويمكنها، أيضا، بناء عالم يسمو إليه الفكر بعد تخليه عن ال"غشاء الجلدي"([1]). المشكل الوحيد هنا يتمثل في كون المربي يتواجد في صراع مع الفكر الذي يتشكل بقلب ال"غشاء الجلدي"، وأن انتماءه الفعلي إلى مدرسة المفكرين، مشروط بحسمه، بشكل أو بآخر، في المتناقضات المذهبية التي لها علاقة بالفعل: رغبة أم إجبار؟ تلقائية أم نقل؟ استمرارية أم قطيعة؟....
لقد كان بإمكان حوار التربية والفلسفة، الذي واكب عمل وفكر روبول، أن  يتركز على تلك الإحالة إلى المجال القدسي التي شكلت الصياغة النهائية التي انتهى إليها مؤلَّف سنة 1989. فإذا كانت تربية الطفل، كمثيلتها الخاصة بالنوع الإنساني، هي في العمق "تربية للقدسي" –منسجمين في هذا "مع  التقليد الفلسفي الذي يمثله كل من كونت، دوركهايم وألان": أي باعتبارها تربية متطهرة من "قدسية السلف"-، فبإمكانها التساؤل حول ما إذا كانت  المشكلة المطروحة في التربية ومن طرفها قد سبق حلها، وحول ما إذا كانت وضعية المقدس كما تم استيعابها لا تزدري الواقع المبتذل المستنجد هو الآخر  بالمقدس، ولا تزدري "فجور (هذا) العالم الذي يتحتم على المربي بالتحديد الإمساك به([2]). ليست المسألة تماما مسألة وجود مقدس على الرغم من النزاعات المادية التي تحاصر الإنسان، وإنما مسألة اختراق هذا المقدس، في عالم تفرض فيه كل من الروحانية والمادية نفسيهما. فإذا ما تحقق المعنى في موضع ما، في الفكر، في الإله، في المادة المبجلة، فأي معنى يبقى بعد ذلك للتربية؟ إنها لن تأخذ معناها إلا في عالمٍ المعنى فيه غير بديهي تماما([3]).
هكذا إذن تم طرح مسألة وضعية الخطاب الفلسفي" الإنساني والتقليدي" في التربية: وستكون لنا مناسبة للعودة إليه.

 


العلوم الإنسانية، التقدم الاجتماعي والتكوين


إضافة لما سبق ظهرت مجموعة كبيرة، غداة نشوء علوم التربية بفرنسا، قررت المراهنة كلية على العلوم الإنسانية، والتخلص، بالتالي، من الخطاب الفلسفي وادعائه الفكر الكوني. لم يكن هناك شك في أن لهم مبرراتهم المعقولة للقيام بهذا : فلقد شوهت إيديويوجية فلسفية بعينها في الماضي التربية؛ ومنذ ذلك الحين أصبح مطلوب من البيداغوجية أن تكون ذات نتائج وفعالة؛ و كان مجيء فوكو خلال السبعينات في وقته، حيث كشف، اعتمادا على دراسات تحليلية، قابلية العلوم الإنسانية لأن تكون في نفس الآن الميدان، والأداة، وأفق التحول الاجتماعي الحاصل.
ثمة إذن ارتياح لتعدد مقاربات الواقعة التربوية، التي تستثمرها مجموع العلوم الإنسانية، دون الاهتمام كثيرا بمعرفة ما إذا كان هناك مبدأ يوجهها. لقد جعل الفكر التأملي من نفسه زوبعة نقدية، بينما وجهت الدعوة للتربية قصد الإبحار في المصب الكبير للعلوم الإنسانية: إذ بفضل استمرار نوع من الإشعاع النقدي، ستكون له القدرة على تكوين معنى من ميادين عديدة. ثم ما الحاجة لطرح سؤال المعنى: إذ لم يتعلق الأمر في الواقع سوى بـممارسة " تصنيع معنى". وتحصيلا، فقد كانت المرجعيات الثقافية الحاضرة هنا هي: فوكو، موران، النيتشماركسية، والفكر المابعد-حداثي: إنها ريح العصر. لن نجازف بذكر أسماء إضافية مادام التيار، بحكم طبيعته، لا يزال متعدد الأشكال، مشتت و منفلت([4]).
هذه الوضعية –التي تعد، على الرغم من كل الحركات الالتوائية المتعددة المراجع، وضعية- تطرح أسئلة عدة .
بدءا هناك صعوبة الإمساك ب"وضعية التعدد". يتعلق الأمر بالرجل ممارس للعلم، إلا أن الانفتاح لن يتحقق ما لم يتم التخلي عن الحدود الايبيستمولوجية المرسومة لذاك الرجل بهدف بناء معرفته، وهي الحدود التي تضمن بشكل قطعي مثانة هذه المعرفة. مادام صحيحا أن العمل العلمي يتطلب، قبل كل شيء، زهدا في النظر، فإن خطورة "فكر تأملي متعدد" الذي يسهّل القفز والمرور من علم إنساني إلى آخر، تتمثل، بكل تأكيد، في فقدان العلم لكل معنى، والانتهاء إلى غموض ثقافي. وقد فهم المدافعون عن "نظرة التعدد" الصعوبة، فتشبثوا بفطنة ب "علم-أم"، يبوح باسمه أولا يبوح به، لكنه، في كل الحالات بدون استثناء، يوجه المقاربة المنهـجية لكل علـم من تلك العـلوم ([5]). عندها سيتحتم على كل خطوة أن تبرر مسلمة انطلاقها، بل كيف سيمكنها إذ ذاك الانفلات من استشراف رؤيتها، المحدودة حتما، في الاتجاه الذي يعتبر فيه الإنسان هذه الرؤية موجهة نحو هذا الاتجاه عوض ذاك؟ فالتفكير الفلسفي لم يخلق إلا على هذه الشاكلة، وذلك منذ أن لم يقتنع أفلاطون بتعدد مقاربات الفلاسفة phusikoi.
اللجوء إلى التكوين- ال"مستمر" منه على الخصوص- كبديل عن الفلسفة يطرح سؤالا آخر. العملية واضحة: نيسر لعملية التكوين أن تتضمن" معرفة تربوية" ف "تحقق" لنفسها معنى، لكن مع امتياز عن الفلسفة كون هذا المعنى لا يأتي من السماء، بل إنه" حاصل" لدى الإنسان، لدى كل واحد على حدة. المحاولة تستحق التمحيص، لكونها تطرح بالنسبة للفيلسوف مشكلة كبيرة مرتبطة بخطابه عن الكوني والداعي إلى الكونية، الذي يحجب في الواقع ما أنشئ من أجله بشكل مسبق والمتمثل في: الفرد موضوع التكوين وصيرورته المتميزة باستمرار. يمكن أولا التساؤل حول الفلسفات المتولدة عن التكوين المختار، كما قام بذلك ببراعة ميشل فابر Michel Fabre ضمن مؤلفه التكوين كموضوع للتفكير (1994). لكن يبقى مع ذلك السؤال الأساسي: أي شرعية ستكون لهذا المعنى الذي تحقق عندما يكون نتاج عملية تكوين؟ إذا كان التكوين يفترض مرونة في الطبيعة، وإذا كان من  المفترض أن الحرية هي في العمق من هذه الطبيعة، مما يحرم من حيث المبدأ كل إكراه، فمن الصعوبة عدم تسجيل أن المعنى الحاصل هو من طبيعة شرطية، أو على الأقل أن هناك نتيجة تم التوصل إليها عبر التكوين وبواسطة الطريقة التي اختارها المكون بشكل ذاتي ليقود فعله في هذا الاتجاه عوض اتجاه آخر. هنا توجد "حلقة تكوين" التي تطرح، ومن المفروض أن تطرح، مشكلة للبحث التربوي([6]).
نستنتج مما سبق أن كل خطوة تربوية هي عاجزة لوحدها عن استنباط قيمة للمعنى، وأنه من الضروري، دوما في إطار المعنى، التخلي عنها من أجل الارتقاء نحو أفق الـما يجب أن يكون، في قطيعة ابستمولوجية صريحة مع ما هو كائن ومع كل الأشكال الاجتماعية لفهم ما هو كائن. أفلاطون نفسه لم يتصرف بعكس ذلك حينما طلب إليه في عهده عقلنة المعنى فلسفيا.


الفلسفات و فلسفة التربية


الأمر بيّن: الذين يطعنون في الفلسفة ضمن بنياتهم الفكرية، لا يزالون يقومون به و باستمرار باسم مبدأ فلسفي. فالتعدد المقارباتي للواقعة التربوية يفترض أن الواقعة ليست إلا واقعة. لكن هل يمكن أن تكون هناك واقعة للواقعة؟ إمكانية وجود تعدد في الرؤى، بغض النظر عن حماس كل واحد في الدفاع عن أفضلية وجهة نظره، تبرز، على العكس من ذلك، أن مَكمْن الفهم يوجد بعيدا عن الواقعة. لماذا إذن لا يتم الذهاب إلى أقصى حدود هذه ال"أمكنة الأخرى" ؟...
الصعوبة تكمن في ايجاد الغطاء.
إن الفلسفة، ومنذ أن أخذت طريقها التاريخي، اقترحت عددا مهما من هذه الغطاءات. فهل يكفي أن نلصق بها التربية لننتج فلسفة للتربية؟ البعض يرى ذلك، و يجعلون فلسفة التربية تنتعل أحذية الفينومينولوجيا، أو الفلسفة التأويلية، أو الفلسفة التحليلية، أو الشخصانية، أو الماركسية أو غيرها. وبهذا ستكون لدينا فلسفات للتربية ([7]).
هنا أيضا يشكل التعدد مشكلة، حيث أن لكل فلسفته، بحسب ذوقه وتصوراته الثابتة... لكننا ننسى أن هذه الفلسفات قد ولدت وتستمر في الوجود بفضل السؤال السقراطي، وأنه كان سؤالا تربويا إلى حد كبير. أما الفلسفات التي نشأت ابتداءا من أفلاطون فلا قيمة لها إلا في علاقتها بهذا السؤال، مما يدفع إلى التساؤل حول ما إذا كان ترك هذا السؤال التربوي في جوهره هو في الحقيقة استنفاذ له في فلسفةٍ تاريخية أو أخرى، وبالتالي يؤدي السؤال إلى فقدان التحكم في معنى فعل التفكير الفلسفي؟ والحال أن المشكل الذي يظل قائما هو معرفة ما إذا كان من الممكن طرح السؤال، الذي كان سببا في نشوء الفلسفة، خارج الفلسفات التي تداولته عبر التاريخ، ابتداء من الفلسفة الأفلاطونية. هذا غير ممكن بكل تأكيد، خصوصا وأننا لا نتوفر، على الأقل، على فلسفة لتربية أصيلة، والتي لن تكون سوى فلسفة للفعل السقراطي (لكن هل بإمكانها أن تتشكل دون أن تتحول بدورها إلى فلسفة تاريخية؟ ). في انتظار هذه اللحظة السعيدة، وإذا لم يكن ممكنا توفير الجهد بالمرور عبر الفلسفات القائمة، هل لا يزال هناك أمل للقيام بذلك، على الأقل، بكيفية غير دوغمائية، غير احتوائية، وبطريقة تترك الإحساس باستمرار السؤال السقراطي في الوجود وفي مساءلة ال"نظام": أن نتنبه دوما إلى أن تلك الفلسفات –أيا كانت- تحافظ، في منظورها إلى السؤال التربوي، على الطابع الأداتي الذي اضطلع به منذ البدء.
ما يبقى واجبا نقاشه الآن هو استعمال هذه الفلسفات من قبل بعض غير المتفلسفين، أو بعض الزملاء المتخصصين في علم من العلوم الإنسانية، و الذين يعانون بدورهم من مشكل المعنى، فيختلقون لأنفسهم "فلسفة جاهزة للأخذ"، اعتمادا على هذا المذهب الشائع أو ذاك. لن تكون مفاجأة أن نراهم يتوجهون برغبة إلى "الفلسفات التفسيرية" –الفينومينولوجيا، التأويلية و الفلسفة التحليلية- مادامت أنها تتميز بالجمع  بين تحليل الواقعة و"استخراج المعنى". حينها سنتوفر على "فلسفة للعلوم الإنسانية" تلائم تماما خطوات المنهج التربوي الذي يربط بوضوح بين الواقعة والمعنى. في المقام الأول لابد من نسيان أن القول الفلسفي ليس، ولم يكن ابدا "وليد هذا العالم". نعلم هذا منذ أفلاطون، الذي جعل من  بحث سقراط في هذا الشأن مبحثا، في مقابل المشروع السفسطائي الذي أراد أن يكون مرتبطا ارتباطا وثيقا بالواقعة الإنسانية: فالفلسفة لا تبدأ إلا في اللحظة التي تحدث فيها القطيعة مع المحسوس، مع الوقائع، مع الملاحظ و القابل للتجربة. بل إن أرسطو نفسه حين يؤاخذ على أستاذه (بل الأصح على ال"أفلاطونيين"، الذين تتفاوت درجة ولائهم له) كونه استبدل العالم الحسي بعالم عقلي، معتبرا الخسارة الكبرى لمردودية التطبيق، فإنه لم يتخل عن القطيعة المؤسِّسة للفلسفة. وغالبا ما ننسى أن فينومينولوجية هوسرل Husserl , وتأويلية كادامير Gadamer وشخصانية مونييه Mounier، لم تتأسس لتفصح عن ما هو كائن، بل لتقوم بعملية التأسيس، مما هو كائن بكل تأكيد (وكيف التفكير في غير ذلك؟) ،" لكن أيضا مما يتجاوز الكائن في جملته"، لباراديكم من "المفروض أن يؤسس لمعنى الإنسان في شموليته. جعل هذه التأملات ذات علاقة بتفسير مرتبط بظواهر هذا العالم، خيانة لجوهر فعل التفكير الفلسفي ذاته.
إلى هذا، من الممكن قياس الصعوبات التي تعترض "فلسفة للتربية"، تلك التي أقيمت بواسطة اختزال متناسب مع البعد المتعالي لقول الفيلسوف، وذلك بأخذ الفلسفة الشخصانية  كنموذج.
طبيعي جدا أن يتوجه المربون إلى هذه الفلسفة، إلى ما يحسون به من علاقة قرابة معها: ألا يرومون تطوير الفرد، بعيدا عن أبعاده البيولوجية، النفسية والاجتماعية، وفق أنموذج أمثل؟ هنا مكمن كل بيداغوجية فردانية، مفارقة، ممركزة على الطفل. غير أن المشكل ليس في اختيار هذه الفلسفة:  المشكل في ملاءمتها لرؤية المبحوث عنه في ومن طرف التربية. مسؤولية المربي هي بالضبط تعهده بتربية هذا الطفل الماثل أمامه في اتجاه تحققه كشخص، حيث من البديهي أن تتبوأ فكرة الشخص مكانة الصدارة في فعله. هنا يبرز السؤال المفتاح: هل لهذه الفكرة هذه المكانة انطلاقا من محتوى، ومن واقع انطولوجي يخص الشخص القادر على تأسيس "نزعة شخصانية"، سواء بالطبيعة أو بمساعدة ما فوق–طبيعية؟ من الضروري الإجابة بالنفي: ما سيقوم به الشخص بالنسبة لمربٍ مثلي هو" ما سيقوم به، في الواقع، الفرد نفسه" الماثل أمامي. فبالمراعاة إليه وبالمراعاة إلى ما يجب أن يصيره، والذي أجهله في الواقع، لا يمكن للشخصية إلا أن تكون واقعا صوريا محضا. نعم إن الأمر حقيقي إلى درجة أنني إذا طفقت، كمربي، أقول: " يجب أن يصير كذا أو كذا"، فإني أبخسه حقه في الاحترام في شخصه، معتبرا إياه وسيلة لتحقيق هدف حددته بطريقة أو بأخرى عوضا عنه ("لصالحه "، هذا بديهي!)، وليس كغاية تمكنه، بشكل أساسي، من التصرف في مصيره بحرية طبيعته. بل إنه غالبا ما يتطلب الأمر التوجس من أن يستغل مفكرون، بشكل مقصود طبعا، إشراقية فكرة الشخصية ليضاعفوا الخطابات حول هذه القيمة من أجل ترسيخ سلطتهم في الواقع...([8])
ما يهم، إذن، هو تسليط الضوء على وضعية فكرة الشخصية في التربية: ألا يتعلق الأمر في الغالب بـصوت ريح البطن flatus vocis، أو بقناع ( per-sona ) يحتمي وراءه المربي ليفعل ما يريد؟.... والنتيجة أن فعله، في غياب هذه الفكرة، يظل بدون معنى. ينبغي إذن منحه كل قوة الواجب-الوجود الصوري، والذي هو حقيقي في صوريته، لكنه فارغ من حيث المحتوى، كل المحتوى ما دام أنه يهم الكائنات الحقيقية، ويتصرف في النهاية كأمر خلقي في أفق فعل المربي. ستكون لنا إذ ذاك فرصة التعرف على كل خصائص الفكرة الكانطية([9]).
لا بد من الاتفاق على أن هذه المقاربة الصورية لـفكرة الشخصية لن تتحقق دون أن تطرح للممارس البيداغوجي مشكلة حقيقية. فهذا الأخير يرغب في امتلاك معيار يوجه فعله، ويساعد على تحديد ال"تلميذ الحسن" يمكّنه من التمييز بين ال"حَسن" وال"قبيح" في السلوكات التي يصادفها يوميا. ما الذي سيمْكنه أن يصنع بمعيار صوري صرف؟ إن المسألة التي تتطلب منه عناية خاصة هي : ما هي الضمانة الموضوعية التي أمتلكُها لأحكم على أن سلوكا "قبيحا" في ظاهره لن يسهل، بالنسبة وعكس الجميع،  نمو الطفل نحو مصلحته؟ فعلماء النفس لم يفتؤوا يرددون أن خرق القانون يلعب دورا حاسما في مرور الطفل إلى سن الرشد، وأن ليس هناك استقلالية دون إحداث قطيعة مع حالة اعتبرت إلى ذلك الحين خيرة من الناحية الاجتماعية. فهل يحق لي حينها أن أغامر باعتماد معيار سيجعلني أتخلص مما هو، في عمق الأشياء، خير بالنسبة للطفل، وذلك فقط لأني أراه قبيحا؟.... وإذن، كيف يمكنني أن أوجه فعلي كمربي؟... يتطلب هذا بالتأكيد الحرص على الإنتباه إلى الطبيعة وإلى حركتها، مع مراقبة اللحظة بالضبط التي يتخلى فيها الطفل عن الطبيعة ليأخذ طابعه الإنساني: إنها صورة كونية بكل تأكيد، تتحدد بمجموعة من المستلزمات الصريحة، إلا أنها صورة تظل مادتها واقعةَ كل فرد. فإذا ما تم الاتفاق أن ميزة الراشد تكمن في قدراته على الحكم، واتخاذ القرار والتصرف بمسؤولية، فإن المادة التي ستطبق عليها هذه القدرات تبقى خاضعة لشروط كل واحد على حدة وبالظروف التي جعلت منه ما هو عليه في الواقع: فالطفل المعاق سيحققها بخلاف الطفل الذي لم تشوه طبيعته، المزاج الانفعالي بخلاف المزاج النشيط، الحساسية الأنثوية بخلاف العقلانية الذكورية.... إذا كانت القيمة تتمثل في الشخصية، فما الفائدة، الغير المشكوك فيها مما قدمته ضمن محتوى ذي حساسية ينتج بالضرورة عن تقطيع اعتباطي لأمور "مرضية" وأخرى " غير مرضية "([10]).
إن الفلسفة التي تم تشكيلها – وهنا أخذنا مثال النزعة الشخصانية، وكان من الممكن أن تكون التأويلية أو الفينومينولوجية- تعاني إذن بالنسبة للتربية من ضعف خِلْقي: إنها تحاول أن تطوق الإنسان بحبل عقلانيةٍ كلية و اطلاقية، علما أن الجوهر الفعلي للتربية يكمن في تجاوز هذه العقلانية المعطاة إلى ما وراء كل إنسانية وكل نزعة إنسية، بحيث أنها بالأساس نافذة على اللانهائي([11]). لامراء في إمكانية الـ"فلسفات" الاستمرار في الحضور، من موقع متميز، في خضم الـ"معرفة التربوية" ( مادام أن هذه المعرفة لا ينحصر وجودها فقط في العلوم الإيجابية التربوية)، لكن لن تكون مفاجأة إذا ما اصطدمت هذه الفلسفات، في إطار تعددها، وتناقضاتها أيضا، بحاجز يسائل المربي: لم تم اختيار هذه الفلسفة دون غيرها؟
من هنا وجب التأكيد على أن فلسفة التربية مشروع مستحيل، وأن هناك عتبة واحدة فقط لا يتردد البعض أمام اختراقها.


هل من الممكن قيام فلسفة للتربية؟


من بين الذين احتقروا كل خطاب فلسفي عن التربية، نجد في الصدارة نانين شاربونيل Nanine Charbonnel التي تميزت بنفاذ رؤيتها، وشساعة معارفها وغزارة أعمالها، لكن أيضا بشجاعة موقفها الذي أثار حقد –جميع- هؤلاء الذين خدشت كرامتهم في ميدان "علوم التربية"، و التي قدمت مساهمة حاسمة في" الفكر التربوي"، انطلاقا من نقطة في كيانها الدفاعي. من الضروري قراءة شاربونيل، واكتساب الجرأة لمواجهة استفزازها .
لقد استرعى انتباهنا مؤلفها الأساسي من أجل نقد العقل التربوي الصادر سنة 1988، الذي سبقته دراسة حول رواية جوث Goethe ويلهالم مايستر Wilhelem Meister ، والتي يعتبر أنموذجا paradigme للرواية التربوية، وقد كانت الدراسة تحت عنوان ذي دلالة :"الفكر التربوي المستحيل" (دوفال Deval ,1987 )، شكلت تقديما للعمل الضخم المتمثل في أطروحتها للدكتوراة المنشورة في ثلاثة أجزاء تحت عنوان رئيسي: المهمة العمياء: مغامرات الرمزية، المهم أن تكون نقيا و فلسفة النموذج.
إن الأطروحة، المستوحاة مباشرة من كانط ونزعته النقدية، تعيد تناول وتحسم في إعمال الفكر فيما راهنت عليه فلسفة التربية الذي سبق بلورته. فالبديل الوحيد الممكن بالنسبة لشاربوني يكمن إما في أن تقوم بمحاولات ترقيعية في مجال التطبيق، أو أن تستغرق في مطمحها الأحمق إلى أن تصبح خطابا ميتافيزيقيا حول الوجوب- الكينونة، والذي يتحول منذ الوهلة الأولى إلى خطاب ذي حمولة غير محتملة مشبعة بنزعة تقادمية ذي توجه أخلاقي. بل تجد نانين شاربونيل في رونيه جيرار René Girard سندها، خصوصا عندما تؤكد وتبرهن، استنادا على وثائق، أن خطاب التربية، بغض النظر عن كونه أخلاقيا، أو سيكولوجيا، أو دينيا أو ديداكتيكيا، خطاب للاستيعاب التماثلي على الدوام. فحينما يقول المربي هذا كائن، فيجب ترجمتها على الفور بـيجب أن يكون وفهم ما معناه: كما أريده أن يكون. إن لغته ليست مقبولة، لا من الناحية العلمية ولا من الناحية الفلسفية، وما يمكن أن نأخذ منها مأخذ الجد هو ما ارتبط منها بالـمجاز، الذي يسمح بالحديث عن تربيةٍ بصيغة و كأن، لكن دون توهم أي قيمة انطولوجية لهذا الخطاب. بعد القيام بهذه الخطوة، رسمت شاربونيل دون تساهل جدولا ضم وظائف فلسفة التربية داخل محيط علوم التربية، وأبانت على تفاهتها: ففلسفة التربية حين تجعل من نفسها متخصصة في العموميات، وتقدم اقتراحات للقيم والمرامي، تؤول البيداغوجيات و تؤرخ للأفكار البيداغوجية، فإنها تجد نفسها دوما أمام ما يعوقها كي تكون هي بذاتها، وتديم عليها حالة الوجود كطفيلية فطرية على جثة علوم التربية المتحللة([12]).
ينتج عن هذا تركيز كبير على طريقة الحديث (في شأن) التربية، التي أصبحت تشكل مادتها. لقد قامت نانين شاربونيل، فعلا، بفحص كلي للغة المجازية التي تستعملها التربية، وأعلن دانييل هاملين Daniel Hameline على إثرها، لكن بأسلوب أكثر رهافة، أنها عند الافتتاحية تكون "كلها خطابات متصنعة"، ثم تبلور إيجابيا أطروحات في شأن ال"قول البيداغوجي"، و"الدقة النسبية" و ال"فقرات الشهيرة للذات وللآخر"([13]). إن نية زمرة الفلاسفة الناقمين غير سليمة، هم الذين تورطوا في الخطيئة ووجدوا سبيلا لإنعاش شراستهم في البرهنة، المعللة على المستوى الفلسفي، على أن التربية لا تستطيع إنتاج سوى صور ثرثارة.
أطروحة شاربونيل متينة، ويمكنها حقا أن تتأسس على تحاليل من هذا القبيل: فالطبيعة، لدى روسو، التي يستند عليها كل البيداغوجيين، واقع مزيف في حقيقة الأمر ( إن حالة الطبيعة، في رأي الجنيفي Genevois نفسه، لم يعد لها وجود، و ربما لم يسبق أن كان لها وجود، والتي لن يكون لها بالتأكيد أي وجود مستقبلا)؛ والحق أن صاحب إيميل لم يستعن بها إلا لاعتبارها فكرة قادرة على توجيه المؤلَّف التربوي، لكونها تسمح بـإصدار الحكم الصحيح على حالتنا الحالية. من الممكن صياغة تلميح روسو كالتالي:" من واجبك أيها المربي، في خضم الانحلال الاجتماعي، أن تظل وفيا للطبيعة". إلا أن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى استنتاج وجود واقع تربوي بناء على الطبيعة: إذ أن هذا يعني أن نصوغ انطولوجيا، غير مبررة قانونيا، لما هو في مرتبة الوجوب-الكينونة الصرف. ما تقصد إليه شاربونيل أمر محمود: إذ ترغب في أن  تحدث داخل الحقل التربوي ما يؤكد السلامة الإبستيمولوجية، كما فعل كانط سابقا على مستوى العلاقات بين العلم و الفلسفة([14]).
إلا أنه، في هذه الحالة، لابد من رفع تحدي وجود فراغ تربوي، والرد على النقد بنقد أكثر ملاءمة. فمما لا يقبل النقاش كون شاربونيل لا يمكنها إطلاقا أن تغمره ضمن صياغتها النقدية :فـثمة بيداغوجيين لا يعملون في جمع الأحذية ولا تفريغ قمامات الأزبال؛ هناك أناس أذكياء، من العلماء أو الفلاسفة، الذين لهم رغبة في الكلام في التربية و أن يجعلوا منها موضوع دراسات، ربما تحدثوا عنها بشكل سيئ، لكنهم يتحدثون عن شيء ليس بالسياسة، ولا بالدين، ولا بالجمال ... ثم هل يمكن للخطاب المجازي نفسه أن يتشكل فقط من خلال الارتباط بالواقعة التربوية حالة انعدام وجود مؤشر ذي معنى في "جهة ما"؟ الصورة هي صورة شيء له معنى مسبق في الواقعة.. بينما يظل السؤال القائم بالتأكيد مرتبطا بوضعية خطاب هذا المعنى: فنقدنا لفلسفـات التربية أبان بشكل واضح أنه لا يمكن الاكتفاء بصياغة انطولوجيا للأفكار الفلسفية، فبالأحرى نتائج ملاحظةٍ سيكولوجية. من هذه الزاوية يبقى نقد شاربونيل بدون جدوى.
الحقيقة أن أطروحتها جزء لا يتجزأ من نقاش فلسفي واسع حول التربية. ألا ينحصر فعل المشروع التربوي في تسريع السيطرة على الـطبيعة بواسطة الحرية، أي في تسريع السيطرة على سيرورة الطبيعة في اتجاه تحقيق الحرية؟ إن مبدأ قابلية التربية لا يتحدث عن أكثر من ذلك . إلا أن المربي الممارس مطالب بالأخذ بعين الاعتبار الـوجود المسبقDéjà  للطبيعة، الذي يتوجب على مشروعه في الحرية أن يتآلف معه دوما، بل ويمكنه أن يفرض عليه حدودا من غير الممكن اختراقها بشكل ملموس ( حالة المعوق مثلا). صحيح أن للمربي ميل قوي إلى اعتبار رغبته واقعا، وإلى بلورة فلسفة للتربية ليست في حقيقتها سوى تشخيص أخلاقي لحلم انتصار الحرية على الطبيعة، والذي يعتمد بالضرورة على إجراء من العلوم الإنسانية. لكن هل الوقوع في الفخ أمر محتوم؟ هل بإمكاننا أن نصوغ خطابا عن الواجب-الكينونة متعلق  بالحرية دون الانغماس الكلي في المذهب الغائي أو النزعة السماوية؟
إنه نقاش قديم حقا، نقاش فلسفي كبير تعقد، وإلى حد ما، ماانفك يتعقد، في لحظة معينة من تاريخ فكرنا الغربي، وبالضبط اللحظة التي تخلصت فيها الحرية من الطبيعة باحثة في نفس الوقت عن علاقة بينة جديدة معها. هذه اللحظة هي التي يجب علينا الإمساك بها لدى هؤلاء الـ"فاتحين للحداثة" على قاعدة تربوية والمتمثلين في روسو، وكانط  وباستلوتزي.


الفلسفة الحديثة و التربية


لا مراء في كون كانط هو من ذهب بعيدا في مناقشة علاقة الطبيعة بالحرية عند مستهل عصرنا الحديث. فالـانتقادات الثلاثة ليست سوى مصوغاتها، ملخصة في المقدمة الخاصة  بـنقد مهارة الحكم كما يلي : على الرغم من أن هناك هوة شاسعة قائمة بين مجال مفهوم الطبيعة، المحسوس، ومجال مفهوم الحرية، الما فوق-المحسوس، بحيث تنعدم تماما إمكانية المرور من الأول إلى الثاني (بواسطة الاستعمال النظري العقلي)، وكأن الأمر يتعلق بعوالم مختلفة، فلا يجب أن  يكون أي تأثير للأول على الثاني –أو يجب(التشديد من كانط) على الأقل على هذا  الأخير أن يؤثر في الأول، أقصد أنه يجب على مفهوم الحرية أن يجعل هدفه المفروض عبر قوانينه متحققا في الواقع على مستوى العالم الحسي؛ بينما يجب (بمعنى الضرورة الفيزيقية)  بالتالي أن يتم التفكير في الطبيعة بطريقة تتناسب شرعية صياغتها، على الأقل، مع إمكانية الأهداف المفروض تحققها في حضنها بحسب قوانين الحرية. من المفروض إذن أن يكون ثمة أساس للوحدة الما فوق حسية، الذي هو بالنسبة لمبدأ الطبيعة، وبالنظر إلى ما يشتمل عليه مفهوم الحرية من معنى تطبيقي، أساس وإن لم يستطع مفهومه بعد، لا نظريا ولا تطبيقيا، أن يقدم عنه معرفة، و خاص به، فإنه مع ذلك جعل من الممكن المرور من طريقة التفكير بحسب مبادئ هذا إلى طريقة التفكير بحسب مبادئ الآخر. يجب (بمعنى الضرورة الأخلاقية) أن يكون هناك ممرا من الحرية إلى الطبيعة، وبالتالي من المفروض (بمعنى الاقتضاء الفيزيقي ) أن يوجد ممر من مستوى الطبيعة نحو مستوى الحرية. فالغاية هي التي تعبر بالضبط عن هذا الاقتران بين الحرية و الطبيعة. إلا أن هذه الغاية لن تستوعب بالطريقة المفروض أن تكون عليها الواقعة الإنسانية: إذ أن هذه الواقعة لا تزال من سجل الواجب أن تكون عند كل قرار إنساني. وهكذا ينتقد كانط من جديد كل نزعة غائية، وكل نزعة كهنوتية، تلتهم بشكل مسبق الاختيار الحر للإنسان، اختيار الإنسان للحرية([15]).
نعلم أن كانط يدين بالكثير من هذه الأفكار لروسو، وبالخصوص قراءته لكتاب ايميل. فبالعلاقة مع مبدإ الحرية الذي جعله مؤلف الـمقالات يتخلص بشكل واضح من ارتباطاته الطبيعية من جهة، وبالعلاقة مع طبيعة لا تفتأ تلتمس، كأصل وسند وهدف، تحقق الحرية من جهة أخرى، فإن النص الذي يبلور تركيبا لل" عالمين" كليهما هو بالتأكيد مؤلف 1762، والذي قدمه مؤلفه كـأفضل كتاباته، وأهمها على الإطلاق. ويمكننا القول أن ذلك تحقيق اعتباري لهدف نقد القدرة على الحكم. وليس صدفة أن يتم هذا الإنجاز تحت إشراف التربية: فالإشارة التي قدمت من طرف النمساوي مفادها أن الانتقال من الحرية نحو الطبيعة لا يمكن أن يتم إلا في خضم ومن خلال التربية، وأن تعارض الأفكار الذي يغذي كل مؤلَّفه، إلى غاية العلاقة التي بناها معها مؤلِّفه، لا يمكن أن تجد لها حلا ضمن الغايات القائمة، بما فيها تلك السياسية (بحيث لا  يمكن أن يفكر في الـعقد الاجتماعي إلا بتأثير من ايميل)، وإنما وجب البحث عن ذلك الحل ضمن مشروع أخلاقي، بالمعنى  الكانطي  للكلمة، والذي سيجد في التربية، لا في غيرها، مجال تحققه([16]).
يقودنا هذا مباشرة إلى باستلوتزي ومشروعه البروميتى من أجل إنتاج ظاهرة تربوية مطابقة لـإيميل، المشروع الذي شيد على أساس تحقيق صوري (ومرغوب فيه على ذلك المنوال: لسبب معين!) للتعارض الفكري الكانطي. دون العودة إلى مجموع إجراء عالم البيداغوجيا الزيوروخي([17])، نتوقف عند محاولةٍ لمعرفة كيفية تعريفه لفلسفة التربية وبأي المقاييس يرسم حدودها .
لقد فشل باستالوتزي مرارا في تحقيق رغبته في يكون مدرسا ممارسا للفلسفة، ومع ذلك فإن الطريقة التي تتمظهر بها الحاجة إلى الفلسفة لديه كانت الأكثر أهمية. إذا أخذنا الـأبحاث الصادرة سنة 1797 مثلا، فإننا سنجد أنه كمربي لم ينخرط في هذا التفكير النظري، مضطرا ومرغما، إلا لما حق عليه توضيح العلاقة الكائنة بين الطبيعة والمجتمع في كنف الحرية. فإلى ذلك الحين اعتقد فعلا أن ذات الحركة تشمل هذه المفاهيم الثلاث، بحيث أن الطبيعة تستدعي الحرية وأن المجتمع مجال تحققها الطبيعي. إلا أن التجربة المفجعة لنهوف Neuhof، ثم مشاهد المصير التاريخي للحرية خلال الثورة الفرنسية سيقودانه إلى التفكير من جديد في العلاقة بين الطبيعة، والمجتمع والحرية وفق جدلية سلبية: إذ بتجريد الإنسان الطبيعي من طبيعته يولد الإنسان الاجتماعي، وبتجريد الإنسان الاجتماعي من طابعه الاجتماعي يولد الإنسان الأخلاقي. وعند نقطة التقاء الطبيعية وتجسدها الاجتماعي، تصبح التربية مركز قيادة هذه الحركة المزدوجة للسلبية. هذا يعني القول بعدم قدرة فكرته الاستناد على أي انطولوجية، سواء أكانت طبيعانية أم اجتماعانية، وإنما سيكون عليه باستمرار استشارة واجبٍ إنساني يتجاوز كل إنجازات هذا العالم الحسي والاجتماعي ويتجاوز كل واقعة ذات طبيعة إنسانية. ولن تكون المنهجية –البيداغوجيا- مفهومة حقا ومطبقة بدقة إلا ما إذا وجهتها فكرة كهذه.
التربية إذن دعوة من الفلسفة، بالمعنى الأكثر أفلاطونية، مع الأخذ بعين الاعتبار حالة الكوريسموس  Chorismos التي أسستها : إذ لم ينفك بستالوتزي، أثناء عرضه لمنهجيته، من التشديد على الـفارق الطبيعي بين القوانين المنظمة بمعناها الإنساني وتطبيقها على المستوى الواقعي للوضعيات. و باسم هذا الفارق سيعيد النظر، وإن على حساب مؤسسته، في الفلسفة (المثالية) لعصره، و التي ادعت تعهدها المسبق للإجراء التربوي. ستشكل هذه الفكرة نقطة الاختلاف مع نايديرر Niederer: فعلى التربية أن تظل مفتوحة على الحرية، وعلى الحرية أن تؤثر في كل فرد؛ قد يحقق تحويلها إلى "نظام للحرية" إشباعا فكريا، لكنه بكل تأكيد يفسد البناء الحقيقي للحرية الذي يتناسب و ظروف كل فرد على حدة، وهي المهمة التي يجب على البيداغوجي القيام بها. وهكذا يرسم بستالوتزي حدود الخطاب الفلسفي في الوقت الذي يحاول فيه هذا الخطاب أن يعيد التربية إلى فخ شباكه، وفي هذا يمكن ترديد ما قاله المربي نفسه في موضوع المنهجية: ما يعطيها الطابع العمومي بالفعل، كون فردانية كل واحد تتحقق فيها  وتتشكل على هيئتها. والحال أن هذا النقاش برمته كان موجودا قبلا مع  فخته Fichte في الفترة التي كان يبلور الـأبحاث: إذ من الأهمية بمكان تتبع تشبت بستالوتزي بتعارض الأفكار الكانطية، واتفاقه، في نفس الآن، مع صلب رؤية صاحب إيميل، حيث شيد وبجرأة فيلسوف جامعة إيينا Iéna –ومن معه من مؤسسي الفلسفة الحديثة – الجسر الرابط بين الطبيعة و الحرية([18]).
ونصل في النهاية إلى السؤال الكبير: إذا كانت التربية بناءا لحرية كل فرد على حدة في إطار العلاقة الضرورية بظروفه، فهل من خطاب كوني ممكن بعد هذا؟... ومع ذلك فالتربية هي ما لا يقبل الإنسان اختزالها في قدرية ظرفه، حتى وإن كانت مدروسة بصرامة علمية كبيرة (وإقباله على دراستها يثبت دون ريب رفضه إعطاء نفسه الحق في اختزالها )، إنه، على العكس من ذلك، يبحث جادا، من خلال كونه هذا أو ذاك، عن "ما يجب أن يكون" الذي يمثل "دعوة لكونية إنسانية ".


فلسفة التربية، والتربية على الفلسفة


وعليه، إذا لم تكن فلسفة التربية ممكنة فقط، بل وضرورية أيضا، فما الوضعية التي يجب أن تحتلها ضمن حقل العلوم التربوية بفرنسا؟
يبدو، في سياق تحليلاتنا، أنه من البديهي عدم إمكانية الإبقاء على الوضعية العلمية، بالمعنى الإيجابي للكلمة، كقاعدة وحيدة لفهم الظاهرة التربوية. الحقيقة أن هناك شيئا ما يؤثر فيها، يتبلور بعيدا عن الحقائق الملاحظة والتجريبية والذي يستدعي قول "لننحي كل الوقائع". فالتربية هي من طبيعة الما يجب أن يكون بامتياز، واختزال هذا الما يجب أن يكون في ما هو كائن يشكل، على الأقل، استهتارا بالكلمات. لا يغير من الآمر شيئا اعتماد البعد العملي praxéologique, وذلك لأن "علم الفعل science de l'action " إما أنه يحيلنا على نظام للوقائع، وهي بذلك متحققة دوما، وإما أن يدعي الأخذ بعين الاعتبار النية الغالبة عليه، باعتباره فعل يجب تحقيقه، وفي هذه الحالة لا يمكنني البثة إنشاء علم عن ظاهرة يظل توجهه خاضعا لقرار الفرد: أيها الآباء أيتها الأمهات, الممكن فعله هو ما تريدون القيام به. هل من واجبي أن أتكفل بإرادتكم؟ (إيميل، المقدمة). نبتعد هنا عن النظام الطبيعي، لنلج نظاما آخر، نظاما ميتا- فيزيقيا([19]).
من الضروري، إذن، التفلسف داخل التربية. لكن يبدو من البديهي أن النزعة الفلسفانية Philosophisme – إذا كان القصد هنا الثقافة الفلسفية القائمة- ليست في موقع تحسد عليه. ففي هذا الميدان أيضا مشكل تضارب التفسيرات: إذ حين يتعلق الأمر بالاشتغال على نمو هذا الطفل الماثل أمامي، كيف يمكنني التأكد من أن الشخصانية هي أفضل عون لي من المادية الجدلية، أو أن النزعة التأويلية التفسيرية أكثر جلاء من النزعة الترنسندنتالية الأفلاطونية؟ لدي من المبررات والحجج ما يكفي لترجيح هذا النظام أو ذاك بشكل تعاقبي، وذلك بقدر ما أنه، علاوة على ذلك، قد انبنى تاريخيا كرد فعل تجاه نزعة الأنسقية المفرطة لوجهة نظر مغايرة تجاه الإنسان. على العكس من ذلك، يقوم المربي [البيداغوجي] يوميا بالتجريب على الطبيعة الإنسانية من حيث غنى مكوناتها، وضرورة مضاعفة وجهات النظر حولها.
لا يمكن للفلسفة إذن، باعتبارها خطابا مؤسسا، أن تكون غاية التربية. فإذا كانت التربية تحتاج حقا إلى فلسفة، فمن واجب هذه الأخيرة أن تستوعب وتتجاوز الفلسفات التاريخية، لتلتحق , عند نهاية التحليل، بمجال فعل التفلسف: أي بالسؤال السقراطي، والذي هو في المقام الأول سؤال التربية
هل التربية هي هدف الفلسفة ؟
بل بداية فعل التفلسف
هل التربية هدف علوم الإنسان ؟
بل بداية الـإابستيمي  الإنساني.
هكذا يضعنا التفكير في التربية عند النقطة التي تلتقي فيها المعرفة الوضعية التي تمكن من تسليط الضوء على الإنسان كما هو، لكن دوما من زاوية الما يجب أن يكون عليه، والمعرفة الفلسفية بما يجب أن يكون عليه الإنسان، لكن دوما  تحت مراقبة ما هو عليه بالفعل. ففكرة التربية وتطبيقها البيداغوجي مدعوان لأن يتطورا بحسب المَفصلة articulation الجيدة بين مقاربة الواقعة الإنسانية ومقاربة معنى الإنسان، علما أن هوة سحيقة لا تنفك تفصل وجهتي النظر هاتين، وأنهما محكومتان بعيش حالة توثر مستديمة([20]).
لكن لم الرغبة الملحة في فرض الوحدة حيث يكون الاختلاف مثمرا؟ أليست التربية، بالنسبة للإنسان الموزع بين الواقعة و المعنى، دعوة لمعرفة من النمط الثالث؟



المصدر
·         نص مأخوذ من:La pédagogie aujourd’hui, sous la direction G. Avanzini, Dumond, coll. Savoir enseigner . PP : 98-115
الهوامش

[1]- "نقصد بفعل التعليم، أن نحترم أولا في الإنسان ما يجعل منه إنسانا، وليس آلة لردود الأفعال وللنزوات؛ التعرف لديه عن ما فيه من نور يجعل من كل الناس، وقت يفكرون، "زملاء دراسة عند ذات المعلم"؛ أن نقبل في النهاية بهذا النور من حيث أنه اللغز العميق لدى كل إنسان على حدة، الذي لا يمكن لأحد، بما فيهم ذات الإنسان نفسه، أن يغيره أو يفهمه". ضمن أو. روبول O.Reboul, 1989, ص : 179

[2] - بالإمكان مقابلة هذا بالتحليل الذي قام به ايريك وايل E.Weil لمطلب المقدس في المجتمع الحديث الذي انخرط في صراع مع الطبيعة والذي هو "من حيث المبدأ رياضي، مادي وميكانيكي" (" الفلسفة السياسية"، فران Vrin، 1956، ص 62 وما يليها). أتذكر أيضا مؤاخذة باستالوتزي على ذوي النزعة الإنسانية المشهورين، الذين قدموا له تكوينا جيدا بكارولينوم  في زيوريخ، لكن دون أن يزودوه بوسائل عمل تطبيقية تناسب العالم الجديد الذي بدأ ينشأ (انظر كتاب "باستالوتزي " ضمن مجموعة "بيداغوجيون وبيداغوجيات " P.U.F. النص الأول).
[3] - أستعير هنا بكل سرور قولة قوية لمارتان بوبر Martin Buber ضمن كتابه مقالات حول التربية (Reden ùber die Erzichung) ,Heidelberg , 1956 ص : 46-47 ): السؤال المطروح بإلحاح بشكل متواصل هو : ما الهدف، ولماذا يجب أن نربي؟ سؤال يتجاهل (أو ينكر) الوضعية. وحدها العصور التي عرفت عموما شخصية وازنة – مسيحية، أو  أرستقراطية أو مواطنة- قادرة على الجواب على هذا السؤال، دون أن يكون الجواب بالضرورة كتابيا، إذ أنه يسطع فوق الرؤوس و تشير إليه السبابة. جعل هذه الشخصية نموذجا لكل الأفراد، اعتمادا على كل المواد الممكنة، هو ما نسميه ال"تكوين"(Bildung) .لكن ما الذي يبقى قابلا للتكوين حين تتحطم كل الوجوه، و لا يقدر أي منها أن يفرض نفسه وأن يعطي شكلا للمادة الإنسانية الحالية!... ليس هناك، ولم يكن هناك أبدا، معيارا متينا للتربية. المعيار المقصود هنا ليس سوى معيار ثقافة، أو مجتمع، أو كنيسة، أو عصر، كانت التربية بدورها تخضع له، كما هو حال كل حركة أو كل فعل عقلي ارتبط به [المعيار]، وعبر عنه في لغته. و الواقع أن التربية لا تتمتع باستقلاليتها الخاصة ضمن عالم تم تكوينه؛ بل إن وجودها رهين بعالم فقد هيئته. ففي التربية ذاتها تتولد المسؤولية الشخصية، في انهيار العلاقات الموروثة، وفي خضم الإعصار الدائر لحريتها؛ مسؤولية لا يمكنها في نهاية التحليل أن تعتمد، حين يتعلق الأمر بتحمل عبء القرار، على أية كنيسة, ولا مجتمع ولا ثقافة...
[4] - من الممكن  أن نستحضر " مدرسة فانسين " وتقاريرها الصادرة في العدد25-26(ماي 1993) من منشور تطبيقات التكوين/دراسات تحليلية، التي نشرتها جامعة باريس8، خاصة مقالة ج. أرضوانو Ardoino، "المقاربة المتعددة المرجعيات للوضعيات التربوية خلال التكوين"،ص15-34، وأيضا الحوار الذي أجري مع كورنيليوس كاسطورياديس Cornelius Castoriadis ، " المقاربة المتعددة المرجعيات في التكوين وفي علوم التربية"، ص: 43-63.

[5] - هل من المفروض أن نقدم أسماء؟ المقاربة الإثنوميتودولوجية تكشف بجلاء على قوتها الخلاقة، بينما يتستر التحليل النفسي طواعية وراء مشاريع ترفض كل إحالة مرجعية، وذلك بدافع قلق فهم متفهمة قدر الإمكان للذات –الموضوع المرتبط بالتربية. هذا صحيح بقدر ما أن المعرفة العلمية لا يمكنها أن تنبني بدون مسلمات.
[6] - التنبيه الموجود في مقدمة إيميل تنبيه في محله، حيث نقرأ: " يشدد علي البعض باستمرار على أن لا أقترح إلا ما يمكن القيام به. و كأنهم يقولون لي: اقترح فعل ما نقوم به؛ أو على الأقل اقترح من الخير ما يساير الشر الموجود. مشروع كهذا هو، بخصوص بعض المواد، أكثر استحالة من مشاريعي؛ إذ في هذا الخليط يتعفن الخير، ولا يعالج الشر. أحبذ أكثر أخذ التطبيق المنجز في كليته على أن اقتطع منه الأحسن: إذ سينتج عنه تناقضا أقل لدى الإنسان؛ فلا يمكنه أن يتطلع دفعة واحدة إلى هدفين متعارضين. أيها الآباء أيتها الأمهات، التناقض هو بين الممكن فعله و ما تودون القيام به. هل من واجبي أن أتكفل بإرادتكم؟. حول علاقة فلسفة التربية بالتكوين يمكن الاطلاع على مساهمتي من أجل فلسفة للتربية ص ص 31-40 : ضمن "فلسفة التربية في سياق منطق التكوين المهني المدرسي" المركز الوطني للتوثيق البيداغوجي, المركز الجهوي للتوثيق البيداغوجي لبوركونيه Bourgogne, 1994.

[7] - رؤية شاملة عقلانية جيدة جدا لهذه الفلسفات التربوية قد قدمها أوكتافي فولا Octavi Fullat ضمن مؤلفه  فلسفة التربية Filosofois de la educacíon، منشورات Ceac ، برشلونة ، 1992

[8] - تبلور هذا الحوار حول الشخصانية والتربية خلال النقاشات التي تمت في إطار لقاء الجامعيين ببادو Padoue، والتي جُمعت في مؤلف نشره جيسيبي فلوريس داركاييس  Giuseppe Flores DArcais بعنوان بيداغوجيا شخصانية و/ أو بيداغوجيا الشخصية Pedagogie personalistixhe e/ o pedagogie della persona، منشورات لاسكويلا, بريتشيا, 1994 . يحضرني الآن تنبيه بستالوتزي في رسالة من ستانس  Lettre de stans حيث يقول: يتوق الإنسان إلى الخير عن طواعية، والطفل يصغي إليه بانتباه كبير، لكنه لا يريده لك أيها المعلم، و لا يريده لك أيها المربي، إنه يريده لنفسه. الخير الذي تريد أن توصله إليه لا يجب أن يكون ثمرة تقلبات ظرفك ونزوتك، بل يجب أن يكون خيرا في ذاته، مطابقا لطبيعة الأشياء، و أن يظهر بالضرورة خيرا في عيون الطفل .....                  
[9] - صحيح أن ثقافتنا العلمية تجعلنا في وضعية صعبة كي نفكر فكرة لا مضمون معلوم لها، إلا أنها ذات تأثير مهم بفضل صياغتها. ومع ذاك من المفروض التذكير هنا أن الوصول إلى الأفكار الأخلاقية- كالعدل- يتم على أساس تجريب أضدادها- كالظلم الممارس- التي لم يكن بمقدور أحد أن يعطيها غير ذاك المضمون السلبي ( انظر وصايا ديكالوك les préceptes du Décalogue ). ومع ذلك تُحدث هذه الأفكار آثارا! بصدد هذه المسألة وبصدد  الثورة الابستيمولوجية التي أحدثها كانط  يمكن الرجوع إلى الفصلI من كتاب قضايا كانطية لإريك وايل Eric Weil :" التفكير في ومعرفة الإيمان والشيء في ذاته" Vrin , الطبعة الثانية , 1970.

[10] - إنه غموض كبير يشوب نقاش حول قضية الـ"قيم" في التربية. هل من الممكن أن يتعلق الأمر بشيء آخر غير المضامين الاجتماعية، وهل يمكن للقصد الأخلاقي أن تستنفذ فيها؟ هل من الضروري أن نضع ثانية في الفضاء مضامين إنسانية؟ لكن ما هي الضمانات التي نتوفر عليها على أن هذه المضامين ليست نسخة للقيم الاجتماعية التي تم اختيارها بحسب ايديولوجية كل على حدة؟... إن ال"قيمة" تتموضع, على عكس ذلك, على مستوى القصدية التي تجعل من سلوك اجتماعي سلوكا سليما (على الطفل أن يكون مؤدبا) وسلوكا أخلاقيا (إن البحث عن مصلحة الآخر هو الذي يعطي معنى  لتأدبه، لكن يعطي أيضا، إذا تحدثنا على العكس من ذلك لغة اجتماعية، معنى لما يمكن أن يبدو في نظر الآخر كسلوك غير مؤدب..)
[11] - نستحضر هنا ليفيناس Levinas في الاطلاقية واللانهائي. غير أن التوجه الحضوري immanentisme  لفلسفته يطرح مجددا مشكلة تتمثل في مدى إمكانية تأسيس علاقة كونية، والاعتراف بالآخر, على أنقاض واقع إنساني ينكر دوما تلك العلاقة, و يشكل [الواقع] المشكلة اليومية للمربي؟ التغيير الأخلاقي لوجه الآخر لا يغير في الأمر شيئا.
[12] - ص ص: 109-144 : نسجل صرامة صيغ الجمل : غالبا ما يحتفي المتخصص في علوم التربية بما تقوم به فلسفة التربية في الوقت الحالي من عملية تخلص ضرورية لها كي تتهم أخريات بالذاتية، وقابلية إبداء الرأي فيها، دون نسيان طابعها الشجي، ولا سموها. ستصبح هذه الفلسفة شبه مزبلة للتاريخ، شبه عودة للمكبوت، تمزج داخل مخزن شاسع بين حماسة، و خرافة ودين، وغالبا ما يحتفي بها يوم الأحد هؤلاء الذين ينكرونها خلال باقي أيام الأسبوع (ص: 113)؛ إن الماكر يفرق بين علوم الوقائع وفلسفة القيم، وهذه هي النزوة الواجب إبعادها دوما(ص :121 ) لابد من التخلص من الفكرة القائلة أن الفيلسوف يفكر في ممارسة الآخرين، بدلا عنهم (ص:125 )؛ إنما نعتقد بالفعل أن تاريخا للأفكار البيداغوجية، حتى وهو مراجع ومصحح كما سندقق ذلك, لا يمكن أن يكون مثمرا إلا حين يوجهه نقد فلسفي للعقل التربوي (ص:140)
[13] - التربية: صورها و قضاياها، ESF ، 1986
[14] - يمكننا بالفعل أن نراقب يوميا الأضرار التي تحدثها في التربية النزعة الأخلاقية ضمن القضايا العلمية أو الفلسفية: إذ لا ننفك نعتبر الما يجب أن يكون هو الكائن، والعكس بالعكس.
[15] - من الـضروري إذن العـودة إلى نقطـة البـداية: فعـلا إن الإنسان هو هـدف الطبيعة؛ لكنـه ليس هدفها النهائـي (Letzter Zweck)  إن لم يعتبر فقط حيوانا – إنه ليس حيوانا لكونه أسمى من ذلك بكثير، فهو هدفها الأوحد (Endzweck ). إنه كذلك لأنه، الوحيد الذي يقترح لنفسه أهدافا، هو أيضا الوحيد الذي يقترح لنفسه الهدف الذي لا هدف بعده، الهدف الذي يتعالى عن كل طبيعة، ما دامت الطبيعة لا تعرف الغير المشروط، لا على صعيد الأسباب الميكانيكية، ولا على صعيد الأهداف الداخلية، ولا تعرفه، على الخصوص، في ارتباطه بالإنسان الطبيعي ( إيريك وايل, قضايا كانطية, 1970 , باريس, فران, ص ص: 82-83 ). يشير وايل أيضا (ص 67 ) إلى أن هذه المقاربة الكانطية تؤدي إلى احتفاظ غاية الواقعة بطابعها المثمر. هنا تجد ال"نزعة النقدية" حدودها: فالمنهج النقدي يتحدد دوما بالعلاقة مع واقع معلوم موجود قبلا لا يفتأ يسأل. لنغير الموقع: ثمة تربية، إنها الواقعة الأولى التي لا تراجع عنها, والتي تشكل غاية في حد ذاتها. أما السؤال الفلسفي – السؤال الذي يؤسس فلسفة للتربية – فسيولد- وقد تولد تاريخيا بفرنسا- في اللحظة التي لم يعد من الممكن التسليم بهدف الواقعة – وفي هذه الحالة التماهي مع الاجتماعي - ...
[16] - بخصوص هذه النقطة يمكن الرجوع إلى أعمالي حول بستالوتزي أو ميلاد المربي. ب. لانغ P. Lang,1981 , وعلى الخصوص الجزء الثالث:" إفلاس أيفردون Yverdon أو بحث المربي عن خطابه", وإلى الترجمة المعلق عنها ضمن المؤلف النظري الهام الصادر عام 1797 : أبحاثي حول مسيرة الطبيعة أثناء تطور النوع الإنساني, بايو Poyot , لوزان , 1994.
[17] - المنهج النظري والتطبيقي عند بستالوتزي المتعلق بالتربية والمؤسسة الأساسية، المنشور من قبل بالفرنسية (1826) ج. . بستالوتزي  Sàmtliche Werkr. J.H.Pestalozzi. المجلد 28 ص : 298

[18] - انظر على الخصوص الجزء الثاني من تعليقي حول "أبحاث
[19] - الاهتمام بـالميتا – الذي يحير حاليا علماء التربية- لا يجب أن يخدع. فإذا اقتصرنا في إطاره على مستوى التحصيل الإدراكي، فإن البديل واضح: إما التمسك بالملاحظة-التجربة، وإما الميل إلي الأخذ بعين اعتبار الوعي الذي يبديه المتلقي خلال العملية، فيتم إذ ذاك الخروج من مجال الملاحظة. الرغبة في الجمع بين الماء والنار... إلا في حالة ما إذا شكل ال" تكوين " مجددا العلاج السحري الذي يحل كل المعضلات انطلاقا من المزج بين المقاربات.

[20] - وهذا ما يبرهن، من جهة، باستمرار على وجود وحدة بين التعليم والبحث في العلوم الإنسانية، حيث تتم بلورة معارف عن الإنسان باعتباره واقعة، و، من جهة أخرى، على وجود وحدة بين التعلم والبحث الفلسفي، حيث الاستمرار في جرد المعارف التي عالجت معنى الإنسان. إلا أن ادعاء كل واحدة منهما على حدة قدرتها بمفردها تغطية مجمل مجال التربية يجعلهما سوية غير مؤهلتين: فليس كافيا أن يهتم عالم النفس بالمعنى، ولا أن يتحول الفيلسوف إلى عالم اجتماع كي تكون التربية مستفيدة. فتصورها لا يكتمل إلا بفضل تعايش نشيط بين الفلسفة وعلم الإنسان، يحتفظ معه كل واحد منهما على استقلاله.

نشر بمنصة "كوة"

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-