أخر المقالات

أصول وتطور علوم التربية في البلدان الفرانكفونية (ج 1)




غاستون ميالاري 

اقرأ ترجمتي الأخيرة: الترجمة كقراءة خلاقة

مقدمات البحث العلمي في مجال التربية

الأدبيات المتعلقة التربية وفيرة بشكل خاص. يتضمن أحد مجالاتها الأساسية الثلاثة البحوث حول ما سأسميه، من الآن فصاعدا، بدايات وتطور موقف البحث العلمي حول القضايا التربوية.

كان علينا العودة بعيدا إلى الوراء في تاريخ التربية، لكن الحدود الزمنية لهذا العرض تفرض علينا التبسيط. لذلك، سنكتفي بذكر بعض الرواد البارزين، مصحوبين ببعض الاقتباسات المستمدة من المؤخرين.

منذ بداية القرن السابع عشر، استحضر ج. أ. كومينيوس (1592-1670) ضمنيا ضرورة وجود بيداغوجية تجريبية وهو يتأسف عن العمل المدرسي أو الجامعي الذي لم يكن موضوع دراسات علمية، كما هو الحال بالمسبة للعمل الميكانيكي.

قرنان بعد ذلك، صاغ ج. ف. هربارت (1776-1841) هذا المطلب بطريقة أكثر دقة حين فكر في جعل «مدرسة تجريبية» ملحقة إلى الجامعة. وبالفعل، في الوقت الذي تم استدعاؤه، سنة 1808، لخلافة كانط في كرسي الفلسفة والبيداغوجية في Königsberg، أبلغ أمين الجامعة بمشروع سيتم تبنيه، من بعد، من طرف دوترينز.

نذكر أخيرا، من بين آخرين، أ. أ. كورنو Cournot (1801-1877)، الذي قد يكون نصه قد كُتب بداية القرن العشرين. في مقالة حول أسس معارفنا، فتح كورنو أفقا جديدا إلى حد ما ولم يتردد، كما بيّن موريس دوبيس، في الرفع من البيداغوجيا إلى مصاف التخصصات التجريبية. يكتب قائلا أنه في البيداغوجية كما في الطب لا يتم الاقتصار بشكل صارم على ملاحظة الظواهر كما تتكرر تلقائيا؛ فالتجريب المباشر ليس مستحيلا، وإن كان احترام الواجب للطبيعة البشرية والهدف من الفن يزيدان من الصعوبات الجوهرية للتجربة ويحدان من نطاقها. وللتغلب على هذه الصعوبات، يوصي كورنو باستعمال الإحصائيات لدراسة، على سبيل المثال، الروابط بين «المهارات» المختلفة أو العلاقة بين التحصيل التعليمي ومعدلات الجريمة. والأفضل من ذلك أنه استباقا استخدام تقنيات التحليل العاملي الحديثة، يقترح تحديد أيّ القدرات التي وضعت الطبيعة بينها أكبر قدر من الاستقلالية من خلال تكوين أجهزة الفكر، وذلك بغرض تأكيد أو دحض نظرية قائمة على اعتبارات حتمية، مثل النظام الفرينولوجي لغال.

 

بديات البحث العلمي في مجال التربية

المقاربة العلمية في البحث التربوي قديمة جدا، والجهلاء فقط (كما نسمع اليوم للأسف) هم الذين يعتقدون أن البحث العلمي في التربية لا يزال في مهده. والواقع أنه، منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين (قبل حرب 1914-1918)، نلاحظ طفرة غنية بشكل خاص في هذا المجال.

المرحلة السابقة على الحرب العالمية الأولى

في فرنسا، كان ألفريد بينيه هو السباق. بحوثه، منذ نهاية القرن التاسع عشر، سواء منها المختبرية أو في مدرسة زقاق Grange-aux-Belles، جعلت منه واحدا من الرواد الأصليين في البحث العلمي في مجال التربية. والنص التالي المأخوذ من كتابه التعب الذهني (الذي كُتب بالاشتراك مع ف. هنري، سنة 1898)، يشهد على وضوح مواقفه:

مكتبة البيداغوجية وعلم النفس التي نفتتحها اليوم من خلال نشر هذا المجلد الأول حول التعب الذهني، تهدف إلى جعل البيداغوجية تستفيد من التطورات الأخيرة لعلم النفس التجريبي.

ليس المطلوب، بالمعنى الدقيق، إصلاح البيداغوجية القديمة، وإنما إبداع بيداغوجية جديدة. فالبيداغوجية القديمة، على الرغم من بعض التفاصيل الجيدة، يجب إلغاؤها تماما، لأنها تعاني من عيب جذري: فهي مبنية على العشوائية، ونتجت عن أفكار مسبقة، وهي قائمة على تأكيدات لا أدلة عنها، وتخلط بين البراهين الدقيقة والشهادات الأدبية، وهي تحسم في المشاكل الصعبة جدا بالاحتكام إلى الفكر التسلطي لكوينتيليان وبوسي، مستبدلة الوقائع بالمواعظ والنصائح؛ والوصف الذي يناسبها الأكثر هو الثرثرة.

على البيداغوجية الجديدة أن تتأسس على الملاحظة وعلى التجربة، وأن تكون، أولا وقبل كل شيء، تجريبية. نحن لا نقصد هنا بالتجربة ذلك الانطباع الغامض للأشخاص الذين رأوا كثيرا؛ فالدراسة التجريبية، بالمعنى العلمي للكلمة، هي التي تتضمن وثائق جُمعت بشكل منهجي، وتم تقديمها بكثير من التفاصيل والدقة وذلك حتى يُتمكن، بهذه الوثائق، بداية عمل المؤلف، وتحقيقه، أو استخلاص استنتاجات لم يلاحظها.

يمكن تقسيم تجارب البيداغوجية السيكولوجية إلى مجموعتين: 1° تلك التي تجرى في المختبرات السيكولوجية و2° تلك المقامة بالمدارس.

في المجال البيداغوجي، تلقى تجارب المجموعة الثانية حظوة خاصة، دون أن يستدعي ذلك إهمال تجارب المختبر لهذا السبب. الواقع أنه تتم داخل المختبرات النفسية أبحاث على عينة صغيرة من الأشخاص، يأتون إلى المختبر لتعلم علم النفس، مما يجعلهم مستعدين للاشتراك في تجارب بكثير من الحماس. يمكن القيام، مع هؤلاء الأشخاص كموضيوع للدراسة، بتجارب دقيقة جدا، ودراسة تأثير مختلف أسباب الخطأ، ومعرفة إن كانت هذه الطريقة تحقق نتائج أم لا، إضافة إلى تجريب طرائق جديدة وتحسينها بحيث تصبح عملية وبسيطة([1]).

 

يختم بينيه وهنري كتابهما بأمنية لا تزال بعيدة عن التحقيق:

أن تقتنع الإدارة الفرنسية تماما، وهي المستنيرة بما يكفي لتدرك الأهمية الكبيرة لهذه الدراسات، أنه لن تُحل أي مشكلة بيداغوجية بواسطة نقاشات، وبخطابات والمناظرات الكلامية، بل بتحفيزها بكل قدراتها على دعم البحوث السيكولوجية التجريبية بالمدارس([2]). 


اقرأ أيضا: علوم التربية([1]) وفلسفة التربية (الجزء 1 وما يليه) 

    

يمكن اعتبار «مقياس الذكاء» الحد الفاصل بين علم النفس القديم والحديث. ففي الوقت الذي كان المثقفون الفرنسيون يستهزؤون من «عبّار الذكاء»، كان العالم بأسره يدرك أهمية ما حققه علم النفس من ثورة.

من الممكن فهم ما لقيه «مقياس الذكاء»، الذي نشره بينيه بشراكة مع ثيودور سيمون سنة 1905، من ترحيب خصوصا أنه يتيح وسيلة لتشخيص التأخر أو التقدم العقلي للمتمدرس خلال سنة، بل وحتى شهر.

مرّ هذا العمل الرائع، والواعد، دون أن يلاحظه أحد على الإطلاق في فرنسا. بل إنه أثار سخرية البيداغوجيين المتهكمين. لكنه كان مثار إعجاب شامل بالخارج، ثم كان موضوع تبني متزايد، خصوصا في أمريكا. فقد تم التحقق من اختبارات بينيه وسيمون في بروكسل من طرف الدكتور Decroly، وفي جينيف بواسطة Melle Descoeudres، وفي أمريكا من طرف Goddard، وKuhlmann وأخرين، وفي ألمانيا من طرف Bobertag، وفي ستوكهولم من طرف Jæderrholm، وفي ميلانو من طرف Treves   و Saffiotti. في جميع الأنحاء كانت نتائجها مرضية، ماعدا بعض النقد في التفاصيل.

وبالفعل، شرع بينيه، مع بداية القرن، في تحليل علمي لثلاث مشاكل أساسية: البرامج الدراسية، المناهج المدرسية وقدرات الأطفال. وقد ردّ إدوارد كلاباريد، بجنيف، على هذه الرغبة بكتابه، الأساسي حينها: كيفية تشخيص قدرات المتمدرسين. في هذه الفترة أيضا تمكن بينيه، وهو يشتغل بمدرسة زقاق Grange-aux- Belles مستعينا بمديرها المسمى فاني Vaney، من وضع «جداول تعليمية». كانت الإشكالية قد صيغت بالفعل، كما يبرهن عليها النص القصير التالي:

 

في الوقت الذي تتم فيه ملاحظة الانشغال، الذي عبر عنه القس ج. فيشر سنة 1864، المتمثل في وضع معايير بيداغوجية لتقييم الأعمال المدرسية، نرى في ج. م. رايس (1857-1934) رائد المؤسسة العلمية للتربية. صحيح أن ج. م. رايس قد أسس سنة 1903 أول جمعية للبحث التربوية ونشر، سنة 1914، كتابه الإدارة العلمية في التربية، في الوقت الذي كان فيه ف. و. تايلور يستعد لأن يطبق في المجال الصناعي مبادئ الإدارة العلمية (1911) التي اشتهر بها.       

 

ويربط سلّم فاني التعليمي، الذي وضعه للمدارس الابتدائية في باريس، بين التمارين المدرسية المعيارية (على سبيل المثال، مسألة حسابية بسيطة: «اطرح 8 من 59. كم يتبقى؟» بمتوسط عمر يتوقع النجاح، في هذه الحالة من 7 إلى 8 سنوات).

يؤكد بينيه في تعليقه على أن طريقة المقارنة تضمن الطبيعة العلمية لقياس الذكاء وصحة الاختبارات. وهو يقول إن مبدأ المنهجية يتلخص في الاقتراحين التاليين:

-           لا يترك الاختبار للصدفة، أو لنزوة الإلهام، أو لمفاجآت تداعي الأفكار، بل يتألف من منظومة من الأسئلة ذات المحتوى الثابت والصعوبة المضبوطة؛

-           لا يتم الحكم على مستوى تعلم الطفل بشكل مجرد على أنه جيد أو متوسط أو ضعيف بحسب سلم غير موضوعي للقيم؛ بل تتم مقارنته بمتوسط مستوى تعليم الأطفال من نفس العمر والوضع الاجتماعي الذين يرتادون نفس المدارس.

يمكن تحويل النتيجة إلى تم الحصول عليها على الفور، دون تعليق من أي نوع، إلى تصور مفاده أن الطفل، من حيث تكوينه، هو منتظم، أو أنه متقدم بستة أشهر، بعام، أو بعامين... أو على العكس من ذلك، أنه متأخر بستة أشهر، بعام أو أكثر.

في نفس الفترة أيضا، ورغم أن مؤلفه قد نشر بعد فترة طويلة من وفاته، بين إيميل دوركايم، في الدروس التي ألقاها على كرسي البيداغوجية في السوربون، كيف يمكن دراسة تاريخ التربية من منظور تاريخي-سوسيولوجي. ويعد كتابه، تطور البيداغوجيا بفرنسا، من بين الكلاسيكيات الكبرى في الأدبيات البيداغوجية.

بالدول الفرانكفونية خارج فرنسا، يتطور البحث العلمي في مجال التربية في شروط جيدة إلى حد ما. وبدون الخوض في تفاصيل هذه النقطة، دعونا نذكر بعض الأسماء الكبيرة التي يعرفها جميع المستمعين المطلعين جيداً.

ففي بلجيكا، يبرز اسم أوفيد ديكرولي (1871-1932) في المقام الأول. ولأنه كان في نفس الوقت عالمَ نفس وطبيب ومربي (أنشأ، سنة 1907 مدرسة لارميطاج)، فقد سعى جاهدا إلى دمج المنهج العلمي ضمن دراسة الطفل وتربيته. وكتيبه الذي نشره بالاشتراك مع ر. بويس، مقدمة في البيداغوجية الكمية (الصادر سنة 1929، ثلاث سنوات قبل وفاته)، يعيد طرح وتوظيف أعمال ميركانتي، العالم الأرجنتيني من جامعة بلاتا، الذي طبق، منذ 1893، الإحصاء في دراسة القضايا البيداغوجية.

أما في إيطاليا، فقد كان لشخصية وأعمال ماريا مونتيسوري (1870-1952) التأثير الكبير على علم النفس وعلى بيداغوجية بداية القرن. وقد ابتكرت سنة 1907، لمواصلة أبحاثها في علم نفس الطفل وعلى التربية، دار الأطفال الشهيرة (Casa dei bambini)، ونشرت سنة 1909 عملها الأساسي حول منهج البيداغوجية العلمية المطبقة في تربية الأطفال: Il metodo della pedagogia scientifica applicado all’educazione infantile nelle case dei bambini.

في سويسرا، كانت مدرسة جينيف (التي سيخرج منها جان بياجيه) جد نشيطة. في هذه الفترة كان اسم إدوارد كلاباريد (1873-1940) يهيمن على مجموع الانتاجات السيكولوجية والبيداغوجية. وقد عرف مؤلفه الأساسي، علم نفس الطفل والبيداغوجية التجريبية، الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1909، نجاحا باهرا وكان، بالنسبة لعدد كبير من طلبة قبل الحرب، مرجعا أساسيا. يمكننا قول الشيء نفسه عن كتابه الذي مهد الطريق أمام الكثير من التجارب السيكولوجية ذات الطبيعة القياسية: كيفية تشخيص القدرات لدى المتمدرسين، المنشور سنة 1923.

في فرنسا، أوقفت الحرب العالمية الأولى (14-18) كل البحوث التي لمع فيها اسم بينيه كمبادر. وقد كانت الحركة الملتهبة والخصبة للبحث في التربية، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بمثابة «الرماد النائم». ثم عادت القضايا التربوية والبيداغوجية إلى الظهور بين الحربين، إلا أن المفهوم العلمي، كما قدمه ألفريد بينيه ومساعدوه، بقي خامدا. خير مثال عن ذلك يقدمه لنا المجلد الخامس عشر الرائع من الموسوعة الفرنسية، الذي كرِّس للتربية والتعليم والذي أشرف عليه س. بوغليه C. Bouglé. في مقدمته، أثار لوسيان فيبر Lucen Fièbvre مسألة العلاقة بين علم النفس والتربية لكنه أبقى مفهوم البحث غائبا تماما:

 

لم تبذل أي محاولة، من هنا أو هناك، لاستخلاص بيداغوجية مبنية على المعرفة التجريبية من علم النفس ذي نزعة غالبة على نحو حاسم: مما شكل أمرا مفاجئا! وبالفعل، ظهرت بيداغوجيات مماثلة في كل مكان... هل تمكنت مبادراتها من النفاذ إلى العمق، أم أنها تَركت العادات الراسخة على حالها، محتفظةً بقوتها؟

 

 ظلت الاهتمامات المتعلقة بإعادة تشغيل وتنظيم الأنظمة التربوية (التي تعطلت بشكل خطير أثناء الأعمال العدائية) مطروحة على جدول الأعمال؛ فهي لن تجد إشباعا حقيقيا لها إلا مع خطة لانجيفان-والون.  👇👇👇  

الجزء الثاني: أصول وتطور علوم التربية في البلدان الفرانكفونية (ج 2)     

    



المصدر:

Mialaret G. Les origines et l’évolution des sciences de l’éducation en pays francophones. In :

Vergnioux A. (Dir.). 40 ans des sciences de l’éducation. L’âge de la maturité ? Questions vives. Caen :

Presses Universitaires de Caen / CRDP Basse-Normandie, 2009, pp. 9-22.

 الهوامش

[1] - Mialaret 2oo6, 2o.

[2] - Ibid2 ، .


نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-