أخر المقالات

بيداغوجيا المعنى (ج 1)


 

ميشيل دوفيلاي


إقرأ: ما هو فعل التفلسف؟


تنصب مداخلتي على الإجابة على ثلاثة أسئلة متتابعة:

-      لماذا تعدُّ مسألة المعنى اليوم، في استقلال عن بيداغوجية المعنى، مسألة جديدة؟

-           ما الدلالة التي نعطيها لكلمة المعنى؟

-           ما المقصود ببيداغوجية المعنى؟

ما أود تبيينه وتقديمه بشكل جد سريع حتى تفهموا بشكل جيد وجهة نظري فيما بعد، هو ألّا شيء له معنى في حد ذاته. تشاركون في ندوة، في عرض ليس لهما أي معنى. هذه المداخلة لا معنى لها. فالمعنى لا يكمن في الوضعيات، ولا كامن في الأحداث. إننا نعطي أو لا نعطي معنى للوضعيات التي نحياها. لا شيء أكثر غنى في معناه من أُخَر. فالمعنى يبرز من خلال التفاعل الدي يقيمه الفرد مع السياق الذي يتحرك فيه.

سأحاول بعد ذلك أن أبين أن المعنى ليس فقط في التفاعل لكنه مرتبط أيضا بالزمانية. فالمعنى متضمن في علاقة الفرد بزمانه السيكولوجي.

السؤال هو هل ستعطون أم لا معنىً لهذا المؤتمر ولهذه الندوة؟

 

ظهور مسألة المعنى 

لماذا ظهرت مسألة المعنى هذه اليوم بإلحاح (يكفي القيام بجرد للعناوين المنشورة مؤخرا للاقتناع بذلك) وفي أي ظروف؟

نتطارح مسألة المعنى حين نحس ببعض الضياع. إن يتم طرح مسألة المعنى اليوم، فلأن المجتمع، من دون شك، يبحث عن معايير جديدة. فهذه تتلاشى، مثلا، من حيث القيمة الممنوحة للعمل، باعتبار أن مجتمعنا بأكمله مؤسس على قيمة العمل. إن أول أمر قمتم به منذ قليل، سيدتي الرئيسة، تمثل في تقديمي بحسب صفتي المهنية، وإعلان هويتي المهنية. ما الذي سيبقى بأيدينا، حين يفتقد العمل، كي يعرِّف كل منا شخصيته؟ إذ حين تختفي الهوية المهنية، وتتأرجح الهوية الشخصية. في مجتمعنا الذي يشكل فيه العمل أكثر فأكثر معطى تزيد نذرته، تنقلب معايير الهوية، كما أن فقدان العمل لا يساعد على التطور بواسطة الهِوايات، أو بفضل أوقات فراغ غير مكلفة، كالتأمل.

عرفت العائلة، من حيث هي قيمة، شرخا واسعا على نطاق واسع. يزداد عدد العائلات ذات الوالي الواحد monoparentale، بل إن ألانْ تورين Alain TOURAINE يستشهد بأطفال الذين هم دون هوية تعريفية. ينفصل الآباء بعد ولادة الطفل، فتذهب الأم لتعيش مع رجل آخر. بعد مدة معينة، ينفصل هذا الزوج الجديد وفي نهاية المطاف يجد الطفل نفسه مع رجل (شريك والدته السابق) وامرأة جديدة، لا أحد منهما هو عائل الطفل. لن يعرف بعد ذلك لا من هو أبوه ولا من هي أمه. تختل المعايير على مستوى العائلة، ويمكن قول نفس الشيء فيما يخص الدين، عن الحياة المجتمعية، والالتزامات النشطة.

من جهتها تتحرك ضوابط الزمان والمكان كثيرا. إننا في مجتمعٍ كان إلى زمن قريب يتفكّر في الديمومة وأصبح شيئا فشيئا مع " التغير السريع في المواقع zapping" يتفكّر في اللحظة الراهنة. إننا نتأرجح باستمرار بين اللحظة والديمومة. في المدرسة نقول للأطفال «انتظر، سترى حين تكبر فيما يفيد». بينما هم يفْتقدون الصبر للانتظار. وهكذا نلاحظ أطفالا متسرعين يريدون، كما هو الحال بالنسبة لعدد من الراشدين، كل شيء، بسرعة، غير قادرين على إدارة المدة. المعايير المكانية، بدورها، تتطور بسرعة كبيرة. إذ اليوم الذي نتوفر فيه على محمول، وجهاز تلفاز مرتبط بقمر اصطناعي، وجهاز كومبيوتر مرتبط بالأنترنيت، يمكن لنا ربما أن نرتبط في اللحظة ذاتها بالعالم كله. ينمي هذا المجتمع المعلوماتي ميولات تلصصية ويعطي بشكل متوازي الإحساس بعدم القدرة على الفعل، وينمي اللامبالاة.

بالإمكان مضاعفة الأمثلة لإظهار أن مجتمعاتنا تبحث عن معنى، مادامت الإيديولوجيات تفشل في نيتها شرح العلاقات بين الناس. فقد أبان النظام الشيوعي عن عجزه التواؤم مع الحرية. وتظهر الليبرالية عدم قدرتها التصالح مع المساواة.

يبحث المجتمع إذن عن المعنى ومن ضمنه، بطبيعة الحال، مختلف المؤسسات أيضا. المدرسة تتساءل عن معناها. وقد كان الهدف من المدرسة الجمهورية، البارحة، تجانس المجتمع. ولهذا الأمر وُضعت البرامج: على جميع التلاميذ أن يتمدرسوا بنفس المضامين في نفس الوقت. قيمة الحق تمثلت في المدرسة وقيمة الواقعة تمثلت في الطفل. كان على الطفل التكيف مع المدرسة. بمعنى آخر تعليم المدرس كان له الأسبقية على تعلُّم الطفل. لبست وزرة رمادية وأنا طفل، وكان من المفترض أن تخفي انتمائي الاجتماعي. إذ بالدخول إلى المدرسة تُفتقد، بشكل ما، الهوية ويبقى محلها طفل من بين أطفال آخرين. لكن سنة 1989، مكّن قانون التوجيه المدرسي، ليس رمزيا، بل من خلال نص قانوني (قانون جوسبان)، مكّن الطفل من احتلال مركز النظام التربوي. من ذلك الحين أصبح التلميذ يمثل الحق، والمدرسة تمثل الواقعة، وهو ما ترجمته المشاريع المدرسية. هذا التحول العميق أدى بالمدرسة إلى طرح تساؤلات جديدة: أسئلة المساواة والإنصاف (لا ينبغي تقديم أكثر لمن لديه أقل، وهو ما يعارض مبدأ المساواة الجمهوري)، أسئلة التفرّد والعالمية (كيف يمكن تدريس مضامين مختلفة لأطفال مختلفين، حيث توجد نفس الرؤى من خلال هذه التعلمات؟). نمر من رؤية يعقوبية إلى رؤية لا مركزية.

وكما هو الحال بالنسبة للمدرسة، تطرح العدلة في علاقاتها مع السلطة السياسية أو في علاقاتها بالسلطة التنفيذية، ويطرح العالم الطبي والاستشفائي نفس الأسئلة المتعلقة بمعنى أفعالهم، وأسسهم، وبتطورهم. عليهم، من بين أمور كثيرة، التوفيق بين اليعقوبية والمركزية، بين مبادرة متجددة وتحقيق المحافظة والاستقرار. ألاحظ بالجامعة أن العديد من الأطروحات تتناول كلمة الهوية.

في عدد من المهن، تطرح مسألة المعنى، المسألة التي تترجم تشككات، وتساؤلات عميقة، تجسد من خلال هذه المرادفة حقيقة الذي نقول «أين نحن؟ وإلى أين نسير؟». غالبا ما تكون القضايا الجديدة التي تُطرح على مستوى الأداء المؤسساتي تبدو وكأنها تتعلق بالنظام الاقتصادي، وبالميزانية (المزيد من القروض، المزيد من المناصب الشاغرة، المزيد من الوسائل). نكتشف وراء هذه المطالب المتعلقة بالميزانية قضايا مرتبطة بالهوية (الحالة، الوظيفة، الاعتراف الاجتماعي)؛ من ثمة قضايا ذات أبعاد نفسية (ما مكانتي، هل لي مكانة في عملي وبالتالي في الحياة؟ هل يتم تقديري على الساحة الاجتماعية؟)

اقرأ أيضا: البيداغوجية وعلوم التربية: علاقة صعبة

 

ما المعنى الذي يعطى لكلمة معنى؟

في نهاية المطاف، ماذا نقصد بالمعنى؟ لنعد إلى أصل الكلمة.

تحيل الدلالة الأولى للكلمة على الحواس الخمسة (البصر، السمع، الذوق، الشم، اللمس) الني يؤدي امتدادها الدلالي إلى «الحس السليم». حين نقول عن شخص ما «أنه ذو إحساس بـ...»، نقصد أنه شخصٌ قادر، فقط بالحدس، على فهم الأمور التي تتطلب الكثير من الوقت كي يستوعبها آخرون، دون إضفاء الطابع الرسمي عليه، ولا جعله متعقلا، ولا العمل على تحديده بشكل مغاير للطريقة الحدسية.

المجال الدلالي الثاني الذي نعثر ضمنه على كلمة «معنى» هو معنى الكلمات. تحيل كلمة «معنى» على بُعدَي الدلالة الصريحة dénotation والدلالة الضمنية connotation. فالكلمات لها معنى نجده في المعاجم، إنه الدلالة الضمنية، ثم إن الكلمات معبأة بعلامات المعاني وبالرموز، وهي ما نسميها بالدلالة الصريحة. حين يكون للمعنى حمولة الكلمات التي تضفيها عليها الدلالات الصريحة والدلالات الضمنية، تكون المسألة محددة في فهم الأشياء، الفهم الذي يحيل على الممكن استيعابه من علاقات كلمة بكلمات أخريات داخل حقل دلالي.

ثم إن هناك مجالا دلاليا ثالثا للمعنى، كما في التعبير الذي يعطي معنى للحياة. هل للحياة معنى؟ ما المعنى الذي أعطيه لوجودي؟ يتعلق الأمر هنا بمقاربة أخرى. معنى الميول، الرؤيا، التي نميل إليها، التي نتوجه حولها، الهدف الذي نحدده، المسعى الذي نخطط لبلوغه.

إذن ما علاقة التي يمكن إقامتها بين الحواس الخمسة، وبين معنى الأشياء والكلمات وبين المعنى كتوجه وكهدف؟ أعتقد أنه من الممكن أولا الجمع بين هذه المجالات الثلاثة الدلالية بواسطة البعد الزمني. بواسطة الحواس الخمسة نحيل على الادراك الفوري والمحسوس. بواسطة معنى الكلمات نتواجد في خضم الفهم الآني. وحين نتحدث عن إعطاء معنى للوجود، نتواجد في المستقبل. دلالة كلمة معني ترجع بنا إلى أبعاد الزمن الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. فكل وضعية يكون لها معنى حينما تبيح لمن يعيشها أن يربط مُعاشا (الحاضر) بماضٍ (أصل القضايا التي يحملها) ومستقبل (ما يهدف إليه).

أذكر في البداية أن المعنى ليس في الوضعيات التي نحياها. قلت «هذا المؤتمر لا معنى له، أنتم من سيعطيه أو لا يعطيه معنى». في المدرسة ليس للفلسفة معنى أقل أو أكثر مما للتربية البدنية والرياضية أو للموسيقى. لا معنى للشيء في حد ذاته؛ نعطي أو لا نعطي معنى للأحداث. فالمعنى هي مسألة جد شخصية: سيعطي البعض معنى لوضعية ما، وأخر لن يعطيها معنى، كما يمكنك أن تعطي معنى للندوة في الدقائق العشر الأولى ولا تعطيه لها في الدقائق العشر الأخيرة. المعنى هو أمر عابر للغاية، جد شخصي وتقل جدوته بسهولة.

عليّ الآن الربط بين هذين المعطيين اللذين ذكرتهما للتو: أن المعنى في الزمنية وأن المعنى في التفاعل. كيف الربط بينهما؟ إن كان لهذا المؤتمر معنى، فلأن فيما وراء اللحظة التي نقضيها سويا، ما وراء الحاضر، تحيل الكلمات التي نتبادلها على ماضٍ، على تساؤلات ضمنية أو صريحة حملتموها معكم وقد تجد عناصر إجابة لها ضمن هذه الوضعية. وقد تجدون معنى لهذا المؤتمر لكونه يسمح لكم تلمس إمكانية فعل مستقبلي. بذلك ليس المعنى في الحاضر، وإنما في الربط العرضي أو الواعي الذي يربط اللحظة الآنية أو الماضية أو المستقبلية بالفرد. فالحديث عن بيداغوجية المعنى، هو إذن شيئ آخر غير الحديث عن بيداغوجية الاهتمام، أو الدافعية التي تشدد على مختلف أوجه الحاضر.

تهتم البيداغوجية، حاليا، أكثر بالعلاقات الكائنة بين الحاضر والمستقبل من اهتمامها بالعلاقة بين الحاضر والماضي، عبر مفهوم المشروع. مشروع شخصي، مشروع مهني، مشروع المؤسسة: مجال الفعل البيداغوجي مخضّم بالمشاريع: إننا نعمل على أن نعطي للحاضر معنى بالاستعانة بالمستقبل، لا أن نمنحه معنى استعانةً بالماضي، أي بالتاريخ والأنثروبولوجيا. وسأدافع عن بيداغوجية للمعنى تهتم أكثر بعلاقات الحاضر-الماضي منها بعلاقات الحاضر-المستقبل بالنسبة للمواضيع المعنية.

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-