الفلسفة، التي تتميز بتساؤلها الأنطولوجي (ما هو؟)، لا
يمكن أن تفشل في التساؤل عن نفسها. الواقع أن لكل فيلسوف تعريف للفلسفة، وبالتالي
تعريف لفعل التفلسف. غير أن تعددها بنفسه مقلق فعلا: إنْ كان لكل مفكر تصوره الخاص
عن الفلسفة، يختلف به عن الآخرين، فما الذي يسمح بلمِّها بأكملها في نفس الحقل،
بتجميعها تحت مفهوم واحد، مفهوم ال«فيلسوف»؟ قد يكون للعلماء مفاهيم متعددة عن
العلم، والفنانين عن الفن: الثابت أن بإمكان العلم والفن أن يتميزا بعدد من السمات
الموضوعية، التي تسمح بتخصيص هوية لهما في استقلال عن التمثلات التي نكونها عنهما
والتعاريف التي نصوغها لهما. هل يسري هذا بالمثل على الفلسفة؟ من الممكن، في هذا
الصدد، صياغة عدد من الفرضيات، وعدد من المعايير الممكنة التي تسمح بتحديدها.
معايير التفلسف
موضوعه
يمكن بدءًا للتفلسف Le philosopher أن يتميز
بالمواضيع التي يهتم بها. فكما أن كل تخصص علمي يتحدد بالمجال الذي يقتطعه لنفسه
ضمن الحقل اللامتناهي للواقع –الفيزياء، البيولوجيا، العلوم الإنسانية لكل واحدة مجالها
الخاص بها- فإن الفلسفة تتحدد بمضمونها، من خلال طبيعة الواقع الذي تهدف لمعرفته.
بذلك فإن مجال الأفكار، في مقابل عالم الظواهر، هو الذي يحدد، بالنسبة لأفلاطون،
كلّا من منهج التفلسف (الجدل) والغاية منه (الحكمة). سيتبنى ديكارت هذا المفهوم من
خلال جعل التفكير، كمقابل للامتداد، الموضوع المُحدِّد للفلسفة: إذ هي المعرفة
بالروح في حد ذاته، في إطار منهج تأملي يستكشف المفاهيم الأولية وتسلسلها.
وبالمثل، يدعي هوسرل أنه يجعل من الفلسفة «علما صارما» في إطار كونها استكشافا
ظاهراتيا phénoménologique للجواهر المكونة للتجربة الحية.
غير أن الدفاع عن هذه الوضعية يبدو أقل قابلية. من جهة، المواضيع
المميزة تقليديا للفلسفة –العقل، الفكر الأخلاقي (الخير، العدالة) أو الجمالي،
العالم منظورا إليه بشكل شمولي، طبيعة الاجتماعي والسياسي، وغيره- هي الآن أيضا
إلى حد كبير مواضيع علمية، سواء تعلقت بالكوسمولوجيا (بالنسبة للعالَم) أو العلوم
الإنسانية، بالنسبة للعقل والقضايا الأخلاقية أو السياسية. وعلى العكس، فالمواضيع
التي بدا أنها لم تكن ذات يوم غير ذات صلة بالفلسفة –خاصة تلك التي ترتبط باليومي،
بالتجربة الأكثر تفاهة وابتذالا- قد تضمنتها التساؤلات الفلسفية المعاصرة: وبسبب هذا
التوسع في نطاق الفلسفة حارب مؤلفون كبرغسون وسارتر.
لذلك فإن مجال التفلسف، في نهاية المطاف، يتماشى مع مجال
التجربة والمعرفة بأكملهما؛ هذا يعني أن كل موضوع، كل تجربة، وكل مُعاش يمكنه أن
يكون التساؤل حوله فلسفيا. غير أنه إنْ كان بالإمكان التفلسف انطلاقا من أي وضعية،
من أي واقعة، فهذا يعني بشكل خاص أن كلّا منها يمكنها ادعاء قدرتها على تعريف
الفلسفة.
منهجيته
إننا نسير حتما في اتجاه معيارٍ ثان: ففي غياب القدرة
على التميز من خلال موضوع أو مجموعة مواضيع، يتم تعريف التفلسف بنهجه، بمنهجيته
الخاصة التي يستخدمها. فالفلسفة بالنسبة لهيغل، مثلا، متعايشة مع الوجود («كل ما
هو عقلاني واقعي، وكل ما هو واقعي عقلاني»)؛ لكن وعلى عكس نُّهَجٍ أخرى العلمية
والفنية والدينية، تسلط الفلسفة الضوء على طابعها الجدلي؛ وبذلك يكون المنهج
الجدلي هو الذي يميزها من حيث هي كذلك. سيتبنى ماركس هذه الفكرة مميزا بين المادية
التاريخية، التي تقوم على تحليل الواقع بأدوات المنطق الكلاسيكي، والمادية
الجدلية، التي هي من صلب الفلسفة أو بالأحرى هي الفلسفة ذاتها.
من الممكن اليوم الميل إلى تعريف التفلسف، مثلما فعل
ميشيل طوزي، من خلال مجموعة من الخطوات هي خاصة به: المفهمة، والأشكلة والبرهنة.
هذه الخطوات الثلاث ستشكل «العمليات الأساسية للفكر الفلسفي»([i]).
لكن من المشكوك فيه أنها تميز هذا الأخير في حد ذاته. ألا يتضمن كل منهج عقلاني،
والعلمي منه خاصة، عمليات للمفهمة، والأشكلة والبرهنة؟ نجيب أن المفهمة، والبرهنة
والأشكلة الفلسفية غير قابلة للاختزال في وضع المفاهيم، أو صياغة البراهين أو بناء
الإشكاليات، مثلا؛ إذ أن لها طابعا خاصا، مميز للفلسفة، بل يمكن أن نقترح على
التلاميذ تمارين تهدف إلى جعلهم يحددون ما يميز تساؤل فلسفي عن تساؤل تجريبي أو
علمي. قد يقال مثلا أن هذا يتعلق بوقائع قابلة للتحقق التجريبي، في حين أنها تتعلق
بجوهر أو دلالة عميقة، وجذرية، لظاهرة ما. إلا انه في هذه الحالة، لم تعد هذه
العملية العقلية أو تلك هي التي تحدد الفلسفة، وإنما الطريقة التي يتم الاشتغال
بها؛ حينها سنعود إما إلى القول بتصنيفٍ حسب المواضيع (ظواهر تجريبية/مفاهيم
أولية)، وإما بتمييزٍ مجالي (مادي/ميتافيزيقي)، التي سبق لنا رؤيتها واعتبرنا كل
منها غير كافية لتفسير التفلسف.
إلى هذا ينضاف أن الثلاثي مفهمة/أشكلة/برهنة ربما يكون
محدودا إلى حد كبير للتعبير عن كل مظاهر التفلسف. إنّ التفلسف، إن أخذناه مثلا لدى
كاتب كبرغسون، يتحدد تماما بعكسه: بالنظر إلى المفاهيم التقريبية والمصطنعة للمقاربة
المفهومية المرتبطة بحاجيات الممارسة والمعرفة للمادة، فإن المنهج الفلسفي يتمثل
في العودة إلى الحدس الحي للديمومة. فيما يتعلق بالتساؤلات الزائفة الشبه فلسفية،
لابد من العودة إلى حالات اليقين الخاصة بالمعطيات المباشرة للوعي، ذلك أن «القضايا
الحقيقية الكبرى لا تُطرح إلا عندما يتم حلها». فيما يتعلق بتقنيات البرهنة التي
تطبق في كل أوجه الواقع نفس الخطوات المنطقية، لابد من استعادة الإيقاعات الفريدة
لكل تجربة.([ii])
في نفس المنظور، يمكن التساؤل إن كانت أنماط من التعابير
كالقول المأثور، بمثل ما مارسه نيتشه، أو الخطاب الشعري أو التنبؤِي، كما بثه
نيتشه في زرادشت، تشكل جزءا أم لا من التفلسف. إن كانت الإجابة بلا، فبأي حق يتم
استبعاد مثل هذه الأشكال الخطابية؟ وإن تم قبولها، فلِم يتم اختزالها في صياغة عمليات
للمفهمة، والأشكلة والبرهنة، هذا في الوقت الذي يبدو واضحا أنها تتجاوز وتنتهك من جميع
الجهات القواعد المنطقية التي تميزها؟
يبدو إذن، على غرار المواضيع، أن تعريف التفلسف بواسطة
عملياتٍ للتفكير هو في نفس الوقت واسع جدا (نظرا لوجوده ضمن مناهج أخرى، كالمنهج
العلمي) وضيق جدا (لأنه يستبعد أشكالا أخرى من التفلسف الذي هو بالتأكيد الأقل
انتشارا أو الأقل تمثيلية للمتن الفلسفي، لكن من الأهمية بمكان).
غايته
يمكن عندئذ طرح معيار ثالث: ألا يمكن تعريف التفلسف
بغايته؟ ألا يكون هذا هو النهج الذي من خلاله تُنتزع به الذات أو تحاول تُنتزع من
كل تكيّف لبلوغ الاستقلالية الفكرية والأخلاقية، النظرية منها والعملية؟ كلمة السر
هي: «التفكير بذاته» التي ستعبر حينها عن جوهر التفلسف، الذي لن يعد مرتبطا بحتمية
موضوعية (مجال الذات الخاصة) ولا بحتمية صورية (استخدامُ منهجيةٍ، وعمليات عقلية
محددة)، وإنما بحتمية ذاتية، أي بإرادة ذاتٍ، بممارسة حرة معنية بتأكيد الذات
صراحة.
في هذا المعنى جعل جون-كارل بوتييه Jean-Charles Pettier من التفلسف
شرط إمكانية المواطنة، وبالتالي الديموقراطية. ال«حق في الفلسفة» هو إذن أول حقوق
الإنسان، الذي عليه تتأسس كل الحقوق الأخرى، وذلك بقدر ما أن ممارسة ال«حريات
الأساسية» تفترض قدرة كل إنسان على تحديد قيمه، مشاريعه، مبادئه الفكرية والعملية وذلك
بطريقة سيادية – تحديد الفعلي لتعريف التفلسف.
هذا التوصيف هو بالتأكيد الأكثر وضوحا. لكنه ربما لا يزال محدودا جدا، بقدر ما إنه بالتحديد ذاتي، أي بقدر ما إنه يختزل التفلسف في عملية فردية، وفي حدود مفردة. كيف يمكن إذن إبراز البعد الكوني للتفلسف؟
https://philogalichet.fr/wp-content/uploads/2011/10/Quest-ce-que-philosopher.pdf
الهوامش:
[i]-
Cf M.Tozzi
et alii, Apprendre à philosopher dans les lycées d’aujourd’hui, CNDP-Hachette,
1992, p. 37.
[ii] - حول هذه النقطة نسمح لأنفسنا للإحالة على مقالنا:
Une
critique des lieux communs de la philosophie scolaire, Les
Cahiers philosophiques de Strasbourg, n° 6, 1998,pp.95-108.