لورون جافرو
Laurent Jaffro
ينتاب
قراء فوكو شعورا بالحيرة حين يقارنون مفهوم تقنيات السلطة الذي عُرض في المراقبة
والعقاب مع مفهوم التذويت subjectivation الذي تثيره أعمال سنوات الثمانينات حول الاهتمام
بالذات. في البداية كشف فوكو عن مشروع استعباد خلف الأشكال الأكثر لطفا للانضباط
والعلاج والتربية، بما فيه تلك التي توصي بالتحكم في الذات؛ قد يتفاجأ المرء حينها
أنه انتهى بتصور بعض تقنيات السلطة على الذات على أنها أدوات للتذويت، بل، ودون
كثير من الحذر، للتحرر([i]).
فالسؤال الذي مفاده: كيف يمكن تمييز شكل تحرري للتحكم في الذات عن الاستلاب الذي
تتمثل فيه المراقبة بصفة عامة؟ لا يُطرح فقط داخل البيوغرافية الفكرية لفوكو،
وإنما يشكل مسألة يجب على كل تأمل حول التربية الخلقية أن يواجهه. كيف يمكن الجمع
بين الخوف من المراقبة والثقة في النفس؟ سأحاول الاستعانة بال"حيرة" من
أجل فهم أفضل للتربية الخلقية، على الأقل في جانب محدد تكون التربية فيه أخلاقية،
أقصد ما يسمى ببناء الاستقلالية.
الطابع
الإشكالي للتمييز بين مراقبة الذات المستلِبة والتذويب الفعلي هو نتيجة المفهوم،
الذي ينخرط فيه فوكو، الذي بحسبه تنبني الذات، أولا، ويكون هذا البناء ذا طبيعة
تقنية، ثانيا. ولا يقود التصور المعاكس، الذي يجعل من الذاتية جوهرا أو معطى، إلى
هذا النمط من المشاكل بصورة مباشرة. فليست حرية الذات مشكوك في كونها قد تعرضت
للتقويض بسبب التقنيات التي تقوم ببنائها، وذلك ببساطة لأن الذات ليست بناءً. ذلك
أن الأطروحة التي بموجبها تكون الذات بناءً غامضةٌ للغاية. ويتقاسمها فوكو، على
الأقل، لفظيا مع قطاعات أخرى من العلوم الإنسانية، كعلم النفس التكويني أو علم
الاجتماع.
يمكن
تحديد الصعوبة الكاملة لفلسفة فوكو على النحو التالي: إذا تم التأكيد على أن الذات
قد تم بناؤها من طرف تقنيات السلطة، فكيف يمكن التمييز بين البناء الذاتي المحرِّر
وبين محاكاة البناء الذاتي (الانضباط الذاتي الذي تعلمنا السوسيولوجية أنه مجبول
على الفردانية المعاصرة)، دون أن يكون هذا التمييز مجرد افتراض مسبق؟ لا يختلف
التحكم في الذات في جوهره عن التحكم في الآخرين: إنهما جزء من نفس التقنية. مؤشر
على ذلك: سياق تطوُّر التقنية الذاتية هو مواقف القرابة أو البيداغوجية، أي التحكم
في الآخرين. مؤشر آخر: يتحدث فوكو عن «تحول» للسلطة مصاحب باهتمام بالذات، وليس عن
نوع أخر من السلطة([ii]). لن
يكون مقبولا أن يكون الجواب على السؤال قائما على إعادة تقديم لذات أساسيةً أو
محددة مسبقا بشكل خفي. الاعتناء بالذات يمكن أن يعني بكل بساطة استدخال المطلب
الاجتماعي لتهدئة الدوافع وتحمل المسؤولية. أعتقد أنه لا يتم اقتراح توضيح مقنع إن
قلنا أن، في هذه الحالة، ليس هناك تذويت حقيقي وذلك لأن، خلف المظاهر الخادعة،
الآخرين هم من يعتنون بي، بينما حين تكون الذات حقيقة هي التي تعتني بنفسها ستكون
هناك ممارسة حقيقية للحرية. هذا التفسير، البدائي جدا، يستبعد في جوهره من حيث
المبدأ الشك في كونه، حين يُطلب مني الاعتناء بنفسي، لن يكون سوى الشكل الأكثر
خبثا الذي من خلاله يتدخل المجتمع بأسره في شؤوني.
بشكل
موجز أبتدئُ بإعادة بناء ما قد غذى حيرة قراء فوكو. فلا المراقبة والعقاب
ولا الأعمال الأخيرة ستقدم إجابة مقنعة على هذا السؤال. سيبدو بعد ذلك أن تفكير
فوكو مرتبط، طوعا أو كرها، بالمشكلة التقليدية للتربية الحرة وأنه، حتى إن لم يجب
عنها، يرجع له الفضل على الأقل في إعادة طرح والتذكير بمسألة اعتادت العلوم
الإنسانية المطبقة في مجال التربية على حجبها([iii]).
التصور التقني للسلطة
أول
المعايير الذي يقترحه المراقبة والعقاب لتمييز الرقابة عن الذاتوية النسكية
أو الدينية معيارُ المنفعة. ففي شأن تطور تدريس الأطفال خلال القرن الثامن عشر،
يلاحظ فوكو:
تعمل أشكال
الانضباط بشكل متزايد كتقنيات تنتج أفرادا مفيدين. من هنا حقيقة كونها تتحرر من
وضعيتها الهامشية على حافة المجتمع، وتنفصل عن أشكال الإقصاء أو التكفير، العزلة
أو الخلاص. من هنا، أيضا، حقيقة أنها تفكك ببطء علاقة القرابة التي تجمعها
بالأنظمة والحدود الدينية([iv]).
يتعلق
الأمر، فيما وراء الخطابات التحررية التنويرية، بتعرية عمق تقنية الانضباط: «ال"تنوير"
الذي كشف عن الحريات قد ابتكر أيضا الضوابط»([v]).
هكذا تعقب فوكو تقنيات السلطة، من حيث أشكالها الانضباطية، باعتبارها وحدها
الفعالة وراء المُثل التي تعرضها الفلسفة والنظرية السياسية. في نظر فوكو ضمن
كتابه المراقبة والعقاب، من المؤكد أن التحرر جزء من هذه المثل العليا([vi]).
كونية ميكانيزمات المراقبة لا تعيق فوكو عن الحفاظ على الاختلاف بين أشكال التأديب
الموجودة في المدرسة، والممارسات الموجودة في الحياة النسكية («الأنظمة والحدود
الدينية»). تتلخص المسألة برمتها في معرفة كيفية إحداث هذا الاختلاف. هل معيار
المنفعة صحيح؟
يقدم
لنا مقطع آخر من المراقبة والعقاب عناصر أكثر دقة. فيه يحدد فوكو ما يعنيه
بالتمرين ويدرس الفرق الكائن بين التصور الأخلاقي-الديني للممارسة والتصور المدرسي
أو التأديبي أو السلطوي. وهو يؤكد على الطريقة التي بها يتم نقل الممارسة الساعية
للكمال إلى المدرسة وكيف غيرت من توجهها بعمق. لقد كتب، مستندا إلى الأعمال التي
خصها المؤرخون لمصادر البيداغوجية اليسوعية، ما يلي:
إخوة الحياة
المشتركة [...] نقلوا بعض التقنيات الروحية إلى التربية [...]. موضوع الإتقان الذي
يوجِّه إليه المعلم النموذجي سيتحول إلى اتقان التسلط على التلاميذ من قبل المدرس؛
وتصبح الممارسات الأكثر صرامة التي تعرفها الحياة النسكية مهامَ ذات تعقيد متزايد
تطبع الاكتساب التدريجي للمعرفة والسلوك الحسن؛ مجهود المجموعة بأكملها من أجل
الخلاص يصبح تباريا جماعيا ومستمرا للأفراد الذين يتم ترتيبهم الواحد إزاء الآخر([vii]).
ما
الفارق الذي يحدثه فوكو بين حياة الزهد والانضباط المدرسي؟ قد لا يكون الأمر
اختلافا في الطبيعة (مادامت امبراطورية تقنيات السلطة تمتد "في كل مكان")،
لكنه على الأقل اختلاف توجيهي. فالحياة الزهدية تهدف فعليا إلى «الفوز بالخلاص»،
بينما الممارسة المدرسية «تعين على اقتصاد وقت الحياة، وتجميعه لغرض مفيد».
نعلم
منذ أرسطو أن القدرة التقنية (dunamis)، بخلاف التصرف الأخلاقي (hexis)، غير موجهة
بشكل ثنائي نحو الخير أو إلى الشر، لكنها محايدة تجاه الاستعمال، الخيّر أو السيئ،
الذي يتحقق بها. يبدو لي أن هذه الصفحات القليلة من المراقبة والعقاب تتبلور
ضمن هذا التصور الأرسطي عن التقنية. عندما يتعلق الأمر بالتمييز بين «تقنية الجسم
السياسي» والتي هي أيضا «تقنية الروح»، كما تتجسد من خلال المراقبة البيداغوجية،
من جهة، و، من جهة أخرى، تقنية الذات «في شكلها الصوفي أو الزهدي»، فإن فوكو يعتمد
على الاختلاف في الاستعمال. فهو يخبرنا أن الممارسة الانضباطية «تميل نحو الخضوع
الذي لا ينتهي أبدا».
ويشير،
في موضع آخر، إلى أن الإجراءات الانضباطية كانت موجودة بالفعل قبل العصر الحديث
بوقت طويل، إلا أنه لايزال يتبنى وجهة نظر الإجراء الأداتي الخارجي للتمييز بينها:
إذ الزهد والأشكال التأديبية النسكية «لها وظيفة ضمان الإكثار من التضحيات
عوض زيادة المنفعة» و« يكون هدفها الرئيسي، وإنْ كانت تنطوي على الخضوع
للآخرين، زيادة سيطرة كل شخص على جسمه»([viii]).
وعلى العموم فتقنيات السلطة موجودة في كل مكان؛ لكنها موجهة في بعض الأحيان نحو
الإخضاع، وأحيانا أخرى نحو التحسين. وهذا التوجيه ليس غاية منصوص عليه في حكم ما، لكنه
يُمنح لقدرة تقنية من خلال الاستعمال الذي يتم به.
هذا
ما يجعل الخطاب بخصوص النزعة الكمالية، في إطار مفهوم معين، غير قادر على التطور
إلا بأسلوب حر غير مباشر. فحين يعترف فوكو أن بعض الممارسات هي موجهة نحو التحرر،
وأخرى بالأحرى نحو الإخضاع، في حدود ما تنشطه الكفاءات التقنية (نفسها في كل مكان)
وليس الاستعدادات الخلقية، لن يكون الفرق بين التحسن الأخلاقي والائتمان السلوكي
ليس سوى اختلاف في الوضعية أو في وجهة النظر، انعطاف بسيط وليس قطيعة. ننزلق من
الزهد المسيحي إلى الانضباط المدرسي، من الممارسة النسكية إلى سن الامتحان. وليس
هوس بيداغوجية التقويم سوى نهاية هذا الانزلاق([ix]).
رابط الجزء الثاني من هذا المقال من هنا
Le Télémaque 2006/1 (n° 29),
pages 111 à 124, Éditions Presses universitaires de Caen
الهوامش
[i]-
انظر المثال:
« L’éthique du souci
de soi comme pratique de la liberté » [1984], in Dits et Écrits ,t. IV,
D. Defert et F. Ewald (éd.), Paris, Gallimard, 1994, p. 708 sq
[ii] - «أخلاقيات
الاهتمام بالذات كممارسة للحرية»، ص. 715.
[iii] -
تركز الأعمال المرتبطة بمشكلة «فوكو والتربية» بشكل
أساسي على نقد السلطة التأديبية. أنظر على الخصوص، S. Ball, Foucault
and Education : Disciplines and Knowledge , Londres, Routledge, 1990 ; Durkheim
and Foucault : Perspectives on Education and Punishment , M.S. Cladis
(éd.), Oxford, Durkheim Press, 1999 ; Foucault’s Challenge : Discourse,
Knowledge and Power in Education , T.S. Popkewitz et M. Brennan
(éd.), New York, Teachers College Press, 1998.
[iv] - M. Foucault, Surveiller et Punir (cité désormais SP ),
Paris, Gallimard, 1975, p. 21
[v] - Ibid., p. 224.
[vi] - لابد من تدقيق
هذه النقطة من خلال قراءة «What is Enlightenment ? » [1984], trad. fr. «Qu’est-ce
que les Lumières ? », in Dits et écrits , t. IV, p. 562-578، الذي يعيد تقييم التنوير كموقف
أو ethos.
[vii] - SP , p. 163-164.
[viii] - SP , p. 139، (التشديد مني)
[ix] - SP , p. 188-189.