ميشيل سوتارد
لقراءةالجزء الأول من المقال اضغط هنا
الثقافة والبيداغوجية
مساهمة أعمال جون كلود فوركين الأكثر أهمية
تجد ينابعها، فيما يبدو لي، وكما هو الحال دوما بالنسبة للأكاديميين الذين قضوا
سنوات في تعميق البحث في موضوع بعينه، ضمن مؤلف مستلهم مباشرة من أطروحته، وهو
الذي يلهم هذه الندوة بعنوانها: المدرسة والثقافة. سأعود إليه بشكل منتظم، ولا
يمكنني عدُّ عدد الطلبة الذين يجدون في قراءته قاعدة صلبة في التفكير.
ما يثير، على وجه التحديد، اهتمام الفيلسوف أكثر،
إضافةً إلى التحليلات الدقيقة والوثيقة الصلة لمواقف علماء الاجتماع البريطانيين، هو
تلك الاعتبارات النهائية المتعلقة بالعلاقات بين البيداغوجية وعلم الاجتماع والثقافة.
يقف فوركين على مسافة من ال«العقل الاجتماعي» وال«عقل البيداغوجي»، مع حرصه على
التدقيق بينها. يقول عن العقل الاجتماعي «أنه يتوجه كلية إلى وصف، وتفسير الظواهر
وجعلها موضوعية. الحتمية منبعها التجريبي، النسبية ميلها الطبيعي، والتشدد النظري
فضيلتها». ويضيف «على العكس من ذلك، العقل البيداغوجي هو بالأساس معياري وتوجيهي prescriptive، والشمولية ميله الطبيعي (...) افتراضه
الطبيعي نوع من المثالية العملية». إن كان علم الاجتماع لا يهتم بالقيم، إلا
في حال اختزالها في وقائع قابلة للوصف، فمفهوم التربية، من جانبه، لا ينفصل هيكليا
- «فينومينوليجيا» كما يؤكد فوركين- عن مفهوم القيمة، فهو لا ينفصم عن النظام والمقياس
القيمي. إنه توجيهي. علما أن الوصفي و التوجيهي لا يمكنهما التعايش. ويستخلص
زميلنا أن «لهذا السبب يشكل التعاون بين علم الاجتماع و البيداغوجية موضوع نزاع
دائم وميدان سوء فهم دائم» (p. 185).
لا يسعنا إلا أن
نربط، ونقابل، نتائج سوء الفهم هذا بتحاليل مواقف علماء الاجتماع البريطانيين التي
تشكل مادة هذا المؤلَّف. فما يُتفق على تسميته بال«إمبريقية الانجليزية» إنما هي تسبح
في نفس الحركية، على أساس الاعتراف بأسبقية الواقع على الفكر، و بالتحاليل
العلمية، الدقيقة والصارمة في نفس الوقت، للمواقف الاجتماعية المعطاة، أو بإعطاء
قيمة للقيم التي يتم تفعيلها خلال البحث عما هو مبحوث عنه في الواقع. وحتى في حالة
رغبتها أن تكون نقدية، كما هو الحال في ال«علم الاجتماع التربوي الجديد»، وأن تعمل
على الأخذ بعين الاعتبار الافتراضات الايديولوجية المتضمنة للعمليات والإجراءات
المدرسية، فإن هذه المقاربة لا تبلغ مستوى قلب أسبقية الواقع على الفكر. إننا، وباعتبارنا
حبيسي النظرية الديكارتية، قد نتفهم انبهارنا بطريقة العمل هاته التي تطرح المسألة
المحلولة من حيث المبدأ حتى قبل أن يتم طرحها نظريا (مع صعوبة ألاَّ تغادر،
بالنسبة لنا، النظرية...). لكننا لا نعيد بناء أنفسنا من الناحية الثقافية: ففي
بلدنا الحبيب فرنسا، العلاقة بين علم الاجتماع والبيداغوجية لا يمكن إلا أن تكون «مأساوية»
محكوم عليها بسوء الفهم([1]).
اقرأ أيضا: البيداغوجية وعلوم التربية: علاقةصعبة
لربما أننا في هذا
ورثة الجيل الثقافي الثالث، أقصد: ذاك الذي، ابتداءً من كانط والمثالية الألمانية،
قد شكّل طريقتنا في التفكير الحديث، وبالطريقة الأكثر منهجية. «سوء الفهم الدائم»
الذي يشير إليه جون كلود فوركين إنما يحيل في العمق، لدى فيلسوف كونيسبورغ Kônigsberg، إلى وضعية الحرية في علاقتها
بالطبيعة. هذا لأننا نكتشف أنفسنا ككائنات متجذرة جيدا في الطبيعة، لكن قادرة كذلك
على أخذ نصيب من الحرية للتفكير في معنى لا يدين لها بشيء: تعتمد التربية تحديدا
على هذه القوة التي نتمتع بها من خلال حريتنا. الإنسان، بإعادة استعمال
عبارة من نقد العقل العملي، كائن «متعقل ومحدود»: محدود لكونه خاضع تماما لآلية
الطبيعة ومحدد بواسطة المسببات التي تؤثر فيه (ما سبّب في ظهور العلوم الانسانية)؛
لكنه، لكونه متعقل، قادر على التفكير في معنىً في حد ذاته يرضيه تماما (مما يترك
مجالا للفلسفة). بهذا تتسع هوةٌ، يبدو من الممتنع التغلب عليها، بين المجال
الطبيعي (القابل للتطبيع الاجتماعي socialisée) ومجال الحرية. يبقى على هذه الحرية، إن رغبت في التحقق، أن تجد
بالضرورة مسارا، لا يمكنها أن تجده سوى في الطبيعة وفي متغيراتها الاجتماعية. فإذا
رغب الإنسان في التأثير عليها بغية أنْسنتها – وهو يتصرف في الواقع في هذا
الاتجاه، فهو يربي بالفعل-، فمن المهم أن يكون الواقع إلى حدود معينة قد تمت
صياغته بواسطة الحرية([2]). و، كما يؤكد إيريك فايل Eric Weil، فقط إلى حدود معينة، وإلا فإن الحرية، التي
يمكن اختزالها في وقائع نهائية، ستصبح غير معقولة.
ينطلق زملاؤنا
البريطانيون من أن الحرية متحققةٌ في المجتمع، وأن هذا الأخير يكتمل بفعل الحرية:
لذلك لا يمكن أن يكون النقد جذريا، بل عليه أن يَقنع بالمصاحبة، النقدية بكل
تأكيد، لعمليةٍ تنتمي للحرية الفاعلة؛ لم يكن التفكيك يعني بالنسبة إليهم أن
الأمور لا يمكن أن «تنجح». ولأننا ورثة التقليد الألماني، فإننا أكثر تطرفا منهم:
إن كانت الحرية ملزمة أن تجد سبيلها في الطبيعة، فهذا ال«الإلزام» ليس من مرتبة
الضرورة الفيزيائية، إذ يتم التركيز عليه من طرف إرادة يجب عليها بطريقة أو بأخرى
إخضاع الواقع. ومن هنا تأتي نزعتنا الإرادوية volontarisme، «الجمهورية» عن طواعية.
إنه من الأهمية
بمكان، في هذه المرحلة من مقاربتنا المقارنة، تعميق النظر في تحاليل الفكر
الأنجلوساكسوني التي يعرض علينا جون كلود فوركين، سواء تعلق الأمر بحقل
السوسيولوجية أو بالفلسفة، وأيضا تعميق النظر في مفهوم Bildung، المركزي في
الفكر الألماني، والذي قد يجد له ترجمة في عبارة «ثقافة». أصوله بعيدة، دينية وذات
مسحة صوفية لدى جاكوب بوهم Jakob Bôhme؛ و هردر قد « أوضحه»، أي علْمنه في القرن الثمن عشر؛ وسيتطور أكثر مع
هيجل و، خاصة، مع ويلهايم فون هومدولت، مؤسس الجامعة الألمانية؛ ثم إنه سيولِّد
تيارا بأكمله من الثقافة البيداغوجية Kulturpàdagogik التي، بفضل
مفكرين كإيدوارد سبرانجر وثيودور لِيتْ، سيجمع في نفس الحركة تطور َالطبيعة، وتطور
المجتمع، وإشاعةَ الحرية ومعنى التربية([3]).
اقرأ
أيضا: مشكلة مصطلح Pédagogie
إلا أن هذا
الاحتفال، ذا الطابع المسيحي أولا، ثم الإنساني ثانيا، للـتثقيف لم يمر دون
مشاكل أو مُساءلة بدءا من حقبة معينة وسياق محدد. بدأ التشكيك في مزايا الثقافة من
خلال ملاحظة أنها، لدى الشعب الأكثر موهبة فكريا في أوروبا، قد رافقت وساندت العمل
الأكثر وحشية وأكثره تنظيما: إذ لم يتوقف النهج النقدي لمدرسة فرانكفورت عن
الدوران حول ثقب العدمية التي بُدِئ في حفرها في قلب التثقيف Bildung. بتعبير صريح: هل يمكننا، بعد أوشويتز، التفلسف (والتربية) كما
كان عليه الأمر من قبل بشأن هذا النفي المخطط للإنسان من خلال استئصال واحد من
جذوره الثقافية؟...
إنها من دون شك
المناسبة السانحة لتذكُّر جملة كانط التي نجدها في هوامش الدروس التي نشرت بعنوان Ûber Pàdagogik (المترجم ب: تأملات في التربية): «يمكن لإنسانٍ أن
يكون شديد التكوين جسديا (gebildet)، وتفكيره مُجلَّلا
بشكل كبير؛ كما يمكنه أن يكون ضعيف التكوين العقلي، ورجلا شريرا» ( ترجمه إلى
الفرنسية Philonenko, Vrin,
p. 109). روسو، ذاك الذي كتب خطاب عن العلوم
والفنون، والذي كتب أيضا إيميل الذي رجع إليه كانط وهو يكتب هوامشه،
روسو ذاك ليس بعيدا عن هذا المعنى: لابد من التمييز الجذري بين نظام العقل، وعالم القيم، وبين النظام الطبيعي
والوقائع الاجتماعية. فالأول يستدعي الحرية، والبحث عن الهدف، والنِّية واتخاذ
القرار؛ الثاني يفترض حتمية الوقائع، ويعتمد على الأسباب، ويسعى إلى استتباب
القوانين العامة.
اقرأ
أيضا: كيف يمكن نقل القيمالمدرسية؟
كيف تتموقع الثقافة
الآن بالعلاقة مع هذين العالمين؟ قد سيكون مغريا تحويلها إلى مفهوم تركيبي تلتقي
فيه الواقعة الاجتماعية والمعنى الذي يقيمه الإنسان عن نفسه، كنوع من الأفق
الفلسفي غير القابل للتجاوز. هذا ليس بخاطئ، طالما أن الموضوع الثقافي، على غرار
الموضوع الجمالي، ناقل لهذه الغاية التي تسمح للإنسان بالعيش لا كوحش، وإنما يشيد وجودا
له معنى يتجاوز بذلك مكونات هذا العالم. فقراءة مسرحية لراسين، ليست فقط عملية
تجميع لسلسلة من الكلمات، بل هي، من خلال تلك الكلمات، انضمام للإنسان السامي
المستلهم من خلال السؤال: «إلى أين يسير الإنسان؟»، ونعيش لحظتها متعة جمالية.
لاشك في أن الثقافة ناقلة للقيم، وأنها ليست مجرد قيمة إنسانية يتم تشكيلها فحسب.
هل يمكننا التوقف عند هذا الحد وإقامة شمولية أخلاقية، إقامة أخلاق كونية على هذه
المواضيع الثقافية؟ ذلك لأن هذا هو المبحوث عنه، وعلى هذا يؤكد جون كلود فوركين
لدرجة الهوس: ما الطريقة التي تجنبنا النسبية الثقافية في التعليم؟ هل من الممكن
أن نتوقع من السلطة –ونقصد الدولة، بعد الكنيسة- أن تحدد ما يستحق أن يُدرّس؟
المسألة محفوفة بالمخاطر، لأن هذه الضريبة الثقافية لا تقدم أي ضمانة على
العالمية. من يقرر بالفعل في القيم، وباسم من؟ و ماذا عن القيم الكاثوليكية حينما
تضم مدرسةٌ تتبناها أكثر من 80% من الأطفال المسلمين؟ هل مازالت
الدولة تتمتع بسلطة الإدماج كما كانت زمن «فرسان»ـها؟ الخبراء كلهم متفقون أن
الجمهورية، وإلى يومنا هذا، لن تقوم بتقزيم
بدور المربي ... وحتى إن رغبت في ذلك، فلن يكون لها لذلك سبيلا. –وهي أكثر من ذلك
أقل قدرة على التخليق بواسطة مواضيع ثقافية متداخلة: وقد برهن أَلَانْ بشكل رائع
عن فشل المحاولتين ال «علميتين» الكبيرتين اللتين تدْخُلان في هذا الإطار: محاولة
دوركهايم ومحاولة كونت([4]). هي فرصة أخرى لنا لاستحضار
قولة كانط، والأخذ بعين الاعتبار تجسيدها الرهيب في حالة المحرقة: فالمجتمع البشري
الأفضل تكوينا، الذي أعطى باخ وهيجل وغوته يمكنه في أي لحظة استعمال هذه الثقافة
لارتكاب الجرائم الإنسانية. علينا أن لا نقول أنها مصادفة تاريخية: أن الشيء نفسه
الذي وقع بشكل مصغر في كوسوفو، لا ينقص شيئا من النوايا الخبيثة لدى الإنسان...
هذا يعني أن لا الثقافة، ولا حتى « القيم» هي التي تصنع الإنسان.
إن كانت تشكل الممر الضروري نحو الأنسنة، فإنها لا تقدم الضمانة الموضوعية لذلك،
بل هي أبعد من ذلك: لا تزال هناك حاجة للاستفسار عما سيفعل بها الإنسان، وبالإرادة
التي سيستخدمها في إخضاعها لخدمة نية خيرة أو لمشروع شرير. نعرف، في ودوائرنا
الأكاديمية، أن سمو المعرفة لا تقدم أية ضمانة عن الأخلاق الإنسانية وصدقها، وأنها
غالبا ما تبيح مضاعفة الحيل الشريرة في أكثر العلاقات بساطة، حيث ننتظر... شيئا من
الإنسانية. هذا يجعلني متشككا في خطابات ال«قيم»، وفيما تسميه ب«العودة» (هل كان
بإمكاننا على الأقل العيش دون قيم؟) وخدمتها لفضاء موضوعي: ما يهمني أكثر هو ما
يفعله الإنسان الماثل أمامي بقيمه في فعله الواقعي، و، أكثر من ذلك، في صفاء نيته
(والتي لا يمكنني بطبيعة الحال اختراقها بشكل كلي، ومع ذلك...).
اقرأ أيضا: جدل الذات والآخر
إننا هنا أمام منهج كانط في نقد الحكم: إن الموضوع الثقافي، الذي تولّد
عن الحرية بكل تأكيد، لايزال يترك مسألة استخدامه مفتوحة بهدف تحقيق الحرية
الحقيقية في الإنسان وتحقيق كرامته. يمكن لهذا الموضوع أن يُعزِّز، لكن أيضا يُقيِّد،
الحرية: إذ يبقى متضاربا فيما يتعلق بالنوايا الإنسانية. وفي هذا من الممكن تقديم
براهين تاريخية ويومية على ذلك.
الحال أن لكلٍّ نيته. فهل نفْلت بذلك من النسبية، وشيوعها من خلال الثقافة
وإنتاجاتها؟ هل لايزال للمدرسة من معنى؟ هل لايزال للتعليم مبررات وجوده؟
تابع الجزء الثالث من هذا المقال بالضغط على الرابط التالي
Soëtard Michel. L'École entre sociologie,
culture et philosophie : la chance de la pédagogie. In: Revue française de pédagogie, volume 135, 2001. Culture et éducation: Colloque en hommage à
Jean-Claude Forquin. pp. 117-124;
الهوامش
[1] -
في هذه الأثناء، يتساءل فوركين بإلحاح، فيما يتعلق بفلسفة التربية
البريطانية منذ 1960، إن «لم تكن، من بعد صناعة مفاهيم حرة التكوين تفلت بطبيعتها،
نظرا لعدم وقوعها في التناقض، من كل مراقبة وكل نقد، قادرةً على حذف سبب وجود
المناقشة الفلسفية» ((« La philosophie de l'éducation en Grande-Bretagne :
orientations et principaux apports depuis 1960 »,Revue française de pédagogie,
n° 89, 1989, p. 77)
[2] -
سنقدر جدلية الفيلسوف الألماني: «على الرغم من أن هوة، لا يمكن بالعين
المجردة تخطيها، تثبت بين مجال مفهوم الطبيعة باعتباره حساس، ومجال مفهوم الحرية
باعتباره جد حساس... تماما كما لو كان يتعلق بعالمين مختلفين بحيث لا يؤثر الأول
في الثاني: على الأقل يجب على الثاني (soil، يؤكد كانط) أن يؤثر في الأول... ويتوجب (muss)
بالتالي أن يتم التفكير في الطبيعة بطريقة تجعل شرعيتة (Gesetzmassigkeit)
شكلها تتلاءم على الأقل مع إمكانية تحقيق أهدافها التي عليها، بحسب قوانين الحرية،
أن تتحقق فيها. إذن لابد أن يكون هناك أساس للوحدة بين ما فوق المحسوس الموجود في
قعر الطبيعة وما يتضمنه، من وجهة نظره العملية، مفهوم الحرية، وهو الأساس الذي إن
لم يبلغ المفهوم، لا نظريا ولا عمليا، إلى معرفة... سيجعل من الممكن على الأقل
مرور طريقة التفكير بحسب مبدأ الواحد إلى طريقة (تفكير) مبادئ الآخر» (Critique du Jugement,
Introduction, cité par Eric Weil in Problèmes kantiens, Vnn, 1974, p.
65-66).
[3] -
لتتبع تاريخ تطور هذا المفهوم بأشمله وصوره الرمزية، يمكننا الرجوع إلى
مؤلف Mario Gennari, Storia delle Bildung, La Scuola,
1995.
[4] -
La science n'éduquera pas. Comte, Durkheim, le modèle
introuvable, Peter Lang, Coll. Exploration, 1988.