أخر المقالات

المدرسة بين علم الاجتماع، والثقافة والفلسفة: حظ البيداغوجية (الجزء 3)

 



ميشيل سوتارد

الجزء الثاني من هذا المقال من هذاالرابط

البيداغوجية والنسبية الثقافية

لكون  جون كلود فوركين بارمنيديا أكثر منه هيراقليطيا، فقد ظل منشغلا بكيفية جعلِ المدرسة تتخلص من النسبية الثقافية والأخلاقية مما قد تسبب في جعل مشروعه لا يتصف بالمعقولية. إن أُعجب وعمل على مقاسمتنا انجازات «علم الاجتماع الجديد»، فذلك لفتح نقاش حول النسبية الابستيمولوجية التي تقوم عليها؛ ال«انثروبولوجية»، التي تكون التطبيقية بكل تأكيد حين تكون هناك رغبة في إنتاج هذا الخليط المشبوه في حقيقته ومعناه الذي يستغني عن بلوغ عمق التساؤل الفلسفي، هي انثروبولوجية تجعله غير مقتنع مادام أنه لم يحسم بين النسبية والشمولية، ولم يقدم عنها تركيبا جد مبسط. وإن يقر، في سياق المجتمعات المعاصرة المتعددة الثقافات، بعجز المدرسة تماما عن نكران تنوع العموم المعهود لها، فإنه يفترض -«بسبب الافتقار إلى الحجج العلمية أو المنطقية الحاسمة التي تمكن من القطع "في العمق" في النزاع حول النسبية»- أنها لا يمكنها سوى اختيار الشمولية إن رغبت الاحتفاظ على تماسكها، وأن هذا الاختيار «كفلسفة تبريرية للتعليم يبقى مقبولا، على عكس الاختيار المعاكس الذي يستبعد التعليم». ثم يخلص بحذر: «لكن هل الجميع مطالب بالتدريس؟»([1]).

الإجابة بكل تأكيد مقنعة من الناحية الفكرية، لكنها تترك المربي الممارس في حيرة كبيرة: إن كان ضروريا السعي إلى «التأكيد، سواء على صعيد المحتويات وعلى صعيد الإجراءات التدريسيين، على ما هو أكثر عمقا، والأكثر ثباتا والأكثر ترسخا في المظاهر الثقافية الإنسانية»([2])، فما هو إذن معيار هذا «العمق»، وهذا «الثبات»، وهذا «الرسوخ» الذي سيسمح به للتصرف وفقا له؟ ألا يتم إحالتنا على الإنتاجات الفعلية للثقافة الإنسانية، علما أنها، باعتبارها حاملة لكل القيم الممكنة، مكمن المشكلة بالضبط؟ أم علينا انتظار أصبعٍ علويٍ يشير بسلطوية إلى ما له قيمة، وأن يكتبه أساتذة المدارس على السبورة في الصباح، كما فعل الله على ألواح موسى؟ سيكون الجواب بنعم، إن نحن تأكدنا من أن الفاعل هو الله. الحال أن المطلب الديموقراطي قد أصبح يتمثل في مطالبة ال«رعايا» بأن يشكلوا جزءا مشاركا في هذه «العملية التخليقية» الجديدة، خصوصا إن كان من الضروري قبول انعدام وجود توافق اجتماعي في هذا المجال. من هنا هل سيكون لكل واحد، ولكل مجموعة أخلاقها؟ إننا نلف كآلة الغزْل.

إن كان من اللازم أن يكون للفعل البيداغوجي معنى، فلابد أن يكون هناك جوابا نظريا على المشكل المطروح، عوض أن نسهب الحديث عن مأساة الوضع البيداغوجي. يتعلق الأمر بالذهاب أبعد من الحديث عما هو تجريبي، الذي يحيلنا على النسبية، ومن الحديث عما هو متعالي، الذي يطمح بنا نحو الشمولية، وذلك بالتموضع في القول البيداغوجي. دعوني أُوضّح الفكرة.

اقرأ أيضا: كيف يمكن نقل القيم المدرسية؟

يبدو لي، بادئ ذي بدء، أن الإحالة على المحتوى الثقافي من حيث هو كذلك –بالنسبة للمعارف- لا تشكل حلا بالنسبة لمشكلنا. هذه المحتويات هي على وجه التحديد مربط النسبية التي تهمنا، وذلك بقدر ما تظل مرتبطة بالتاريخ، بالسياقات القومية، والعرقية، والدينية، والآن أيضا، وفي مجتمعاتنا المتمددة، بخصوصيات الأجيال، والظواهر المجموعاتية، والتصورات المابعد حداثية. ليس لأن هذه المحتويات غير معقولة ولا قيمة لها، إنما لأنها لتشكل قاعدة صلبة إلى حد ما للمشكل المطروح. لم يعد بإمكان الكوني أن يجد له دعما في العقلانية القائمة، الراسخة بشكل مؤسساتي، التي تعترض عليها جميع الأطراف.

حظوظ الكوني وافرة على أن يتأسس على الإرادة، أقصد: على هذا النهج الإنساني بوجه خاص الذي يسعى، إلى جانب جميع المضامين الممكنة، إلى العالمية المتحررة كشكل من أشكال الاكتمال الإنساني. ويظل العقل الكوني هو المرجع، لكن، بتجنب إملاء المضامين، أصبح من لحظته المشرِّع لمسألةٍ تخضع لمحدداته الخاصة ويعمل جادا على ترسيخها في الخصوصيات. بذلك تعزز كلا من التجريبية والترنسندنتالية الواحدة منهما الأخرى، على غرار المادة والشكل لدى أرسطو، علما أن هذه الأخيرة تظل المحرك الفعلي لبناءِ الإنساني، لكن لا يزال عليها على الدوام الاعتماد على عنصر خارجي هو في حد ذاته له وجود سابق عليها في الواقع.

الحقيقة أن الفكر الفرنسي، المؤسَّس على النزعة الوضعية منذ قرنين، قد يكون يواجه صعوبة كبيرة في وضع تصور لهذا الشكل من العقل العملي. يتم اتهامه على أنه «مجرد»، مضمونه فارغ (وهو كذلك بالفعل)، وبالتالي فهو غير فعال حين يتعلق الأمر بالتحرك بال«ملموس»؛ إننا نبحث في السماء عن المذنب... وببعض الاندفاع، تتم مرة أخرى محاولة جعل ال«صرامة الكانطية» موضوعية ضمن «أخلاق الواجب» التي تعيد تثبيت سلطةٍ مُعلمنة وتتجاهل الحرية، وهي التي تعد محور التأمل فيلسوف كونيجسبيرج... هل يجب التذكير هنا بأن الأفكار الأخلاقية لا حقيقة إيجابية لها، وأنه انطلاقا من نفي الظلم الذي عانى منه الإنسان وخبَره يُشرع في التفكير في العدل، وأن هذه، حتى لا تكون جزءا من هذا العالم ولا تجد فيه تجسيدا ملموسا وحاسما، ليست أقل نشاطا في السلوكات الإنسانية!...([3]).

اقرأ أيضا: التربية والثقافة أو مسألة المعنى في عالم إستشكالي

ماذا عن البيداغوجية؟ من ناحية، هناك ذات مدعوة إلى الكونية ومدفوعة إلى أن تُبنى بحرية، أن «تكون نتاجا عن نفسها» ووفق الصيغة العزيزة على بيستالوزي. هناك من جهة أخرى الموروثات الثقافية بأكملها التي بناها المجتمع عبر تاريخه والتي، على غرار «العوالم الملموسة»، من المفترض فيها أن تعزز هذا الولوج إلى الكونية. ومن جانب ثالث هناك المدرس المكلف بنقل هذه الموروثات. ينشأ المشكل من حيث أن الـتربيةeducandus لا تتم فارغة من هذه الموروثات: تكون مسلحة بقيمها الخاصة التي تم بناؤها خارج المدرسة، وببساطة من خلال تجربتها اليومية، وتكون على الخصوص مدفوعة بحرية تسعى إلى إيجاد أكثر من معنى فيما يقترح عليها أكثر مما تمتلكه بالفعل. وبالتالي لا يمكن فرض الموروث الثقافي، حتى وإن كان ضخما، كموروث بديهي، لا يمكننا التذرع بأي سلطة كيفما كانت، بما فيها سلطة التقليد (لل«شيوخ»)، لجعله مهضوما؛ على هذا الموروث أن يقدم براهينه، أن يجيب على سؤال إيميل الصائب المقدم خلال درس الفلك: «ما الفائدة من هذا؟». هذا السؤال، الذي سريعا ما يختزل الاهتمام النفعي، يعكس التطلع إلى معرفة يرى الطرف المهتم فيه معنى ويساهم في جعله كونيا بشكل حقيقي، أي: يفتح له إمكانية الكونية هو جزء منها، بشكل حر، وليس فقط فرضا سلطويا بسيطا.

إن الموروث الثقافي في عملية تحوله إلى كوني ليس إذن سوى وسيط. وهو لا يساهم في كمال الطرف المهتم(!) إلا بمقدار الحرية التي يستثمر فيه. وعليه وجب خوض معركة الحرية هذه: إذ الموروث الثقافي الذي يراه الراشد «قيِّما» يتم الطعن فيه باسم موروث آخر يرتبط به الشاب –الراب في مواجهة سنفونية لبتهوفن-، لكن دون التوقف عن العمل بحزم على أساس مبدأ لا يتزعزع للحرية، على أمل أن يقتنع الشاب أن السمفونية تُفيده (من وجهة نظر خاصة، وليس بالضرورة بشكل مطلق) أكثر من أغنية للراب؛ يجب أيضا أن يتم قبول الطعن في الموروث الثقافي وسط القسم من طرف إيميل جديد له تصورات «قوية»، مما يجعل حضور المدرس مطلوبا لتبرير صحة ما يعرضه؛ أما إذا لزم الأمر، فسيكون من الضروري، وبشكل كلي، رفض هذا الموروث ولكل النظام الذي يدعو له: مما يشكل أحد مصادر العنف المدرسي، الأكثر تأصلا من دون شك، مما يدل على أن المدرسة قد فقدت، في الواقع، بشكل كلي معناها في عيون المستفيدين منها، وأن الأمر يتعلق بإعادة البحث عن هذا المعنى بشكل يخالف إرسال الشرطة لاستتباب الأمن. فالثقافة المدرسية هي التي يجب إعادة بنائها في إطار العلاقة المتجددة بالمعرفة التي تؤسسها، دون أن تشكل نهايتها.

اقرأ أيضا: هل من حاجة إلى الفلسفة؟

إنها الوضعية كما هي، غير مريحة بالتأكيد، لكن لها تماسكها بالنظر إلى مشروع استكمال الحرية المعقولة التي تدفع بالإنسان، كل انسان، إلى الإمام. هذا يعني أن علينا، رغم الصعاب، إيجاد الطريق الذي يسمح بهذا التقدم نحو تحقيق الأفضل للإنسانية، سبيل تكريم عرقنا، وقبل كل شيء الاقتناع بأن جل غير المتعلمين من الناس، وأن جل النافرين من التثاقف المدرسي يظلون مبهورين تجاه التطلع نحو الكونية، وأن علينا تلمس بذرته، رعايته بالعمل انطلاقا مما هو في حد ذاته بما يعنى ما ينبغي أن يكونه. هذا يعني بالضرورة تطبيق البيداغوجية. يعني أيضا تجسيد هذا التطبيق في إرادة لخدمة الآخر كي يظل غير قابل للتغيير رغم كل التغييرات الثقافية، دون إغفال مطلب الكونية الذي يجب أن ينمو مع كل واحد على حدة، وينو بكل حرية. وبهذا لا يمكن للبيداغوجي، من وجهة نظر الكونية، أن يقتصد فيما يؤمن به.

 تابع الجزء الرابع بالضغط على هذا الرابط



المصدر

Soëtard Michel. L'École entre sociologie, culture et philosophie : la chance de la pédagogie. In: Revue française de pédagogie, volume 135, 2001. Culture et éducation: Colloque en hommage à Jean-Claude Forquin. pp. 117-124;

الهوامش

[1] - « Justification de l'enseignement et relativisme culturel », Revue française de pédagogie, n° 97, p. 25-26.

[2] - Ibid.

[3] - إيريك وايل، في كتابه الفلسفة الأخلاقية (Vnn, 1961, I. Le concept de morale)، يشدد بكل وضوح على قوة هذه الأخلاق «ذات الصلاحية الكونية (الخالصة)»، « الشكلية والسلبية»، والتي «يتمثل قانونها الوحيد في احترام الحرية المعقولة (للكونية) لدى كل كائن إنساني»، لكن تبقى خاصة بذات «هي بالأساس محدودة ومستوعبة كما هي»: «الانسان بذلك هو رغبة في أن يصير كونيا. ما يميزه هو كونه لا طبيعة له كما هي الأشياء، أنه يتجاوز كل طبع معطى، وما يجده في ذاته كواقع، وبنية، وعزيمة لا يعد بالنسبة له سوى نقطة انطلاقة لتحول نحو كونية لن تكون إلا شمولية. كما أنه لا يملك الحقيقة ولا الفضيلة، إنه يبحث عنهما، وهو ليس بالكوني، هو يسعى لأن يكونه. إنه قادر على اللامتناهي، لكنه في كل لحظة من لحظات وجوده، أقصد من وضعه ككائن محدود، هو قادر فقط على ذلك» (p. 41-42). 

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-