بأي
شكل يمكنني التعامل مع «تأملات في الآخر كمرآة للآنا(1)؟». هل أتتبعها
كخاطرة
أدبية حزينة ومتألمة؟ أم من حيث أنها توظيف لمفاهيم تحليلية تسعى إلى قراءة واقع يحبط
أفراده كل يوم؟ الشعور الأول الذي خرجت به عند الانتهاء من قراءة المخطوط، إحساس كبير
بالفاجعة والحزن العميق، فتعابيرها الهادئة والوئيدة، وجملها الطويلة، أشبه بصخرة باردة
ملساء تخترق، رويدا، بكل ثقلها الأفئدة. سفر من الذات إلى الآخر، الذي يشكلها جزئيا،
إلى الذات. سفر تحدوه رغبة وحيدة: التعدد-التوحد/الاختلاف-الهوية.
لن يكون ما سطر هو ما سأعرب عنه
الآن، بل قد يكون بعيدا عن مغزاه. فلكل مقام مقال.
لكن لأعد القراءة من جديد، على أن
ألامس بعض دلالات المفاهيم الواردة. سأرفض،
مرحليا، أنها خاطرة أدبية حزينة، لأجعل منها قراءة في النفس المغربية/العربية، من خلال
مفاهيم من التحليل النفسي:
الأنا-الأنا المثال-الآخر-المرآة، زينت بمفردات: السقوط -الجنوح-الهروب...وللمرآة هنا دور كبير، فهي القناة
التي تمر منها الذات المتألمة نحو نفسها.
تجعل الميثولوجيا
اليونانية والإغريقية السقوط فعلا يتم بالانتقال من عالم البشر إلى عالم الألوهية، حيث تصير الأسماء
التي نحفظها (ابولو، بروميثوس...) آلهة للخير وللشر حسب الفعل الذي ارتكبته. بينما
تجعل الديانات السماوية السقوط بالانتقال من عالم الفردوس إلى عالم الدنيا، بسبب خطأ
أكل التفاحة المقدسة. والسقوط في كلتا الحالتين سببه الوقوع في خطأ ما، ينقل الذات
الإنسانية من حالة قصوى إلى حالة دنيا. أتذكر هنا مسرحية «الذباب»
لسارتر، كما تحضرني، في الحالة التي تهمنا، رواية عبدالرحمن منيف: «شرق المتوسط» حيث
يعاني بطلها هول مصارعة نفسه، مخافة
السقوط في مقايضة النظام ومسايرته، إلى أن سقط ميتا تحت التعذيب.
رابط مقالنا: مدرس الفلسفةفيلسوف؟
هل النوعان يتشابهان
ويتماثلان؟ تخاف الذات على نفسها من فعل السقوط: السقوط من عالم المبادئ إلى المقايضات
والمصالح - السقوط من ذات قوية إلى ذات ضعيفة - السقوط من التوحد الاجتماعي إلى التذيت
المدقع... الذات تسعى دوما إلى الانفلات من صرامة الأنا، أي من صرامة ذاتها. صرامة
الذات تأتيها من حصن التصورات التي بنتها، والمشفوعة بأبهى المرامي والمساعي، الآمال
والرغبات، التي تشكل إكليل طموحها الوجودي. هذه التصورات وذلك الطموح
له دوما ُمعارض، يتمثل في النظام (سياسي-اجتماعي-اقتصادي-ديني).. الذي لا يسمح لها
بالتحقق، لأن تحققها هو نفي لوجوده كنظام، والعكس بالعكس. هنا، تصبح، أو تصيّر
هذه الذات الواعية بذاتها عرضة لترهات تفد عليها من الخارج. هذا الخارج ليس إلا الآخر
المأخوذ عن أمره، السواد المخدوع بالزمن اللحظي، بانسياب أوقات الفرجة الفجة. لذا فإنه
يرى فيها ذاتا مجنونة عمياء، ويعطي، بالتالي، الشرعية في الوجود للنظام الكابح.
ليس للذات هنا من اختيار سوى أن
تلم نفسها، وتحصن ذاتها من السواء المخدوع، لتعيش جنونها الحق.. تحصن ذاتها من كل جنوح
نحو العالم الأحادي المتعالي، لأن ذلك قتل لها في تعددها الاجتماعي.. تحصن نفسها من
مغبة ملاحقة آخر لا يمت لها بصلة ولا يقاسمها همومها. إنها ترفض بجنون
أن تكون متعالية أو ذاتوية شريرة، لأن ذلك في عرفها جريمة. لكن، من جهة أخرى، قدر هذه الذات أن تتموضع
إزاء الآخر/المرآة، أن تنظر إليه وتتأمل من خلالها ذاتها، لتقيس قدراتها وتقوم اعوجاجها.
السؤال: ما الآخر ما طبعه، كيف يتمظهر على مستوى الوجود؟
إن الآخر هنا لا يماثل الذات
(هنا تفيد الزمان والمكان)،
إنه نفيها المستمر. للآخر عدة صور: فهو الصارم/الضعيف، المشتت/الواحد، المدرك لقوته/الضائع
في قوى أخرى. أما الآخر الذي يعنينا فهو، في الغالب، مشتت، يعيش تمزقه الحضاري. لا
محالة أنه العاكس لصورة الذات، لكنه يعكسها على صفحة مرآته المتكسرة موزعة إلى صويرات،
فيدركها مجزأة، بحيث يحاكم أجزاء منها ويعزز أجزاء أخرى، عاجزا على أن يرى فيها ذاتا
موحدة. وقد نجده كذلك مستلبا ومتفرقا في لا أناه بحيث ينظر إلى الذات من خارجه كآخر،
فيعكسها مشوهة. والآخر في الحالة
الأخيرة غائي أو بالأحرى منعدم، لكنه لا يحقق وجوده الفعلي كأنا، بل قد يكون
متحققا بالقوة مستلهما وجوده من أنات أخريات غريبات.
رابط مقالنا: العلمانية قيمة غير كونية ولا مطلقة
وتوجد الذات في
الحالتين أمام نماذج غريبة عنها ولا تماثلها. صحيح أن الآخر هو النفي الدائم للذات،
فهي في حين تقف إزاء الآخر، تعتمد على مرجعية واحدة: خبرتها الشمولية. وهي حين تتوجه إليه لا
تسعى إلى احتوائه أو استغراقه فيها، بل كي تتقمص منه وتأخذ عنه ما ينشئها، وفي هاتين العمليتين يتجسد
نفيه كآخر. وأما الآخر فلا يتجه في الذات إلا كنافية له، وهو ناف لها، فيتمسك بمرجعيته
ويتقمص منها: فالابن لا يسمح ولا يقبل أن يموت الأب إلا من بعدما يتمثل صورته، فإن
حدث العكس فسيعيش الآخر تيهه بحثا عن أنا متعالية لا واقعية (الذهاني والعصابي) أو بحثا
عن ذات أخرى تمكنه من التقمص، ليوحد ويجمع شتات أناه.
أما الأنا
المثال؟ فهذا لا وجود له، ولا يشكل سوى الحلم الذي يحمله البشر كمشروع تحققه نحو
الكمال. ولأن الكمال المتوخى كذبة حضارية كبرى، فالأنا المثال كذبة هو الآخر. الأب الذي
يحمل صورة مثلى تفسخت عن علاقة ثلاثية غير مشبعة إلا بشكل نسبي، والتي يسعى إلى شكلنتها
في خلفه، أب مفجوع. إن الصورة التي اعتبرها السلف كاملة تنعم
باحتقار الخلف. إنه بداية صراع الأجيال المتلاحقة على جميع الأصعدة. فالخلف قضية
نقيض للقضية الأولى -السلف. الخلف بؤرة غضب ثائرة، والسلف يركن، بوعي أو بدون وعي،
إلى المحافظة والاستقرار. لا يتحدد السلف والخلف بالعمر أو بالجنس، بل بمقدار
الطموح والاستمرارية.
دينامية الأنا
والآخر، الذات والَّاذات، تأخذ بهذا صورتها الجدلية. فليس الآخر هذا المرآة الدائمة للذات،
بل إن الذات هي كذلك مرآة للآخر،
والمرآة هنا تشكل مضمونا صراعيا،
والصراع يؤدي إلى التأثير والتأثر اللذين يؤديان إلى إنتاج جديد على المستوى النفسي
والاجتماعي وكل ما يحف بهما.
الأنا والآخر
منعدمان ومنفيان، إنهما مشروع خلق جديد، مما يعطيهما الحق في الوجود وفي الحياة. فالحياة
بدون صراع ديناميكي وحركي موت. العامة تعبر عن هذا في بساطة بقولها:
"الحياة بدون مشاكل ليست حياة"، والمشاكل نوع من الصراع الفردي والاجتماعي،
الذي يؤدي إلى الموت، موت المشاكل الفيْنَقَية.
الأنا والآخر
إلغاء لبعضها البعض، أملا في تحقيق الكينونة الوجودية الفعلية، في الزمان والمكان.
وحينما تلغي أو تنفي الذات(التلميذ) الآخر(المعلم)، كرها أو ھروبا أو حتى رميا
بالحجارة مثلا، فهي تقتله لكونه يسعى إلى حرمانها من الوجود. أليس في هذا، وحسب ماندل Mendel،
إعادة اقتراف الجريمة الأولى: قتل الأب سيد العشيرة.
الأنا والآخر سعي
دائم نحو التوحد والاختلاف، مشروعان يتحققان دوما بشكل نسبي، لكن بصورة دينامية
وفعالة. والتوحد والاختلاف قطبا جذب بين الذات والآخر، وهما يشبهان في تمظهرهما
السواء والشذوذ، وينطبق عليهما حكمهما. فالسواء هو أن تكون الذات موحدة
مع ذاتها ومع الآخر، ومغايرة لذاتها وللآخر.
إن الأنا والآخر
مشروع يتحقق بالضبط حين يكفان عن الكينونة، لأن العكس يعني دوام الفعالية والعيش
الدينامي. وقد قيل الموت بدء الحياة.
تيزنيت جريدة الاتحاد الاشتراكي
10/04/1989عدد 2074
- 1. عنوان
مقال صدر للأستاذ ناشید المكي بجريدة الإتحاد الاشتراكي يوم 14 -02- 1989 عدد 2019