لورون جافرو
Laurent Jaffro
الجزء الأول من هذا المقال عبر الرابط من هنا
مفهوم بديل عن التكنولوجيا
الظاهر
أن المنتوج الفلسفي الفوكوي خلال سنوات الثمانينات [من القرن العشرين] يتبنى
منظورا مختلفا ويثري مفهوما عن التكنولوجيا يبدو، ضمن المراقبة والعقاب،
تبسيطيا إلى حد ما. يشكل الفرق بين الممارسة الانضباطية والممارسة الساعية للكمال قطيعة
قوية، مصحوبة بالعديد من القطيعات التاريخية والمفاهيمية داخل الممارسة الساعية للاكتمال
نفسها –خصوصا بين التقنية الذاتية في المدارس الهلنستية والرومانية وبين إقرار أو
توجيه وعي المؤسسات المسيحية. صحيح أن فوكو يفهم، دائما انطلاقا من تقنية ما،
التذويت؛ لكن، وحسب ما يظهر، لم تعد هذه التكنولوجية غير مبالية باستعمالاتها
وبأهدافها، وذلك لأنها تتجسد في ممارسات زهدية askêsis عند القدماء. فلم يعد الاكتمال واحدا من توجهاته الممكنة فقط، بل أصبح
أفقه الخاص والداخلي.
لقد
تغير معنى المراقبة الذاتية، جراء تغيير المنظور حول تقنية الذات. لم تعد العناية
بالروح مقدمة على أنها فقط من سمات الانضباط الاستعبادي وحده؛ بل إنها تدخل ضمن
سجل مغاير تماما. وفي هذا أستشهد بالدروس المقدمة ما بين 1981-1982 حول تأويلية
الذات:
يجب على الروح
المستمعة أن تراقب ذاتها بنفسها. بالانتباه جيدا لما تسمعه، تنتبه لما تعنيه من
حيث للدلالة، ومن حيث السياق. كما أنها تنتبه لذاتها حتى يصير هذا الشيء حقيقيا
بشكل تدريجي، بسماعه وبذكراه، الخطاب الذي تلقيه على نفسها. إنها المسألة الأولى من
تذويت خطاب الحقيقة التي تشكل الهدف النهائي والقار للزهد الفلسفي([i])
هذا
مرة أخرى، بالتأكيد، خطاب بأسلوب غير مباشر حر وتعليق على متنٍ، معظمه رواقي. لكنه
كذلك اكتشاف لإمكانيات جديدة لتقنيات الوجود. تكفينا المقارنة مع ما يقوله كتاب المراقبة
والعقاب عن الروح:
بنينا على هذا الواقع المرجعي مفاهيم متنوعة وقطّعنا
مواضيع للتحليل: النفس، الذاتية، الشخصية، الوعي، وغيره؛ عليها شيدنا تقنيات
وخطابات علمية؛ وانطلاقا منها تم التأكيد على المتطلبات الأخلاقية للإنسانية. لكن لا
يجب ألا نخطأ فيها: لم نستبدل الروح، وهم اللاهوتيين، بإنسان حقيقي، أو بموضوع
المعرفة، أو بتأمل فلسفي أو بتدخل تقني. الإنسان الذي يحدثوننا عنه ويعرضون علينا
تحريره هو بنفسه، بشكل مسبق، موضوع استعباد أعمق بكثير. تسكنه «روح» وتخرجه إلى
الوجود، وهي في حد ذاتها جزء من السيطرة التي تمارسها السلطة على الجسد. الروح، هي
فعل وأداة للتشريح السياسي؛ الروح سجن للجسد([ii]).
لم
يعد كافيا الحديث عن نقل النسك المسيحي إلى الانضباط المدرسي؛ يجب، بداية، مراعاة
جميع التغييرات التي أدت إلى ابتكار التعبد المسيحي. هذا يؤدي إلى المزيد من إبعاد
تقنية الذات عند قدماء العصر الحديث والمعاصر عن التقييم والانضباط. إذا كان الهدف
من مراقبة الفردانية هو «زيادة المنفعة»، فهي لم تعد تتميز فقط ب«إنكار» التعبدية؛
لابد من إدخال بديل لذاتوية ليس هدفها المنفعة ولا إنكار الذات، وإنما تستلزم في
حد ذاتها تأسيس ما يسميه درس 1981-1982، تأويلية الذات، «علاقة كلية بين
الذات والذات». لم يعد ممكنا فهم تقنية الذات كأداة لتحقيق الموضوعية العلمية
التي، وفقا للمراقبة والعقاب، يتم تنفيذها من قبل السلطة الانضباطية. فعلى
العكس من ذلك، دراسة الحياة الزهدية للرواقيين والأبيقوريين هي التي تكشف لنا
طبيعة تقنية الذات. إن تقنية السلطة، سواء أأخذت شكل الاعتراف المسيحي أو من باب الأولى
شكل الانضباط الحديث، لم تعد، منذ بداية سنوات الثمانينات، الأفق العالمي الذي أدرجت
فيه جميع التقنيات الخاصة، وإنما تشكل، على العكس من ذلك، ما انتهى إلى حجب تقنيةٍ
للوجود التي يضمن اقتصادها الاستعباد كعنصر، مهم بالتأكيد، لكنه لم يكن إلا عنصرا
من بين عناصر أخرى، والذي لا يحدد في جميع الأحوال التوجه العام. هذا العنصر هو
الخضوع إلى القوانين([iii]).
اقرأ أيضا: يمكن أن تكون هناك تربية دون صدمات؟
لوحظ
في كثير من الأحيان أن مراجع الأعمال المتأخرة قدمتها بشكل أساسي نصوص التقليد
الفلسفي الكلاسيكي، على عكس فترة المبكرة للكتب ذات القيمة الكبيرة، بما فيها المراقبة
والعقاب، حيث كانت المراجع تستقى من أرشيفات المجتمع، سواء تعلق الأمر بالأمن
أو الصحف أو الأدبيات العلمية أو شبه العلمية. أثرنا بشأنها اعتراضا: لا يتكلم
فوكو عن الذاتوية خلال العصور القديمة، ولكن عن الذاتوية بحسب فلسفات العصور
القديمة. من المهم جدا التساؤل عن سبب احتياج فوكو للاعتماد على النصوص الفلسفية –خاصة
منها الأبيقورية والرواقية. ذلك لأنه من الواضح أن مسألة الذاتوية التحررية قد
مسألة طرحتها بشكل حصري الفلسفة، وبالأساس من طرف المدرسة الرواقية، أثناء معالجة
ما سماه القدماء بتعليم المعارف paideia. هذا ليس
رجوعا إلى تاريخ الفلسفة، ولكن لجوء فقط للنصوص التي تسمح بطرح مسألة التربية
التحررية وفهمها. وعلى التمييز بين المراقبة والتذويت أن يكون متحققا ضمن الممارسة
التي يستدعينا إليها مشروع حياة فلسفية.
من
الممكن تفسير هذا التراجع جزئيا بالإشارة إلى أن المراقبة والعقاب قد كان
مهووسا بمحاربة النزعة القانونية والتعاقدية للفلسفة السياسية: كان المقصود من مفهوم
"تكنولوجية السلطة" تهميش التفسيرات الكلاسيكية([iv])
وإظهار أن المحكمة هي التي تتْبع السجن، وليس العكس([v]).
منذ ذلك الحين، كان لابد من تقديم سيادة الذات القانونية كمظهر خالص أو أثر بسيط
لنظام العلاقات السلطوية. غير أن فوكو ذهب إلى أبعد من ذلك: لقد أدى به رفض النزعة
القانونية عن الفلسفة السياسية إلى التقليل من أهمية التقنيات الأخلاقية أو
الدينية البحتة وطمر مسألة بناء الذات الأخلاقية([vi]).
أفكر
بالخصوص في مقطع من المراقبة والعقاب، بخصوص نظام السجون الأنجلوساكسوني
أواخر القرن الثامن عشر:
ممارسات،
وليس علامات [في مقابل «ألعاب تمثيل» التعذيب الكلاسيكي]: جداول زمنية، أوقات
محددة، حركات إجبارية، أنشطة منتظمة، تأمل انفرادي، عمل جماعي، صمت، تطبيق،
احترام، عادات حسنة. وفي النهاية ما نحاول بناؤه من خلال هذه التقنية الإصلاحية،
ليس تماما الذات القانونية، التي لها علاقة بالمصالح الأساسية للميثاق الاجتماعي؛ بل
هي الذات المطيعة، الفرد الخاضع[...]([vii]).
يتضمن تعداد هذه التقنيات عناصر سيعيد فوكو خلال سنوات
الثمانينات من القرن العشرين فحصها في إطار دراسة الذات الأخلاقية؛ ما يهمنا هنا
هو البحث عن "الذات القانونية".
الأعمال الأخيرة –كتب وندوات- تكشف بنية الذات
الأخلاقية؛ لا يسمح عدم اكتمالها بفهم الطريقة التي يمكن لفوكو أن يعبر عن دراسته
للتذويت القديم والانجاز الذي يشكل نقده للانضباط الحديث. نفهم، على الأرجح، أن التذويت
القديم يمثل بديلا لفلسفات الوعي المعتمدة على الذات التي تم تكوينها مسبقا؛ إنه
نموذج يسمح بتصور طريقة منسية من التفكير في عملية التذويت. لا نعرف بالتدقيق
الطريقة التي كان بها فوكو ينوي أن يتتبع بالتفصيل الانتقال إلى فترة اعترافات
الجسد و، بعد ذلك، إلى الانضباط، أي مقارنة الأشكال القديمة، والمسيحية، الحديثة
والمعاصرة، لما يسميه الرعوية([viii]).
فلسفة التربية ومسألة الاستقلال الذاتي
لا يروم حديثي لوم فوكو عن هذا الصمت. إنه صمت عن الحل، وليس
عن المشكلة. سأشرع الآن في عرضٍ إجمالي لطريقتين، متعارضتين، عادة ما تلتزم فلسفة
التربية الصمت في شأنهما إزاء المشكلة. الطريقة الأولى تهم من ينكر الطابع التقني
لبناء الذات، على حساب مفهوم جوهري للذاتوية؛ يجسد هذه فلاسفة التربية الذين يدّعون،
عن حق أو خطأ، أنهم يتبنون كانط أو كوندورسيه. الطريقة المقابلة لها هي طريقة
العلوم الإنسانية المطبقة على التربية، التي تقر بوجود عملية اجتماعية حقيقية
لبناء الذات، لكنها ترفض تمييز الإلزام الذاتي عن التحكم الفعلي في الذات؛ وقد
وجدت تعبيرها الكلاسيكي في أعمال بياجيه حول التربية الأخلاقية. أقترح توضيح
التعارض بين هذين المفهومين باللجوء إلى الجهة الثالثة التي يشكلها موقف ميشيل
فوكو.
انكفأت فلسفة التربية إلى حد الاختناق على نواة صغيرة من
الأسئلة. منها واحدة على الخصوص تعتبر بكونها الأكثر أهمية، والمتعلقة بغايات
التربية. الغريب أن هذه المسألة هي بالتأكيد الأقل "فلسفية" بالمعنى
الذي يفيد أنها قد حصلت منذ مدة طويلة على جواب: فغايات التربية تتمثل في إقرار
الحرية، التي تفهم على أنها استقلال ذاتي، أو المسؤولية، أو النضج أو مراقبة
الذات، وفي هذا تكون التربية بالأساس أخلاقية. هذا الجواب يفترض ألّا تكون الحرية
ترخيصا، وألّا يكون الاستقلال الذاتي نزوة. وباختصار، إن غاية التربية هي إقامة
استقلال ذاتي يكون قبولا حرا ومعقولا للقوانين المشتركة. من وجهة النظر هذه، فإن
تطوير شخصية حرة هو في نفس الوقت تنشئة اجتماعية لها.
بشكل مستمر، تمت صياغة هذا الشعار منذ العصر الحديث.
الخلافات بشأنه مقتصرة على التوازن بين نمو الشخصية والتنشئة الاجتماعية، وعلى
تقوية الغايتين اللتين لا تشكلان، بشكل مثالي، سوى غاية واحد. يؤكد البعض بالفعل
أن التنشئة الاجتماعية، التي يتم فهمها بالشكل الصحيح، هي تعلم للاستقلال الذاتي،
في حين يؤكد آخرون أن تعلم الاستقلال الذاتي، المستوعب بالشكل الجيد، هو نفسه التنشئة
الاجتماعية. لا مشكلة خطيرة هنا. لكن التعارض يكون قويا حين يتعلق الأمر بتحديد
وسائل هذه التربية على الحرية. ما يسمى، في فرنسا، بالتصور ال"جمهوري"
ينمي نظرية التحرر التي تفترض، وفق عملية جدلية، أن الاستقلالية تتأتى من ممارسة
متوازنة للسلطة. فالحرية مساوية للانعتاق. نعلم أن هذا المفهوم كان منذ زمن بعيد
موضوعَ اعتراضٍ قوي، من طرف الذين قبلوا ذلك الشعار الذي بموجبه تشكل الحرية،
مفهومة كاستقلالية، هدفَ التربية.
هذا المفهوم المضاد، الذي ليس أقل أو أكثر حداثة من
المفهوم السابق لكونه كان معاصرا على الدوام، يستبدل مصطلح التطور بمصطلح التحرر،
ويتصور الرشد كنضج طبيعي لا كتحرر قانوني. لم تنتج الاستقلالية عن سيرورة جدلية وإنما
تفترضها مسبقا العملية التربوية. لا تتحقق الاستقلالية في نهاية المطاف كقدر،
وإنما يتم بناؤها. وقد تم إلى حد ما استبدال التصور القانوني بتصور بيولوجي، الذي
يؤكد، مثلا، على فضائل التجربة والمحاولة والخطأ والتكيف. التحول هو نموذج التحرر؛
ونموذج التطور هو التنمية([ix]).
نعلم الطريقة التي نظر بها المناصرون للتحرر التابعين
للتنمية على أنهم حالمون ليبيراليون وديعون؛ والطريقة التي اعتبر بها المدافعون عن
التنمية المؤيدين للتحرر على أنهم مدافعون صارمون عن السلطة. لكن من الوهم
الاعتقاد أن المعارضة تتعلق فقط بالوسائل. التوافق حول طبيعة غايات التربية هو
ظاهري فقط. فالاستقلال الذاتي، بحسب منطق التحرر، هي القدرة الجوهرية لشخص أو
لكائن عاقل وتتجلى هذه القدرة في نهاية فترة الكمون: فهي لا تبني نفسها أو بمفردها،
وتستهدفها التربية كنتيجة و لا تستعملها كوسيلة لها –إنها بالأحرى تحشد وساطة
السلطة.
الاستقلالية، بحسب منطق التنمية، وعلى عكس ما سبق، ليست
نتيجة فقط، بل الوسيلة الأساسية للتربية باعتبارها بناء ذاتيا (وهو ما لا يعني
البناء الانفرادي). لا تعرف الاستقلالية مرحلة كمون، لكنها في حركة مستمرة
وتدريجية. ليست الاستقلالية جوهرا لن يتمظهر إلا في النهاية، إنها الينبوع التقني
لبناء الذات. من هنا يمكننا استنتاج أن الاستقلالية المُستهدفة من طرف تحرر
والاستقلالية العاملة لإي إطار التنمة لا يشتركان إلا في الاسم.
رابط الجزء الثالث من هذا المقال من هنا
المصدر
Le Télémaque 2006/1 (n° 29), pages 111 à 124, Éditions Presses universitaires de Caen
الهوامش
[i] - L’Herméneutique du sujet, F. Gros
(éd.), Paris, Gallimard – Seuil, 2001, p. 334.
[ii] - SP , p. 34. Voir R. Van Krieken, «The Organization of the
Soul : Elias and Foucault on Discipline and the Self», Archives
européennes de sociologie , 31, 2, 1990, p. 353-371.
[iii] - Voir « On the Genealogy of Ethics : An Overview of Work in Progress »
[1984], trad. fr. in Dits et Écrits , t. IV, p. 609-631 ; et A.I.
Davidson, « Archéologie, généalogie, éthique », in Michel Foucault. Lectures
critiques , D. Couzens Hoy (éd.), trad. J. Colson, Bruxelles, De Boeck,
1989, p. 243-255.
[iv] - Voir SP , p. 28, 30.
[v] SP,
p. 314.-
[vi] - بطبيعة الحال
الأخلاق عنصر من عناصر الإصلاح الجنائي. Voir SP ,
p. 241-242.
[vii] - SP , p. 131-132.
[viii] - حول موضوع
الرعوية انظر: voir « Omnes et singulatim : vers une critique
de la raison politique » [1979], in Dits et Écrits ,t. IV, p. 134-161.
[ix] -
Voir L. Jaffro et J.-B. Rauzy, L’École désoeuvrée.
La nouvelle querelle scolaire , Paris, Flammarion, 1999, p. 182-194.