أخر المقالات

فوكو والتعليم




اقرأ: الترجمة الفلسفية:   عنصر لتكوين أساسي أم تخصص محصور على الفلاسفة؟

يقول Denis Kambouchner:

 على مستوى مغامرات الحداثة، يمكننا حقا استحضار تحول حاسم للفكر الفلسفي في مواجهة المؤسسات المعرفية وإزاء الأشكال المعيارية التي كانت هي نفسها تدافع عليها؛ من المحتمل أن يتضمن هذا التقلب الامتناع عن تخيل نقل الفكر أو الفعل الفلسفي تحت أشكال أخرى غير المغامرات، أشكال لا يمكن التنبؤ بها و غير تقليدية. يبدو لي أنه من الممكن العثور على مثال واضح لهذا الموقف لدى ميشيل فوكو. اسمحوا لي أن آخذ، من بين مجموعة من النصوص التي تستحق المراجعة من جميع النواحي([1])، ثلاث أو أربع شهادات:

(أ)  في حوار نشر سنة 1973 باليابان صرح فوكو قائلا:

 

نقل المعرفة عن طريق الكلام، عن طريق الكلام هيئة التدريس داخل القاعات، في الساحات، بالمؤسسات الجامعية مثلا، كوليج، أيا كان المكان، هذا النقل أصبح اليوم متجاوزا تماما. هذه طريقة قديمة وعفا عنها الزمان، نوع من العلاقة بالسلطة التي لا تزال تتداول كمحارة فارغة. [...] الكلام الأُستاذي بالضرورة كلام عفا عنه الزمن([2]).

(ب‌)              في حوار ثان صدر قبل سنتين في مجلة أنجلوساكسونية، يقول:

 

تكاد تكون وضعية الأستاذ غير مقبولة في هذه الأيام [وذلك لأن] أيا كانت أراءه الشخصية، فإن الأستاذ (الجامعي)، وبحكم منصبه كموظف، يكرس نظام نقل المعارف التي تفرضه عليه الحكومة، ونقصد الطبقة البورجوازية، التي تسهر الحكومة على مصالحها([3])

ثم (ج) في برنامج إذاعي Radioscopie سنة 1975، بُث تحليل واسع حول مزايا وأيضا مشاق التدريس في كوليج دو فرانس، من خلال هذا الحوار الفريد:

 

- هل تدعم فكرة التدريس؟ أعتذر عن الصوت الخشن...

- إني أستمع جيدا. هل أدعم فكرة التدريس؟ التدريس...

- أنتم تدرسون.

- أنا مدرس، الحد الأدنى مما يكونه المدرس، ما دمت أني، كما تعلمون، أدرس، أقدم دروسا في مكانٍ...

- خاص جدا.

- خاص جدا، والذي تنحصر مهمته بالتحديد في عدم التدريس.

- والذي هو كوليج دو فرانس.

- نعم، وما يعجبني هناك، أنني أحس بأني لا أدرس، بمعنى أنني أمارس علاقة سلطوية إزاء جمهور. الأستاذ هو من يقول: «اسمعوا، هذه بعض الأشياء التي لا تعرفونها، وعليكم تعلُّمها». هذا إذن ينطوي أولا على مرحلة أولى سأسميها الشعور بالذنب [...]؛«ثانيا، هذه الأشياء التي يجب تعلمها، أنا من سيعلمها لكم»، وهذه مرحلة سأسميها الالتزام؛  «ثم حين أدرسها لكم عليكم أن تعرفوا أني سأتحقق من معرفتكم لها»: إنها مرحلة التحقق؛ وهذه، بالتالي، سلسلة علاقات سلطوية؛ إلا أن الدروس، في كوليج دو فرانس، هي حرة... بحيث أن الشخص الذي يدرِّس هو الذي يكون، في النهاية، تحت سلطة الذي يحضُر([4]).

كل هذا، الذي من الممكن فهمه في إطار أجواء حقبة معينة، يبقى رمزا لبادرة كانت موضع تقاسم واسع: أقصد عدم الاستثمار بل والتنصل أيضا من شروط التدريس بالمدرسة والجامعة، الفلسفية منها على الخصوص، من طرف أولئك الموجودين في طليعة الإبداع الفكري. إن التدريس في خضم الإشكالية الفوكوية، له، بالتأكيد، معنى اختباريا شخصيا أو فضاءً استفزازيا، وليس كنشاط منظمٍ اجتماعيا ووظيفيٍ أصيلا؛ ففي واقعه الاجتماعي، إنه في جوهره إعادة إنتاج لعلاقة سلطوية، وبالتالي استمرارية ملحاحة لنظام سابق (نظام اجتماعي تأديبي تم التطرق إليه في كتابه المراقبة والمعاقبة)، نظامٌ كل شيء فيه يشير إلى أنه قديم، لكن لا شيء مؤكد يحل محله.

لكن إلى ما ستؤول المعايير المحددة للنشر الفلسفي؟

(د) في حوار منشور سنه 1980 بإيطاليا، طُلب من فوكو إن كان من الممكن العثور، ضمن أعماله، عن مسار لمنهجية أو نمط خاص تعليمي. أجاب فوكو:

أرفض كلمة «تدريس». الكتابُ الذي يتبع منهجية و يطبِّق منهجا قابلا للتعميم أو يقدم برهنةً على نظرية كتابٌ يقدم دروسا. كتبي ليست لها بالضبط هذه القيمة. هي بالأحرى دعوات، إيماءات للعموم([5]).

 ما من شك أن هناك تحفظا حقيقيا هنا، ينسيني janséniste على طريقته، إذا ما قورنت بمتعة تحققها طريقة إلقائية ما. هناك شيء آخر غير هذا التحفظ: إنها المطالبة، ضد كل ممارسة يتم تعييرها، بالتفاتة فنية، لا تقترح نفسها للإعجاب ولا للتقليد، لكن قيمتها تكمن في استفزازٍ شهواني، بعيدا عن كل هدف بنائي لا يفارق النموذج السقراطي. هل يمكن الاستمرار في معالجة المفارقة حتى النهاية؟ أترك لكم حرية اتخاذ القرار.

الصعوبة الثانية –بكلمة مختصرة- بعد التنصل عن وضع المعايير ومن التعليم في حد ذاته: يمكن في نهاية المطاف تصور نظام للإنتاج الفلسفي لا يتحمل فيه أي شخص مسؤولية الاهتمام بتحديد المعايير؛ هي الحالة التي لن يحل فيها أحد محل المعلم.

 

 



[1] - للمزيد من المعطيات أنظر: « Foucault et l’école » (entretien avec S. Thibierge et A. Videau), La Célibataire, n°9, automne 2004, Le Pouvoir chez Lacan et Foucault, p. 85-98.

[2] - M. Foucault, Dits et Écrits, Paris, Gallimard (Quarto), 2001, t. I, n° 119, p. 1279.

[3] - M. Foucault, Dits et Écrits, t. I, n° 89, p. 1054-1055.

[4] - Ibid., n° 161, p. 1654.

[5] -  Ibid., t. II, n° 281, p. 855-856.

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-