فيليب ميريوه
اقرأ لنفس الباحث: المدرسة،فسحة للتفكير
إن طرح السؤال حول مدى إمكانية وجود «تربية بدون صدمات
نفسية»، يعتبر بمثابة اعتراف ضمني بقدرتنا على التحكم فيما يقع لطفل ومراهق، وما
سيحدث له في حياته ويساهم في بناء شخصيته. والحال أن ادعاء كهذا إنما هو، في نفس
الوقت، عبثي وخطير.
وهم القدرة الكلية للتربية
عبثي لأنه يفترض أن جميع الوقائع تخضع لنوع من البرمجة
وأنه بالإمكان التدخل في كل واقعة من المحتمل أن تصيب الطفل بصدمة نفسية. صحيح أن
ما يحدث في حياة الطفل يرجع، في جزء منه، إلينا... لكن في جزء منه فقط. أما ما يعيشه في غيابنا (مع رفقائه، في الزقاق،
عند مشاهدة التلفاز، وعند مقابلة راشدين آخرين) فلا يمكن التحكم فيه أبدا. ثم إننا،
فيما يتعلق بنا، لسنا مستعدين دوما للتضحية بما نعتقده صحيحا أو ضروريا في ضوء
رغباتنا ودوافعنا الخاصة، وذلك حمى لا يتعرض الطفل للصدمة. إذ يمكن لانتقال مهني، أو
نزاع عائلي، أو ردة فعل تجاه انزعاج أو غضب أن يفرض نفسه علينا دون أن نكون قادرين
فعلا على مقاومته في الوقت الذي نستشعر احتمال وقوع صدمة. علاوة على ذلك، وفوق كل
ذلك، تفرﱡد الوضعيات والمصائر الفردية هي بالحجم الذي يجعلنا لا نعرف معه أبدا بشكل
مسبق كيف ستعاش الوقائع: فالحدث نفسه قد لا يكون له أي أثر على فردٍ ما، وقد يبصم آخر مدى الحياة. نفس
الجملة، التي نسيها مؤلفها لحظات بعد النطق بها، يمكن أن تشكل قرارا عقابيا يثبت شخصا
في مكانه وقد أصيب برضوض نفسية دائمة قد تجره نحو الكآبة، أو، على العكس، قد تشكل
بالنسبة لآخر تحديا نفيسا لتجاوز ذاته.
اقرأ أيضا
لكن الرغبة في التحكم في كل شيء حمايةً للطفل من أدنى
صدمة تشكل، هي أيضا، خطرا كبيرا على تربيته. فمن دون أحداث مفاجئة، من دون «اضطرابات» غير متوقعة كما يقول علماء النفس، لن يمكن
للطفل قادرا على ينمو. لن يكون لذكائه أي دعم، ولا أي وسيلة لأن يتمرَّس؛ لن يكون
بإمكانه أبدا أن يتوقع أمرا، أو يتحقق من أمر أو يثبت تنبؤاته، أو يتساءل عن معنى
ما يحياه، أو يواجه تجارب جديدة، أو يستدمج معارف جديدة عن العالم وينتهي ببناء
وضعيته الخاصة. فالحياة التي يتم التخطيط فيها لكل شيء تقتل العقل، وتربي فقط على ردود
الفعل الآلية وتحث، إضافة إلى ذلك، على الفكر «الاستراتيجي»:
حيث البحث فيها على «التعايش مع» أو «الاستمتاع» عوض محاولة
الفهم بشكل جِدي. وإجمالا، إن التربية المبرمجة، وهي في صالح الطفل -حتى لا يصاب
بصدمة-، تقزمه حتى يصبح جرذا في متاهة: فتنهك قواه داخلها، يموت ببطء، يحتار بين
العنف والسلبية. في خضمها ليست الطوباويات الشمولية خاطئة... فمن 1984 لأورويل
إلى عالم جديد شجاع لهوكسلي تبلور حلم مرعب: فسيطرة المربي المطلقة
على المتربي، ال«مربي العظيم»، الذي يرسم الطريق،
ويقرر كل شيء مكان الآخرين، يعرف ويفرض ما هو في «مصلحتهم»
ويشكل «منفع»تهم.
أما إذا أردنا التخلي عن نشوة التحكّم والقوة المطلقة، فلا يمكننا التأرجح، بذلك، بين قبولٍ غير مشروط لأي حدثٍ صادم (بحجة أننا لن نتوفر على وسائل لتفاديه)، وقدريةٍ (تحت ذريعة السماح للطفل بالقيام ب«تجاربه»)، أو سلبيةٍ (تحت ذريعة احترام نمو شخصيته). ما يميز التربية هو كونها، على وجه التحديد، نشاطا يتحتم علينا دوما في خضمه، بطريقة أو بأخرى، أن نقرر مكان الآخر ما يساهم في نموه ويساعده على بناء شخصيته... فلو كان في مقدوره أن يقرر ذلك، لكان قد رُبِّي من قبل. صحيح أنه لا يمكننا ولا يجب علينا أن نقرر كل شيء يهم الآخرين، لكن علينا أن نحسم في عددٍ من الخيارات التي تتراوح بين سلوكات يومية جد متكررة (الاستخدام الصحيح للغة، احترام الوقت، آداب المائدة، وغيرها) ومواقف اجتماعية مؤسِّسة للحياة الاجتماعية (ما نسميه «آداب السلوك» الذي يشكل بالتأكيد، بعد التخلص من حزمة التوافقات القديمة، شرطا أساسيا للتبادل بين الناس) بل والقيم كذلك (السياسية، الدينية، الثقافية) التي نعتقد فيها والتي من المشروع أن تكون لدينا رغبة في أن نجعل مَن نحب يؤمن بها. إن الطفل يأتي إلى العالم عاجزا تماما لدرجة أنه يتعين علينا دوما أن نقرر أولاً مكانه، شرط أن يكون هذا مصحوبا بقلق أن تسمح قراراتنا له بالتدريج أن يلعب أدواره، «أن يعبر عن أناه»، كما يقول بيستالوتزي، بمعنى من المعاني، لكي «يحقق ذاته»، في النهاية، بفضل الاختيارات التي يقوم بها من بين ما نقدم له من اقتراحات.
بعبارة أخرى، إن مسؤوليتنا التربوية، والمتعلقة منها بالخصوص «بإدارة» الصدمات، تتم على عدة مستويات:
اقرأ الجزء الثاني : هل يمكن أن تكون هناك تربية دونصدمات؟ (ج 2)