لورون جافرو
Laurent Jaffro
رابط الجزء الثاني من هنا
مفهومَا الاستقلالية
إذا واجهنا المفهوم المسمى بالجمهوري بفكرة تكنولوجية
الذات، علينا تذكر أن المراقبة والعقاب استبدل صراحة وجهة نظر التكنولوجية
بالمفهوم القانوني للذات. كان هدف فوكو إبراز الوجه الخفي للأنوار، أي ابتكار
السلطة الانضباطية. من الظاهر أنه إن أقر المفهوم المسمى بالجمهوري أن التربية فن،
فسيوكل لهذا الفن مهمة قيادة الفرد نحو قدره الطبيعي، كونه ذاتا حرة؛ و لا يقترح بناء
الذات الحرة من الصفر. المفهوم "الجمهوري" يؤكد على الحرية كطبيعة
إنسانية. إنه، في نظر فوكو، يستند على مسلمة ذات سابقة البناء وغير تاريخية.
يبدو أن المفهوم المنافس، الذي يعوض التنمية بالتحرر،
يعتمد بشكل كبير على التأويل التقني، إلى الحد الذي يعتبر فيه التربية أسلوبَ حياة
لا تقتصر قوته على إطلاق الإمكانيات وتوجيهها نحو مصيرها، بل يمكن أن تذهب إلى حد
الحلم بالإنسان الجديد. نموذج أسلوب الحياة هذا، في نظريات التنمية، مستوحى في الغالب
من البيولوجيا ويتوافق بالتالي مع التجربة والخطأ التجريبي أو تكييف الكائنات
الحية مع البيئة([i]). إن نظريات
التنمية، وبمقدار كونها، بسبب نموذجها البيولوجي نفسه، تضخِّم من أهمية المنفعة،
والتنشئة، والتكيف، المراقبة الذاتية، والتقييم، والإصلاح الذاتي، فهي تعبير عن
العصر الحديث لأشكال الانضباط والطابع الفرداني للسلطة.
يميز التصور التحرري بعناية بين المسؤولية الحقيقية والاستلاب.
لا يمكن المزج بين القبول الحر والمعقول للقواعد والامتثال الاجتماعي. إلا أن هذا
التصور يفترض أن الحرية هي دوما معطاة، وأنها غير مبنية. بمعنى آخر، إن السؤال:
كيف يمكن التمييز بين الشكل التحرري لمراقبة الذات وبين الاستلاب الذي يتمثل عادة
في المراقبة؟ تتم الإجابة عليه مسبقا من خلال تأكيد واقع التحرر، مما يحد جذريا من
الشك الذي يمكننا الضغط به على سيادة الذات. إن التحرر، باعتباره الطريقة التي
نحقق بها الممارسة الحالية للحرية، يبعدنا بحكم التعريف من ضغوطات الاستعباد.
التصور التحرري يمتلك الحل، لكن من دون شك بسبب رفضه لطرح المشكل.
ترابط الوسط الأسري بالنجاح المدرسي
وعلى العكس من ذلك، لنظرية التطور ميزة الاهتمام بالبناء
التدريجي للمسؤولية وتعمل جاهدة على تدقيق تقنياتها، ومراحلها، ومتطلباتها
وإمكانياتها. لكن ليس من المؤكد أن المسؤولية التي تتحدث عنها ليست سوى تستر للعبودية.
ليست القواعدُ المقبولةُ بحرية، بحسب بياجيه، شيئا أكثر
من تحول لل«توازنات الوظيفية المناسبة البسيطة في كل نشاط عقلي أو حتى حيوي»([ii]).
يجب حينئذ التمييز بين نوعين من القواعد ليسا من نفس الطبيعة: القواعد المفروضة
بالإكراه والمتأتية عن ضغط المجتمع الفعلي؛ النظم المتجلية بفضل التعاون والمتأتية
عن المجتمع المثالي، أي التي هي بشكل وثيق معايير منطقية، واجتماعية، وتقنية،
وأخلاقية، وديموقراطية وبيولوجية. يمكن لبياجيه، متسلحا بهذا التمييز، أن يستخلص
أن بيداغوجية النمو انتصرت على بيداغوجية التحرر: وقد أكد، على النقيض من دوركهايم،
أن الممارسة المبكرة للتحكم الذاتي هي التي تهيئ بشكل أفضل بكثير للاستقلالية وليس
الخضوع للسلطة([iii]).
هكذا توصل بياجيه إلى حماية التعاون من آثار القيود والضغوط
الاجتماعية. فهو يؤكد بالفعل أن الذات المسؤولة تم بناؤها خلال عملية طويلة، لكنه
يحمي هذه التجربة من الشك مخافة أن يرى فيها وسيلة تأديبية. يفصل بياجيه عالم
الإكراه (الخضوع الأعمى للسلطة) عن عالم الحرية (القبول الحر لقواعد التعاون). فالمراقبة
الذاتية لن تنطوي على أي قدر من الاستلاب. وعلى النقيض تماما للصور التحرري، تعتبر
نظرية بياجيه أنها تلتحق بالخلاصات الفلسفية وتهنئ نفسها بتقاربها مع تحاليل ليون
برونشفيك في كتابه تطور الوعي في الفلسفة الغربية([iv]).
نظرية التطور التفاف بيولوجي ينتهي بإعادة بناء الذات المستقلة والمتكيفة لفلسفة
الوعي. ولها جانب سلبي إضافي يتمثل في تشبيه التحكم الذاتي تماما بالممارسة
المتعاطفة للتعاون، مما يؤدي إلى اعتبار العزلة شكلا من أشكال المرض. الواقع أنها
تعرّف الشخصية بأنها «الأنا التي تفرض الانضباط على نفسها، أي بقدر ما تقبل وتجسد
القوانين الجماعية»([v]).
التحكم في الذات الذي يتحدث عنه بياجيه لا علاقة له
بالتصور القديم الذي يهتم به فوكو والذي يشير، علاوة عن ذلك، إلى طابعه الانتقائي.
لذلك سيكون من الضروري طرح سؤالين: أ) أليس تصور أخلاق الذات والتصور
السيكو-بيداغوجي مجرد مترادفاتٍ؟ ب) هل يمكن الاستغناء عن المفهوم الأخلاقي للتحكم
في الذات واعتباره مثُلا إنسانيا قديما؟ ينبغي الرد على السؤال الأول بأن
المفهومين هما مترادفتين جناسيين بسيطين باعتبار أن المفهوم السيكوبيداغوجي ليس
سوى شكل من أشكال الانضباط الحديثة. التذويت القديم كان مرتبطا بحكم الآخرين، لكن
لم يكن له أي علاقة في اكتشاف قواعد التعاون، من قبل فرد منغمس في التفاعلات
الاجتماعية. ومن الضروري، بالرغم من ذلك، الاعتراف أن تاريخ التربية هو تاريخ
الانتقال من تصور إلى آخر، وعلى الخصوص الانتقال من مفاهيم التربية الحرة إلى
برنامج للتربية الجماهيرية، وأن عليها استكشاف العلاقات بين الانضباط الحداثي و،
بالأخص، والفترات القديمة والمسيحية. أما على السؤال الثاني فمن الضروري الإجابة
بالنفي. سيكون علينا التمييز بين هذين المفهومين المتعلقين بالتحكم في الذات؛ سيكون
علينا التفكير في بديل للتعاون التكيفي.
المدرسة بين علم الاجتماع، والثقافة والفلسفة: حظ البيداغوجية
استنتاج
رأى فوكو تأثيرات السلطة والقهر ضمن كلتا التصورين الاستقلالية.
وقد اختار الطبيعة التقنية لبناء الاستقلالية. ومع ذلك فهو لم يتخل عن التمييز، وعن
السعي، ليس إلى شكل أعلى للاستقلالية، وإنما على الأقل إلى شكل بديل وتحرري. فهل
أوضح الطريقة التي يمكن لهذا التمييز أن يتحقق؟ لجأ فوكو أولا إلى الإجابات التي
جعلها مفهومه حول تقنيات السلطة غير مقبولة، أي إلى المعارضة التبسيطية بين
التقنيات العامة الموجهة نحو الإخضاع وبين التقنيات العامة الموجهة نحو الإتقان. سيواجه
فيما بعد هذه الصعوبة. هكذا سنجد في مقال «ما هو التنوير؟» عام 1984 صياغةً للمشكل
على النحو التالي: «كيف يمكن فصل نمو القدرات عن تكثيف علاقات السلطة؟»([vi]).
يريد فوكو أن يقول أنّ القرن 18 قد اعتقد أن نمو القدرات التقنية سينتج عنه زيادة
في الحرية، دون أن يلاحظ أن قدراته الجديدة قد ارتبطت بعلاقات قوى، خاصة منها
الانضباطية. من أجل التفكير في إمكانية الفصل بين نمو القدرات وتكثيف علاقات القوة كان من
الضروري تغيير أسلوب الدراسة، والمرور من فحص التمثلات الواعية أو التحديدات
اللاواعية إلى فحص ال«مجموعات التطبيقية»، أي «ما يفعله [الناس] والطريقة التي
يفعلونها بها». لذا كانت أعمال سنوات الثمانينات محاولة لتحقيق « هذا الفصل »([vii]).
يسمح لنا وجود هذه الصعوبة بفهم
سبب انبهار الأعمال الأخيرة لفوكو بالمفهوم الرواقي للتحكم في الذات، ولما يشكل البديل
الأكبر الذي يبحث في إطاره عن إمكانية حدوث «انفصال». الطرح الرواقي الأكثر بساطة
يتلخص في كوني مسؤولا عن عبوديتي، أو، بعبارة أخرى، أن ملكة التحكم في الذات هي
نفسها سبب الاستلاب. ثمة جميع أنواع التقنيات التي تنمي هذه القدرة على التحكم في
الذات، غير أن توجيه هذه التقنيات، وطباعها التحررية، يعتمد على استثمار أو تحديد الخير،
والمصلحة و الذات([viii]).
بعبارة أخرى، التوجه نحو الكمال
أو نحو الخضوع ليس غريبا عن الممارسة ذاتها التي يسميها الرواقيون بالاختيار
المتعمد أو "القرار". فقراري هو الذي يضع مصلحتي في الحل الذي اخترته. لا
يكون التمييز مكتملا ولا
متاحا على الدوام، لأن مجال الحرية مماثل لمجال العبودية. الحرية هي موضوع
استعمال، ليس كأداة خارجية، بل بوصفها ممارسة ضرورية ومحفوفة بالمخاطر. إذا قلنا إن
المراقبة الذاتية يمكن أن تكون محاكاة بسيطة للذاتوية الحقيقية، لابد حينها من
إضافة أن الفرق بين المُحاكاة والنموذج الأصيل لا يمكن أن يصنعه سوى الجميع ويشكل ممارسة
للحرية ذاتها. هذه أطروحةٌ أساسية عند الرواقيين مفادها أن الدونامي
[القوة] dunamis باعتباره مبدأ التحكم الذاتي قادر على أن يفحص
نفسه بنفسه([ix])
وعليه أن يقوم بتحديد مكانته الخاصة. يشير مصطلح "التذويت"، كما يعرفه
فوكو، ليس فقط إلى "الصيرورة إلى الذات" بل إلى الوضع الذاتي لهذه
الصيرورة. لهذا من الضروري التخلي عن البحث عن المعايير.
هذا يعني أنه لا يمكن أن تكون هناك معايير لماهية الاستقلالية
الحقيقية؛ أن المهمة الأساسية، لكنها غير مضمونة على الدوام، هي تحقيق أكبر
استفادة منها؛ أن هذه الاستفادة لا يمكن القيام بها، بالنسبة لكل شخص، إلا من
تلقاء نفسه. هكذا نفهم لماذا لا تكون ممارسة التعاون كافية لتحقيق هذه المهمة، ولماذا
نحتاج أيضا لممارسة انسحابٍ أو تحفظ. والسؤال المهم إذن هو ما الذي يمكن، في إطار التربية،
لا تحديد هذه المهمة، ولكن تعزيزها على الأقل.
المصدر
Le Télémaque 2006/1 (n° 29),
pages 111 à 124, Éditions Presses universitaires de Caen
الهوامش
[i] -
بخصوص النقد الفوكاوي لتطبيق النموذج البيولوجي على
سيكولوجية النمو، أنظر: J. Morss, The Biologising
of Childhood : Developmental Psychology and the Darwinian Myth , New
Jersey, Erlbaum, 1990.
[ii] - J. Piaget, Le Jugement moral chez l’enfant, 4 E éd., Paris, PUF,
1973, p. 324.
[iii] - Ibid. , p. 292.
[iv] - Ibid. , p. 321.
[v] - J. Piaget, Remarques psychologiques sur le self-government à l’école [1934],
repris In C. Xypas, Piaget et l’éducation , Paris, PUF, 1997, p.
67.
[vi] - «Qu’est-ce que les Lumières ? », in Dits et
écrits , t. IV, p. 576.
[vii] - التأويل المقترح
هنا يتعارض مع James Marshall (Michel Foucault : Personal Autonomy
and Education, Dordrecht, Kluwer, 1996) الذي يرى أن فوكو قد رفض هدف
الاستقلالية الشخصية باعتباره أسطورة.
[viii] - Voir Entretiens d’Épictète, II, 22, 19-20.
[ix] - Entretiens d’Épictète, I, 26, 18, qui
cite Platon, Apologie de Socrate, 38a.