برنار جوليبر
Bernard Jolibert
تضاعفت،
منذ سنوات حتى الآن، بمؤسسات الروض والمدارس الابتدائية، العديد من التجارب
التعليمية التي تدعي انتسابها للفلسفة. غالبا ما تترك هذه الدراسات تقديرات جذ
متفائلة، خصوصا بعد انفصالها عن الممارسة التقليدية للفلسفة في الثانوية أو مع
الممارسات الجامعية التقليدية. فالأطفال، حتى قبل أن يصلوا الأقسام النهائية، ومنذ
حداثة سنهم –من ثلاث إلى أربع سنوات بالنسبة للأصغر سنا- يأخذون أماكنهم ضمن ورشات توسم صراحة بالفلسفية
حيث يمكنهم مناقشة مسائل توكل تقليديا للأقسام النهائية كمسألة الحب، والحرية،
والسلطة، والذكاء، والاختلاف، والاحترام، والعنف، والمسؤولية ومواضيع أخرى
التي تعالج عادة في وقت لاحق داخل الإطار المدرسي. من خلال الاستفسار حول هذه
المفاهيم، يتعلم الأطفال التفكير، والتعبير عن الرأي، والاستماع إلى بعضهم البعض،
وتبادل الرأي، والحوار وأخيرا العيش معاً. فهل يمكن للفلسفة أن تكون بمثابة علاج
مبكر لما يسمى الآن «تصاعد الفضاضة» أو «تفكك الروابط الاجتماعية»([1])؟
هل الأطفال فلاسفة بشكل عفوي؟
الفكرة
مغرية. وتبدو أكثر إثارة عندما تنتسب إلى خطاب المنهج: «الحس السليم هو
أفضل شيء مشترك في العالم». كل واحد سيمتلك بشكل تلقائي عقلا أو ادراكا (نفسه
بالنسبة للجميع من حيث مبادئه) مما يجعله قادرا على تنظيم فكره ويستجيب لخياراته
الأخلاقية. سيكون كل واحد قادرا بشكل تلقائي على التفكير كفيلسوف، بما في ذلك
الأطفال الذين لاتزال عقولهم مع ذلك تتشكل من خلال اللغة. يمكن لأي كان، لنفس
السبب، تدريس الفلسفة، دون أن يحصل على تكوين في هذا المجال، ذلك لأن المسائل التي
يعالجها الفلاسفة تمس الجميع. لهذا لن يكون الاهتمام مرغوبا فيه فقط بل مؤسس بشكل
متين في قلب الفلسفة الكلاسيكية الأصيلة.
هكذا
يستقيم بشكل تدريجي ال«الحوار الحجاجي» الذي يسميه البعض ب«الحوار الفلسفي»، أو «مدخل
للحوار الفلسفي» أو ب«نقاش بهدف فلسفي». هذه اللحظة الحوارية لحظة مخطط وفقا
للبرامج الرسمية لسنة 2002 المخصصة للسلك الثالث، في إطار نصف ساعة أسبوعية. وكما
هو الحال بالنسبة لعدد من المستجدات المدرسية، تتميز بداية إضفاء الطابع المؤسسي
لها بفرنسا مرجعية تاريخية أمريكية. ففي 1969 قام أستاذ المنطق، ماثيوْ ليبمان Matthew Lipman، من مؤسسة النهوض بالفلسفة من أجل الأطفال Institute for the Advancement of Philosophy for
Children، بتحرير سبع
قصص فلسفية قصيرة تهدف إلى إثارة النقاش في الأقسام الصغرى. يتعلق المر بتعريف
الأطفال بالفكر العقلاني من خلال نصوص مكتوبة ونقاشات، وب«جعل الأطفال يلجون فعل
التفلسف»، لا لتحويلهم إلى فلاسفة، ولكن لجهلهم يتشربون منذ حداثة سنهم لعبة
ديموقراطية الحوار المنظم وتبادل الرأي. باتباع تعليماته، يجب على هذا النشاط أن
يتم على مراحل عدة. ويستدعى الأطفال، بعد اتقانهم القراءة، إلى قراءة مقاطع من
إحدى القصص. تم يعبر كل واحد منهم بشأن الوضعيات التي أثارت اهتماماه ويطرح أسئلة.
يتبع ذلك نقاش عام حول مواضيع مختارة. وفي الأخير، يتم القيام بإعادة صياغةٍ أكثر
دقة للمشكل المطروح وتجرى بحوث يشرف عليها المكونون. يتعلق الأمر، باتباع الخط
السياسي لجون ديوي، زيادة على التمكن من الخطابة اللغوية وتقديم الحجج، بتنمية قيم
ديموقراطية الاستماع وتبادل الرأي والتسامح لدى الأطفال([2]).
في
كندا، اقترحت ماري فرانس دانييل Marie-France
Daniel البدء في
السنة الرابعة([3]). في
فرنسا، تمتد هذه الممارسة حاليا إلى أقسام الروض وأيضا إلى التعليم المتخصص. وهنا
يبدو أنه، عوض الانطلاق من الكتب، سيكون من الأجدر بدأ النقاش بسؤال يهم التلاميذ
بشكل مباشر. ويقترح أحد المدافعين على هذه المقاربة، ميشيل توزي Michel Tozzi، على
المعلمات والمعلمين «مقابلات فلسفية جماعية» مناسبة أكثر للقدرات المدرسية للأطفال
ولأذواق أذواقهم. فبتحبيذ التبادل المباشر والمستقل لأفكار التلاميذ، مع توجيهها وصقلها
من قبل الراشدين، يتم السعي إلى توليفِ حرية التعبير والتحكم في وضعية التبادل. ويقترح
جاك ليفين Jacques Lévine، بمنحى توجيهي أقل، بأن يُترك الأطفال، في
الوهلة الأولى، أحرارا في تعليقاتهم، علما أنها توثق بالصوت والصورة. في المرحلة
الثانية تشاهد وتستمع المجموعة إلى الحوار الذي سُجل لتوه، ثم يُوجه التلميذ
تدريجيا، بمساعدة من الراشد، إلى صياغته بكثير من الدقة([4]).
ويفضل آخرون الاعتماد مباشرة على تدخلات الأطفال. أما «الورشات الفلسفية» لآنْ
لالان Anne Lalanne فتهدف بشكل صريح إلى «تعليم
فعل التفلسف» بحمل الأطفال من الدهشة الأولى إلى إتقان التبادل الحواري: الحوار
المتبادل (المساواة في الحق في الكلام، احترام رأي الآخر)، صرامة فكرية (صياغة
الإشكالية، صياغة المفاهيم، صياغة الحجج)، التحقق من الخطابات (أصالة مصادر
التمثلات، نسبية القيم)([5]).
الأهداف
المقدمة لإقامة هذه الورشات التي تستدعي الحوار المبني على حجج متنوعةٌ: الأهداف
اللغوية (الطلاقة في التعبير الشفوي، دور المنسقين والمرؤوسين، الصياغة الأكثر دقة
للفكر من خلال تدقيق بناء الجمل والمفردات)، أهداف التنشئة الاجتماعية («التحول
إلى تلميذ»، «العيش سوية»، تقاسم الآراء، احترام قانون التواصل)، الأهداف
الأخلاقية (مراعاة الآخرين، اكتساب قوانين التمدن)، الأهداف النفسية (تنظيم أو
إنشاء الفكر، الصبر حين يتكلم الآخرون، الجرأة على الكلام وطرح الأسئلة، صياغة
تجارب حياتية في كلمات)، الأهداف الفكرية (تأمل الطفل لتجربته، التأمل الذاتي،
التفكر في التمثلات الخاصة)، الأهداف السياسية (التربية على المواطنة، منع العنف،
الانفتاح على التعلم المتعدد الثقافات). والمفارقة أن التلاميذ الذين يواجهون
صعوبات، بل صعوبات كبيرة أو فشل مدرسي، هم الأكثر تمسكا بهذه الورشات الجديدة([6]).
إنهم، من دون شك، يرون في هذه الممارسة وضعية جديدة مباشرة تسمح لهم تجنب عقبات
الكتابي.
وبهذا
يبدو واضحا أن إدخال الفلسفة في التعليم الابتدائي، بالحضانة والأولي مجتمعين، لن
سيكون إلا إيجابيا، على المستوى الفكري، والأخلاقي والاجتماعي.
رابط: زمن الطفولة (أربعة أجزاء)
تحاور الفلسفة
السؤال
المطروح هنا يمس استعمال الصفة الفلسفية في هذا النقاش المنطقي. هل يعكس
واقعا تأمليا ونقديا حقيقيا ذو بعد كوني أم أنه مفهوم الغرض منه فقط تمرير مظهر
التأمل وكحقيقة واقعة؟ حينها سيكون وهما بسيطا: فالدرس القديم عن «التمدن»، الذي
أصبح مع الإصلاحات «مقدمة للأخلاق»، وبعد ذلك «التربية المدنية»، سيكتسي اليوم برداء
الفلسفة كي يزكي ـكثر تنشئة اجتماعية عاجلة للأطفال من خلال المدرسة الابتدائية. هكذا
أرفق كريستوف مارسولييه Christophe
Marsollier عنوان
المؤلف الجماعي، الفلسفة في المدرسة، بعنوان فرعي صريح: لتعلم العيش
سوية([7]).
في هذا المؤلف هناك حديث كثير عن طرق إنشاء «سلوكات مواطِنة»، لكن دون أن يتم
التساؤل بالضبط عما هو المواطن، ولا كيف يكون نموذجا إنسانيا محبذا عن غيره. أكثر
من ذلك أنه لم يتم ذكر أي فيلسوف ضمن مراجع المقالات المكونة له وعنوان ورقة
مارتين غويجنMartine Guegen، «لتهدئ العلاقات في القسم»، توضح نيتها
المفيدة بشكل صريح. النية جديرة بالثناء، وذلك في مواجهة صعوبات التعددية الثقافية
والفقدان العامة لما سمى بمرجعية الجمهورية والديموقراطية، ومخاطر الانزلاق قد
تبدو قليلة الأهمية بالنسبة للبيداغوجية التي تستهدف التنشئة الاجتماعية للأطفال
وتنبيه الذكاء.
يمكنها، على العكس من ذلك، أن تكون كارثية على
الفلسفة نفسها. كلما تتم رؤية الفلسفة حيثما كان تبادل للرأي، تتم المجازفة بعدم
وجودها حينها في أي مكان. فبتقديم مجموع ما يتم التفكير فيه، ومناقشته، والحوار في
شأنه أو الداعي إلى جدل باعتباره فلسفيا، هناك فرصة قوية للتمرغ في نوع من اللامبالاة
العامة، البعيد عن المطلب المبدأ الأولي للصرامة الفلسفية. وعلى عكس ما يدعيه
أوسكار برونيفييه Oscar Brenifier، «الفيلسوف الممارس»، والمنظم الدولي
للدورات التدريبية، وللندوات، وللأسابيع التكوينية التي تركز على الممارسات
الفلسفية و مسؤول أيضا على مجموعة Philoz’enfants الصادرة عن ناتان Nathan، لا يكفي أن
يكون هناك رابط بين الأفكار، والتعبيرات النحوية وبناء الجمل المنطقية كي تكون
هناك فلسفة([8]).
من الممكن رفض عناوين مثل: «ما هي الحرية؟ ماهي الحياة؟ ما هو الخير وما هو الشر؟
من أكون؟» دون اتخاذ أدنى موقف تأملي أو نقدي تجاه السؤال الذي يتم طرحه. هل يتعلق
هذا بالفلسفة؟
يذكرنا
جورج كانغيليم Georges Canguilhem أنه في الفلسفة:
الاشتغال
على مفهوم يعني تنويع امتداده وفهمه، تعميمه بواسطة دمج سمات استثنائية، ونقله
خارج منطقته الأصلية، وأخذه كنموذج أو، على العكس من ذلك، البحث له عن نموذج،
وإجمالا اعطاؤه وظيفة بشكل تدريجي من خلال تغيرات منظمة([9]).
عمل
كهذا يتطلب الوقت، والصبر، والتفكير الشخصي. ربما قد تكون هناك حاجة أكثر إلى
تأمل، باعتباره عودة صبورة إلى الذات، عوض نقاشات وحوارات. السفسطائيون الأقل
خداعا، وكبار المتلاعبين بالآراء، كانوا ولا يزالون خطباء كبار. قد نكون، على
العكس من ذلك، فظّين، غير صبورين، قاسيين في الحديث كما في التصرف، مرتابين من هذا
الاستماع الإلزامي إلى الآخر، هذا الاحترام للاختلافات، هذا الاغناء الشخصي من
خلال الالتقاء بالثقافات، الدوغمائية الحقيقية في شكل التنشئة الاجتماعية
المعاصرة، والتصرف كفيلسوف حقيقي، كما فعل الكلبيون Cyniques، أنتيستنيس، ديوجين، مينيبوس أو هيباركيا([10])
في الأزمنة الغابرة الذين كان سلوكهم غير الاجتماعي أو المعادي تماما للمجتمع قد
ظل مشهورا.
لا
يكمن التحدي الفلسفي الحق في رؤية التلاميذ يعبِّرون عن مشكلات وجودية بل في جعلهم
قادرين على ممارستها بعيدا عن الآراء المبتذلة التي يتم تغذيتهم بها، والمكونة من
عفوية زائفة غير مُفكر فيها، وتحويلها إلى استفسارات فلسفية. يصادف هذا التحول
عراقيل من الصعب التغلب عليها. يكفي التفكير في الصعوبات المواجهة عند استعمال «الافتراضات
اللاواقعية([11])» في
الدورة التحضيرية أو اهمال التناقض، مثلا تلك المتعلقة بمفهومي الموت والحياة([12])،
لفهم أن مقاربة الطفولة للواقع واللغة لاتزال بعيدة عن التأمل الفلسفي، حتى لو
بدأت فب الانصياع لمتطلبات العقل.
بهذا من الممكن إبداء تحفظات، من ثلاثة مستويات، حول الطابع الفلسفي لهذه النقاشات المدرسية المبكرة: ما يتعلق منها بالمضامين، وما يتعلق بالتأطير، وما يتعلق في الأخير بالطفولة، باعتبارها مطالبة بالتفكير بشكل مفهومي حتى قبل أن تتكون، سواء على المستوى العقلي والوجداني، لا المواضيع التي سيُمارس عليها هذا التأمل ولا الأدوات التي ستقوم بذلك.
ضع ملاحظاتك في خانة التعليقات أسفله👇👇 أو في الفايسبوك
اقرأ أيضا: مدرس الفلسفة فيلسوف؟
«»
Revue
philosophique de la France et de l'étranger 2015/3 (Tome 140), pages 291 à 306.
Éditions Presses Universitaires de France
الهوامش
[1]- Gilles Ferréol (dir.), Intégration, lien
social et citoyenneté, Villeneuve d’Ascq, Presses universitaires du
Septentrion, 1998.
[2] - Matthew
Lipman, Thinking in Education, Cambridge, Cambridge University Press,
2003.
[3] - Marie-France
Daniel, La Philosophie et les enfants. Les modèles de Lipman etde Dewey,
Montréal, éditions Logiques, 1992 (réédition De Boeck et Belin, 1996).
[4]
- - Jacques Lévine, « La notion de
“monde philosophique des enfants” », in Michel Tozzi (dir.), Apprendre
à philosopher par la discussion. Pourquoi ? Comment ?, Bruxelles, De
Boeck, 2007. Voir aussi, du même auteur, « E ssai sur le monde philosophique de
l’enfant », in Claudine Leleux (dir.), La Philosophie pour
enfants, Bruxelles, De Boeck, 2008.
[5]
- Anne Lalanne, La Philosophie à l’école : une
philosophie de l’école, Paris, L’Harmattan, 2009. Voir aussi du même
auteur, Faire de la philosophie à l’école élémentaire, Thiron,
ESF, 2004.
[6]
- Jean-Claude
Pettier, La Philosophie en éducation adaptée, utopie ou nécessité ?, Villeneuve
d’Ascq, Presses universitaires du Septentrion, 2002. Voir aussi du même,
avec Jacques Chatain, Textes et débats à visée philosophique au cycle 3, au
collège (en segpa et… ailleurs), CRDP, académie de Créteil, 2003.
[7]
- Christophe
Marsollier (dir.), La Philosophie à l’école. Pour apprendre à vivre
ensemble, Paris, L’Harmattan, 2011.
[8] - Voir le site « Institut de pratiques philosophiques » : www.pratiquesphilosophiques. fr.
[9]
- Georges
Canguilhem, « Qu’est-ce que la psychologie ? », in Les Cahiers pour
l’analyse, janvier 1966, p. 73 (et Études d’histoire et de philosophie
des sciences, Paris, Vrin, 1994, p. 206).
[10] -Diogène Laërce, Vie, doctrines et
sentences des philosophes illustres, Paris, Flammarion, 1965, t. II , pp. 5
sq.
[11] - يسأل المعلم: «لو لم أكن هنا،
فأين سأكون؟». «هنا، لأنك هنا!» يجيب الأطفال الذين يرفضون مراعاة الإمكانيات التي
لا تتناسب والواقع البين. فالمشكلة الحقيقية تكمن فيما يسمى في المنطق بالافتراضات
اللاواقعية. الحال أن أنماط الفكر المشروطة هذه تشكل القاعدة العملية
للتأمل الفلسفي.
[12] - إن
المفاهيم الطفولية الزائفة هي تراكمية. هي لا تأخذ بعين الاعتبار عدم التوافق
التجريبي أو التناقضات المنطقية. على سبيل المثال: الحياة هي حركة لكن في نفس
الوقت اللاحركة، والتنفس، والقصور الذاتي، والدورة الدموية بل وأيضا غياب الدورة
الدموية والتنفس في حالات أخرى، إلى غير ذلك. انظر في هذا الشأن: Jean Piaget, Le Jugement et le
raisonnement chez l’enfant, Neuchâtel et Paris, Delachaux et Niestlé, 1924,
ainsi que Henri Wallon, Les Origines de la pensée chez l’enfant, Paris,
Puf, 1945, 2 vol.