بقلم: فرانسوا غاليشيه
رابط الجزء الأول من: ما هو فعل التفلسف؟ (الجزء 1)
الفلسفة من حيث هي «بلهاء»
يبلور جيل دولوز، في واحد من دروسه، موضوعة الفيلسوف
باعتباره ذاك الذي، من سقراط إلى دوستويفسكي، يكون حقيقة أو يلعب دور «الأبله». ما
الذي تعنيه بالضبط هذه التيمة؟ لفهمها لابد من الرجوع إلى ديكارت، حين يقابل
التعريف الأرسطي للإنسان من حيث هو «انسان عاقل» بمقولته الخاصة للكوجيطو («أنا
أفكر إذن أنا موجود»). يستند تعريف أرسطو على افتراضات واضحة: لفهمه من
الضروري معرفة ما يعنيه الحيوان وما يعنيه العقل بشكل مسبق. في المقابل، يستند
الكوجيطو على افتراضات ضمنية: إذ لا يمكننا أن نفكر، كما يقول ديكارت، دون
أن نعرف، بشيء من الغموض إلى حد ما، ما هو الفكر؛ لا يمكننا القول «أنا» دون أن
تكون لنا على الأقل معرفة حدسية عما يعنيه «أنا»؛ لا يتحقق لنا الوجود دون معرفة
ما الوجود.
ما هو مطروح هنا إنما هو التمييز، الأساسي انطلاقا من
ديكارت فصاعدا، بين العقل الطبيعي والعقل العالِم. تعريف الفلسفة بأنها «بلهاء»،
يعني تعريفها بكونها لا-معرفة (بمعنى العقل العالِم). سقراط، كما يضيف دولوز،
يلعب دور «الأبله»؛ تشديده على الجهل («كل ما أعرفه هو أني لا أعرف شيئا») هو
وسيلة للانفصال، فجأة، عن كل المعرفة المكتسبة، عن كل المعارف المنقولة من خلال
التجربة والتربية، واستبعادها رغبة في العودة إلى البديهيات الوحيدة للوجود من حيث
هو موجود.
تأتي كلمة «أبله Idiot» من الأصل اليوناني idiôtès، التي تعني «شخص عادي»، في مقابل الحاكم، أو الانسان العام أو
خبير، أي من يعلم، ومن له معارف. من هنا جاء المعنى الفرنسي ال« رجل الذي لا علم
له، جاهل» و، وبالاشتقاق، رجل غبي، لا ذكاء له ولا ثقافة. في معناها اليوناني،
تشير ال«أبله» إذن إلى طباع الذي، من لا قدرات له ولا معارف محددة، هو «مجرد إنسان
فقط»، لا يتمتع سوى بالطباع العامة المميزة للإنسان، غير مضافة إليها الصفات التي
تطبع ثقافة ما، وضع اجتماعي ما أو مهنة ما. إلا أن ال«أبله» تعني أيضا «ما يخص
شخصا ما»، «
بعينه»، «خاص»، أي ما يجعله مختلفا، وما يميزه عن جميع
الآخرين (من هنا جاء، في الفرنسية، نصطلح «بلاهة idiotisme» للإشارة إلى
خصوصيات لغة ما)([1]). هذا
المصطلح يقدم إذن، في اللغة اليونانية، مفارقةَ الدلالة في ذات الوقت على كل من
العمومية القصوى والتفرد الشديد: أن يكون لها، في نفس الوقت، معنى سلبي ( الأبله idiôtès باعتباره
الإنسان الذي ليس نبيلا ولا عالما هو المواطن العادي، وبالتالي إنسان الوسط
المتواضع، رجل الشعب) ومعنى إيجابي (مادام يعبر عما يشكل تفرّد كل واحد، طبيعته
الأكثر عمقا، الأكثر أساسية، بغض النظر عن المحددات المكتسبة أو العرضية).
لكن هذه المفارقة تبدو وكأنها تخص الفلسفة بالضبط. فمن
جهة، إنها تدعي الشمولية، وبالتالي فهي تفكك ما هو، في الإنسان، عرضي، ظرفي،
ثقافي، عما هو خاص به في حد ذاته. هذا يستدعي تهميشا، أو نسيانا أو استبعادا بشكل
إرادي لكل المعارف ولكل التخصصات أو لكل مواصفات الجنس البشري –مع المجازفة ب«لعب
دور الأبله»، مثل سقراط، أو ديكارت الذي عمل على الشك حتى مما يبدو أكثر بداهة
والأكثر يقينية: وجود العالم. لكن من ناحية أحرى، تؤدي بنا هذه الرغبة في الشمولية
المطلقة إلى بلورة فكرة تبدو فريدة من نوعها، مختلفة عن كل ما عداها، وبالتالي
فريدة بشكل بارز: إذ ليست فلسفة ديكارت هي نفسها فلسفة كانط أو سبينوزا. في هذا
يقول برغسون، «لا توجد، ولا يمكن أن توجد فلسفة واحدة، كما يوجد علم؛ على العكس،
سيكون هناك دوما العديد من الفلسفات بقدر ما هنالك من فلاسفة أصليين. وكيف يمكن أن
يكون الأمر غير ذلك؟ بقدر ما يكون المفهوم مجردا، بقدر ما تكون له دوما في تصور ما
نقطة انطلاقه»([2]). ذلك أن
التفلسف، في نهاية المطاف، وعلى عكس العلم، لا يستهدف إنتاج مفاهيم، ولا وضع
قوانين قادرة على تفسير الواقع، وإنما إلى توضيح تجربة هي في نفس الوقت فريدة وشمولية،
إلى وصف تجربة هي دائما تخص شخصا ما، لكنها في ذات الوقت تقدم نفسها على
أنها معيارية بحتة، أي أنها صالحة بشكل مسبق لكل إنسان.
رابط مقال: حول "المدرسة أو صناعة العقل"
إلا أن هذه المفارقة هي نفسها التي تميز الأنانية
الطفولية، كما يرى ذلك بياجيه: فالطفل يحيى تجربته باعتبارها بالضرورة تجربة
الجميع، ووجهة نظره بكونها الوحيدة الممكنة، وتفردها كونية. من سخرية سقراط إلى أبوخية
épochè هوسرل (وضعُ
جانبا كل ما يحيل على «الوضعية الطبيعية» للعودة إلى الحدس الأصلي للمعاش)، من
الكوجيطو الديكارتي إلى الفكر النقدي الكانطي، هناك دوما في فعل التفلسف إرادة
البراءة، عودة إلى نوع من السذاجة الأولية خارج أو بالأحرى تحت حيل ومكر الحياة
الاجتماعية –السذاجة التي هي في نفس الوقت شرط إمكانية الإمساك بحقيقة الإنساني وصولا
الي تجاوز التنوع الإنساني.
بهذا المعنى، يمكن القول أن هناك تقاربا عميقا بين
الفلسفة و الطفولة. لا شك في أن الطفل هو في أصله إنسان، لكنه لم يتعلم بعد،
وبالتالي ليس بعالِم؛ إنه إذن إنسان، إنسان فقط، ليس بعد عضوا من اي مجتمع أو من
أي ثقافة محددة.
بكل تأكيد، ليس من الممكن إقامة تكافؤٍ تام بين الحالة
الطفْلية والموضوعة الكلاسيكية للعقل الطبيعي: إذ بالنسبة للمنظور العقلاني، لا
تنفصل الأخيرة عن تفسيرٍ يفترض اللغة، والتأمل والحجاج. لكن روسو عمل مسبقا على
عكس هذا المنظور من خلال إقامة بديهيات للعقل الطبيعي على أساس وعيٍ بالذات يحيل،
لا إلى الحدس الفكري للكوجيطو كما هو الحال عند ديكارت، وإنما إلى حب الذات،
بالامتلاء الذي به يتزامن الإحساس بالذات مع الإحساس بالسعادة، كدليل أساسي عن
الوجود باعتباره خيّرا في حد ذاته.
بذلك، لا يعني فعل التفلسف تفعيلٌ جادٌ لشك منهجي ينمو
ببطء وبصعوبة نحو تساؤل حول أراء ومعارف مكتسبة. إنه بالأحرى القيام منذ البداية،
من خلال انجذاب مفاجئ، بانعكاس شبه مباغت (حتى وإن كان من الضروري أن يكون مهيأً
منذ زمن طويل وبشكل دقيق)، في هذه الوضعية من الملاءمة الأولية مع الذات التي تسمح
بانتقاد اليقين الزائف للوجود الاجتماعي.
بهذا المعنى، يكون فعل التفلسف مع الأطفال، وجعل الأطفال
يتفلسفون، هو، بمعنى من المعاني، استعادة المبادرة التي كان كل فيلسوف قد قام بها.
إن كان الطفل هو «الأبله» بامتياز (البطل، في رواية دوستويفسكي، دائما يُقارَن
بطفل، ويعتبر طفلا مفقودا في مجتمع الراشدين)، ففعل التفلسف هو الرجوع إلى حالة
السذاجة والبراءة المميزة للطفولة مع الاستمرار في القدرة على التفكير فيه وتفسيره
في خطاب مفهوم من قبل الجميع.
انطلاقا من هنا،
يمكن تحديد بضع نتائج عملية من هذا التحليل. عادة ما يدرك المدرسون فعل التفلسف
كتجاوز، بله كنسيان كلي للتجربة الفردية لكل فرد، بغية مواجهة الأفكار. هاته
الخطاطة، التي من الوحي الأفلاطوني و/أو الديكارتي، تقود، أثناء التبادل اللفظي أو
الإنتاجات الكتابية، إلى رفض كل ما لا يكون من مرتبة الحجاج ولن تؤدي معنى التجريد
المفاهيمي. لكن إن كان الإقبال على الكونية الفلسفية، على عكس الكونية العلمية،
يمر من التفكير في بلاهة التجربة الحية، من الوجود «البحت»، السابق عن كل علم وكل
معرفة قائمة، ربما كان من الضروري الزيادة في تنويع أشكال فعل التفلسف. ربما لن
يكون الحوار الجدلي التقليدي المنهجَ الوحيد؛ منهجيات أخرى يمكنها بل ويجب عليها
أن تُكتشف، مثل المقاربة المجازية لموضوع ما، أو الكتابة السردية أو الشعرية، أو
اللغة التصويرية، أو لعب الأدوار، وغيرها([3]).
« بقدر ما يكون المفهوم مجردا، بقدر ما تكون له دوما في تصور ما نقطة انطلاقه»،
كما قال برغسون. وإذا قبلنا حقيقة هذا الطرح، فإن تعلم التفلسف يعني أولا وقبل كل
شيء إدراك، والتفكير ووصف تجربة المرء، والعودة إلى «ذات الشيء»، كما هو مطلوب في
المنهجية الفينومينولوجية، حتى قبل تعلم التعامل مع الأفكار.
رابط مقال: نيتشه المعارض القوي لتحرر المرأة
الراشد الذي يتفلسف يعمل على أن يصبح طفلا مرة أخرى بالقدر
الذي، كما رأينا، يحاول أن يمتلك البديهيات الأولية للوجود قبل أن تتم تغطيتها
بتفاهات اللغط، بما يسميه هايدغر ب«نحن on». لكنه لا يعود حقيقة الطفل الذي كان، لعدم قدرته محاكاة البلاهة، والتظاهر
بالتخلص من المعارف التي يمتلكها. وفي المقابل لا يصبح الطفل الذي يتفلسف راشدا مرة
أخرى، لأن فعل التفلسف لا يمكنه أن يعطيه المعارف والقدرات التي تكسبه إياها
التربية شيئا فشيئا. لكن يمكن لفعل التفلسف، للتفكير في طفولته، للتعبير عن
التجارب والأوليات التي يحياها أن تبيح له بأن يصير راشدا آخر –راشدا لا يمكنه،
بالفعل، فقدان، ونسيان الطفل الذي كان عليه بشكل تام.
المصدر:
https://philogalichet.fr/wp-content/uploads/2011/10/Quest-ce-que-philosopher.pdf
الهوامش
[1]- Dictionnaire Bailly, Hachette 1929, p. 957.
[2] - Bergson,
La Pensée et le Mouvant, PUF, 1962,p. 147.
[3] - انظر
فيما يتعلق بهذه المنهجية مؤلف م, ضوزي وآخرون المشتر إليه سابقا