أخر المقالات

زمن الطفولة ( الجزء 2)

 



إريك دوبروك


رابط الجزء الأول من هنا


«كلنا كنا أطفالا قبل أن نصير رجالا»

الطفولة، والشباب وسن الرشد

يبرز الجزء الأول([i]) من خطاب المنهج بشكل واضح أهمية المسألة التربوية. الواقع أن ديكارت لم يتعهد قط «هنا بتدريس المنهج الذي يجب على كل واحد اتباعه لقيادة عقله، بل بالكشف فقط عن الطريقة التي حاول بها إدارة عقلـ[ـه]»([ii]). لم يحرر دراسةً توضح قواعد لتوجيه العقل، وإنما استعرضها في «قصة» أو «حكاية» تصور طريقة اكتسابها و لا تقدم لنا سيرة حياته سوى «مثال»([iii]) على القارئ تقييمه. بعبارة أخرى، المنهج ليس عقلانيا في المقام الأول. إنه يستجيب للتاريخ الشخصي لمؤلفه، الذي تبدأ بالتربية المقدمة خلال الطفولة، والتي جعلته «محرجا من فرط [...] الشكوك والأخطاء»: قراءة الكتب القديمة، معرفة «البلاغة» و«الشعر»، و«الرياضيات»، و«اللاهوت»، و«الفلسفة» و«العلوم» التي اعتمد عليها –إذ التعليم الذي حصل عليه لم يقدم له لا اليقين ولا المعرفة المطلوبة([iv]). هذه هي الأسباب التي دفعته، حسب قوله، إلى تجنب نمط النقل المعمول بها في عصره: «ما إن سمح لي السن بالخروج من التبعية لأساتذتي، حتى تركت دراسة الآداب تماما»([v]). تمثل التربية مرحلة التبعية والخضوع لتقليد، ينشطها أولئك الذين يتكفلون بغرس الأفكار وقواعد السلوك لدى لأطفال: ذلك أنه من الضروري القطع معها والتخلي عنها بغية لتحقيق الذات.

لنفس الدارس

جينيولوجية السلطة والمؤسسة التعليمية: المراقبة والمعاقبة* (الجزء II)


التاريخ الشخصي لديكارت يكشف لنا أن هذه التجربة تمر، على الأقل، بوسيلتين متتابعتين. تسعى تجربة ال«سفر»، أولا وقبل كل شيء، إلى «جمع تجارب متنوعة» في «كتاب العالم الأكبر» وهي تشغل «ما تبقى من فترة شبابـ[ـه]»: فيها تسجل أول نسبية للتربية المبكرة، مما يساعد على «وضع يد ذاتـ[ـه] نفسها» على ال«علم»، وممارسة ال«تأمل» في محيطه الطبيعي، وكذا «التفكير المنطقي» و«تعلم التمييز بين الصحيح والخطأ، من أجل الرؤية الواضحة في أفعالـ[ـه]، والسير بثبات في هذه الحياة»([vi]). هذه المرحلة الثانية من التربية باعتماد التجريب، التي تعقب تلك التي تتم عن طريق المدرسين، تجعل اليقينيات المجمعة خلال السنوات الأولى على محك الواقع، تشرع في تنظيم الفكر وتجعله قادرا على التخلص من الأخطاء([vii]). ويأتي في الأخير، بعد هذه «السنوات القليلة»، «يوم» موسوم ب«قرار الدراسة بالاعتماد على نفسـ[ـه]» والشروع في تغيير «قوى عقلـ[ـه]»، المتمثل صراحة في «اختيار طرق» ال«اتباع»، وعرض المنهج لتوجيه أفكاره وحياته([viii]).

هناك ثلاث مراحل تتخلل الفترة السابقة عن سن الرجولة: الطفولة، أو زمن غرس المبادئ والتقاليد؛ الشباب، أو فترة تواجه الآراء لسابقة مع العالم ومرونة العقل؛ عتبة سن الرشد، التي تتطلب قطيعة. لكن الأساسي أيضا هو عدم إمكانية تربية الأطفال دون فرض معتقدات عليهم، ما دام ضعفهم الفطري يعني ضمنيا (ربما دون إضفاء الشرعية عليه) ضرورة قيادتهم. زمن الطفولة هو زمن كائنٍ خاضع، لكنه قادر على تحرير نفسه: فالتربية الأولية تفرض الغرس، وهي قادرة من دون شك على أن تؤدي إلى تربية ثانية، تنفي الأولى، تنقلب من علاقة خضوع أصيلة بالذات إلى علاقة التمكُّن.


اقرأ أيضا: البيداغوجية وعلوم التربية: علاقة صعبة (ج1)

زمن المعتقدات، والتجريب والعجز

هذه القطيعة، التي تشغل بداية الجزء الثاني من خطاب المنهج، كان سببها اعتبار أنه: «عادة ما لا يكون هناك الكثير من الاتقان في الإنجازات المكوَّنة من عدد من الأجزاء، والتي خدمتها أيادي مدرسين مختلفين، مقارنة بذلك التي عمل عليه واحد فقط»([ix]) –وهو مبدأ موضح في حد ذاته بأربعة أمثلة. هذا هو الحال مع ال«مباني»، إن كانت مبنية من طرف «مهندس واحد» أو من طرف «مهندسين كثيرين»؛ ال«تجمعات»، إما أنها توسعت بشكل تدريجي وأصبحت «مع تتالي الأيام، مدنا كبيرة» أو أنها أسست على أرض مفتوحة؛ المؤسسات والقوانين، إما كانت ناتجة عن تعديلات عديدة أو تم وضعها على حالها منذ البداية من طرف «مشرح حكيم»، كما هو الحال بالنسبة للديانة المسيحية أو أسبارطة؛ وأخيرا بالنسبة للمعرفة، بحسب إن كنا نفهم من ذلك «علوم الكتب» والاعتقادات «التي أُلفت وتم تضخيمها شيئا فشيئا من آراء العديد من الأشخاص»، أي من النظم الفكرية التي اكتسبتها الأجيال السابقة والمنقولة بواسطة التربية، أو، على عكس ذلك، «التأملات الاستدلالية البسيطة التي يمكن بطبيعة الحال أن يقوم بها إنسان ذو حس سليم تتعلق بأمور تُطرح عليه»([x]). إذا أردنا الاختيار بين تعلُّمات العديد من المدرسين وتعاليم العقل الواحد مستخدم على الوجه الأحسن، أو إن شئنا بين التربية والعقل، يبدو الاختيار واضحا: فالأولى، مهما كانت متقدمة، ليست بالتأكيد ذات أهمية كبرى مقارنة بالثانية.

ضمن البحث عن الحقيقة، تم إيجاد القطيعة ذاتها في الجواب الذي قدمه إيودوكسوس إلى إبستيمون، الذي «يشبِّه خيال الأطفال بطاولة الانتظار، حيث يجب وضع أفكارنا، التي هي تشبه الصور المأخوذة من كل شيء بعد طبيعي»، صنعتها «حواس»، و«ميل»، و«معلمون مهذبون précepteurs» و«فهم»، [...] مختلف الرسامين، القادرين على العمل في هذه التحفة» والمربين المتعاقبين للروح والأكثر كمالا: ولكن، كما يقول، هذا يعني نسيان مرحلة تشير إلى «عصر المعرفة»، وهي اللحظة التي يكون فيها هذا «الرسام في أحسن فتراته لبدء هذه اللوحة من جديد»، أي اتخاذ القرار «النهائي لينزع عن تخيله كل الأفكار غير الصائبة التي رُسمت إلى ذلك الحين، وإعادة الكل لتشكيل أخريات واستخدام كل التقنية بحسب فهمه»([xi]). يكتب ديكارت أن كل واحد، وقد «دخل العالمَ جاهلا، وأن معارفه في أولى سنواته لم تكن مستندة إلا على الحواس الضعيفة وسلطة المدرس المهذِّب، قد كان من الصعب على خياله أن يكون ممتلئا بعدد لا نهائي من الأفكار الخاطئة، قبل أن يقوم العقل بإدارتها»([xii]).

أن يولد، ويكون الإنسان طفلا، فذاك يعني ألّا يحيا منذ الوهلة الأولى بتوجيه من عقله: يعني أنه «[كان] منذ فترة طويلة تحكم[ـه] شهوات[ـه] ومربي[ـه]، اللذين كانا في كثير من الأحيان  متضاديْن بينهما، واللذين، لا هذا ولا تلك، لم يهذيانا السبيل الأفضل»([xiii]). فالرغبات الطفولية وسلطة المربين، الأولى داخلية والثانية خارجية، يمثلان السلطة التي يخضع لها كل واحد في البداية. أن يكون ال«حس السليم» في الطبيعة الإنسانية «الأمر الأحسن تشاركا بين الناس»([xiv])، أن يولد كل واحد منزوع «السلطة على الحكم السديد، وتمييز الحق من الباطل»([xv])،فهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذه السلطة ستكون مسيطرة منذ البداية. زمن الطفولة هو زمن عدم قدرة الذات على اكتساب وضعية التحكم ضمن علاقتها مع الذات. ولأن الأحاسيس، والخيال والرغبات وكذلك المعتقدات والقوانين المفروضة من طرف الراشدين تثقل كاهل الكائن الطفولي، فمن الضروري أن تعْقُب تربيةً ثانية التربية الأولى، لا لتكوين العقل، ولكن لجعل الذات قادرة على استعماله، أي لإدارة الذات: «يكاد يكون من غير الممكن أن تكون أحكامنا خالصة، ولا قوية كما وجب أن تكون، إنْ نحن استخدمنا عقلنا منذ ولادتنا، ولم يتم توجيهنا إلا به»([xvi]).

يمكن إذن لتاريخ الفرد أن يأخذ دلالتين وتوجهين مختلفين تماما، بحسب إنْ كان ينحصر في التربية المعتادة للطفل، التي من شروطها تلقِّي أراء ومبادئ غير متحكم فيها ومقبولة بشكل سلبي، أو تستخدم ضمن تربيةٍ تنمِّي «استعمال» العقل، أي الزيادة من سلطة «توجيه» الواحد لأفكاره. ضمِّن تعليقك على المادة وترجمتها في الخانة المخصصة لذلك أسفله


 رابط الجزء الثالث من هنا



 المرجع
Le Télémaque 2019/1 (N° 55) 55), pages 41 à 53
Éditions Presses universitaires de Caen

الهوامش

[i]  - انظر Discours de la méthode, AT VI, p. 1, li. 2.  

[ii] - Ibid., p. 4, li. 7-10.  

[iii] - Ibid., li. 14-20.  

[iv] - Ibid., p. 4, li. 21-p. 9, li. 16.  

[v] - Ibid., p. 9, li. 17-19؛ التشديد مني.

[vi] - Ibid., p. 9, li. 20-p. 10, li. 11. 

[vii] - Voir ibid., p. 10, li. 21-26.  

[viii] - Ibid., li. 30-31.

[ix] - Discours de la méthode, AT VI, p. 11, li. 14-17.  

[x] - Ibid., p. 11, li. 17-p. 13, li. 1؛ التشديد منا.  

[xi] - Descartes, La Recherche de la vérité, AT X, p. 507, li. 2-9 et p. 508, li. 14-24، التشديد مني.

[xii] - Ibid., p. 496, li. 1-5؛ التشديد مني.  

[xiii] - Descartes, Discours de la méthode, AT VI, p. 13, li. 3-8.  

[xiv] - Ibid., p. 1, li. 17-18.  

[xv] --Ibid., p. 2, li. 5-6.  

[xvi] - Ibid., p. 13, li. 8-12؛ التشديد مني  


نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-