بقلم: إريك دوبروك
الجزء الأول من هذا المقال عبر الرابط: جينيولوجية السلطة والمؤسسة
التعليمية: المراقبة والمعاقبة الجزء I))
في أوجه قصور التصور الفوكوي
ذلك، وإن المؤسسة
المدرسية تُقدم، في المراقبة والمعاقبة، على أنها جزء من هذه الإجراء التأديبي
للتقويم والتكوين الشائع في كل أنحاء المجتمع الحديث. بهذا يصبح الجهاز التعليمي
مماثلا أو «مشاكلا isomorphe» لسلطة
سجنية جديدة للمراقبة. صحيح أنه كان من الممكن أن تتبع السلطة القديمة في
التسبب في المعاناة سلطة أكثر ليونة، لكنها كانت ستخضع، في قلب الذوات الموضوعة في
حالة المراقبة والقهر الذاتيين، نفسَ منطق سلطتها- المنطق الذي تشارك فيه وتتآمر
به جميع المؤسسات، بما في ذلك المدرسة. هكذا يفتح الكتاب على رسوم سجونٍ وجيوش
توضح الأطروحة، صادمة في نفس الوقت مخيلة القراء. ليس من المستغرب أن تعمل هذه
مؤسسات، وكذا المعمل الذي سيذكر لاحقا، على إثبات دورها القمعي وأن تنعت بكونها
أماكن للضبط. صور المستشفيات هي أكثر إثارة للدهشة ([1])، وصور
المدرسة أكثر بكثير، خاصة إن فحصنا التقارب المصطرد الذي يقره المراقبة
والمعاقبة بين جميع المؤسسات. علاقة التوازي بين المؤسسات السجنية، والعسكرية،
والمعملية، والاستشفائية والمدرسية هي عملية رئيسية عليها أن تكشف عن أوجه التقارب
وأوجه التشابه والتقابل. إذا التزمنا ببعض هذه الرسوم، سنجد ثلثها تقريبا يمس
المؤسسة المدرسية والتربوية: نموذج يمثل الكتابة (رقم 8)، كوليج نافار في سنة 1760
(رقم 9)، تصميم مدرسة بالتبادل école mutuelle بداية القرن 19 (رقم 10 و11)، مخيم ميميتراي (رقم 27)، صورة للأب
فويتار (رقم 29) وصورتان توضيحيتان لعقاب جسدي (رقم 1 و30). تبيان آثار التحكم التربوي
على الجسد والذي يجعل منه نموذجا للمراقبة والقهر، قد تبين أنه اتسم بالتحيز
الشديد.
رابط مقالنا: العلمانية قيمة غير كونية ولا مطلقة
يصف التحليلُ السلطةَ المدرسية باعتبارها مؤسسة تنميطية،
على قاعدة وصف مدارس الساليزيانية salésiennes وأراء ديميا
Démia
([2]) أو مؤلفين
تعرضوا لانتقادات شديدة مع بداية القرن التاسع عشر. في المقابل وفّر هذا التحليل
فحص النصوص والممارسات التي رسخت فعلا في المدرسة ما أسميته في موضع آخر ب «ثقافة
اللطف»([3]). من ناحية
أخرى، يولي فوكو أهمية كبرى لبعض المفاهيم، كمفهوم المدرسة بالتبادل [التعليم فيها
يتم بتقاسم الأقران المعرفة بينهم (المترجم)] ([4])، أو، لوصف
ال«أجساد الطيعة»([5])، لمدارس الإرساليات
الساليزية وكتابات شارل ديميا. وقد تم استحضار هذه الأمثلة لوحدها استجابة لنية
تحليل «أمثلة من المؤسسات العسكرية، والطبية، والتعليمية والصناعية» ([6]) ولتحديد
خصائص المؤسسة التعليمية التي أنشئت في القرن التاسع عشر، رغم أن هذه الأمثلة لا
تتعلق إلا ببعض المظاهر الموروثة عن الوضعية السابقة لمؤسسة تعليمية في طريق
التغيير. وبالمثل، فإن التيمة الجوهرية تضع كل من مدرسة الإرساليات الساليزية لسنة
1760 والمدرسة المتضامنة لسنة 1812 جنبا إلى جنب، وكلتاهما يشبهان بانوبتيكون
panopticon بنثام Bentham. لكن إن وجدنا حقا في المجلة التربوية، سواء لدى
السيمونيين ([7]) أو الفورِيِريين
Fouriéristes، نماذج
معمارية من هذا النوع، فلقد كانت المدرسة الساليزية موضوع انتقادات متزايدة وأحكام
سلبية ابتداءً من هذه الفترة. أما فيما يخص المدرسة بالتبادل، فإننا نعلم أنها، بعد أن عرفت
فترة إشعاع قوية بداية القرن التاسع عشر، قد تم رفضها كلية، والإقبال على نموذج
آخر ([8]). المذاهب
والنماذج التي تم اقتراحها هي نفسها التي اُنتقدت في القرن 19 وتمت المطالبة بإزالتها.
يمكن للمرء أن يضيف إلى قائمة أوجه قصور
المؤسسة التعليمية فيما بين سطور التاريخ القديم، أن النقد
الموجه للتعليم العسكري، والانتقاص من التربية إلى حدود حصرها في توصيفات «الدليل»،
الذي يجعل التلميذ سلبيا، كان قد أصبح بالفعل سنة 1875 مجالا مشاعا، لم
يتردد جيل فيري نفسه في استخدامه ([9])! بل، إضافة
إلى ذلك، إن التحليل الفوكوي لمراقبة
الجسد يتجاهل كلية نموذج دور روض الأطفال، ومعها غرف العزل ثم دور الحضانة، والتي عرفت
حينها نجاحا متزايدا: إذ بقدر ما شارك هذا النموذج في كثير من النواحي في الاعتراف
بوجود عفوية طفولية، فإنه، على أقل تقدير، من الغريب أن يتم السكوت عنه. أخيرا، وبشكل
مماثل، فنموذج الكتابة المقدم كمثال يحتذى به من شأنه أن يسلط الضوء، من دون شك،
على شكل من الأشكال التنميط حقيقي من جميع جوانبه، لكنه يؤدي أيضا إلى نسيان التعليمات
والنقاشات الدائرة حول القراءة ومناهج الكتابة والقراءة وظهور مفهوم النشاط ضمنها،
الذي رأى النور بدءا من المنتصف الثاني من القرن 19([10]).
رابط المقال: قيمة المدرسة: العلمانية
العرض
المقترح في المراقبة والمعاقبة عن مجتمع بورجوازي يقدم بنفسه كمجتمع واع و
ذي تصور ليبيرالي في الوقت الذي كان بإمكانه أن ينمي مؤسسات تتجاوز الاكراه العنيف
التقليدي إلى إلزامٍ تأديبي من نوع جديد، هو عرض سيبدو بذلك، على الأقل فيما يتعلق
بالمدرسة، تبسيطيا بشكل مبالغ فيه. فخطاب م. فوكو يدخل في إطار الدعوة إلى تحرير الإنسان
بدءا بتحرير الطفل، رغم أن هذه العملية تولد في الواقع في المرحلة التي يدرس فيها
وبالضبط في الوقت الذي تبدأ فيه المؤسسة المدرسية بالقيام بواجبها ([11]). يبدو أن
هناك ضرورة لوجود رؤية أكثر دقة للإشكالية التربوية الحديثة غير تلك التي تطفو هنا
وهناك في المراقبة والمعاقبة، والتي، لإبراز منطقها الخاص، ستفصل تحليلها
عن تحليل مؤسسة السجن. الظهور بمظهر الذاتية المستقلة كنتيجة طبيعية لسلطة تأديبية
مجهولة –حيث أن سلطة ما إنما تنطبق على الأجساد التي لا تمايز بينها وتغرس في
أعماق دواخل الأفراد أشكال مجتمع معيَّر [يسوده التطبيع] -، هي محاولة لاستنتاج أن
الحرية والاستقلال الذاتيين ليسا سوى أوهام وأقنعة للسلطة. المؤسسات المقدمة كأمثلة
للحداثة –السجن، الدير، المعمل، المستشفى، المدرسة، الجيش- توضع الواحدة إلى جانب
الأخرى، باعتبارها تعبيرات عديدة لسلطة قمعية حديثة، وفي نفس الوقت، لكن بشكل أكثر
تكثما، أماكن لإنتاج الذات المستقلة الحديثة. لهذا ليس من الخطأ القول إن م. فوكو
قد استوعب، في سنوات سبعينات القرن العشرين، شخصية الفرد المستقل كقناع لذات خاضعة
ومقموعة.
الجمعة القادم الجزء الثالث من المقال
Dubreucq Éric, « Philosophie de
l'éducation et philosophie du sujet. Pour une enquête philosophique sur la
figure modernede la subjectivité dans l'expérience éducative moderne », Le
Télémaque, 2006/2 (n° 30), p. 77-106. DOI : 10.3917/tele.030.0077. URL : https://www.cairn.info/revue-le-telemaque-2006-2-page-77.htm
هوامش
[1] - هنا
أيضا لا يزال من الممكن استيعاب هذا الأمر، بقدر ما شكلت بدايات التعقيم ثورة طبية
في نهاية القرن التاسع عشر (المعروفة جيدا لدى م. فوكو والتي وصفها هو نفسه في ميلاد
رؤية اكلينيكية [باريس، المنشورات الجامعية الفرنسية، 1963])، والخوف من
انتقال العدوى، حيث لا نزال نشعر بوطأته خلال تلك الفترة من القرن 19 التي عم فيها
وباء الطاعون، وكوليرا عام 1830، التي تديم أشكالا قديمة جدا من عزل و تفريد
المرضى باعتبارهم يشكلون خطرا.
[2] - Voir M. Foucault, Surveiller et Punir, p. 186
[3] - .Voir É. Dubreucq, Une éducation républicaine,
Paris, Vrin, 2004, p. 94 sq. إذا كان إقامة نظام للمراقبة التأديبية موجودا بالفعل
بالمدارس، وأنه لم يكن يأخذ بالضرورة شكلا «ساليزيا»، فإن تليين و حظر الأعمال
الوحشية، و التعزيز التدريجي للحرية الفكرية ليستا أقل واقعية.
[4] - Voir M. Foucault, Surveiller et Punir, p. 169
[5] - Ibid., p. 143-169
[6] - Ibid., p. 143, n.
2 (ويضيف الهامش «كان من
الممكن أن تؤخذ أمثلة أخرى من الاستعمار، والرق، ورعاية الطفولة المبكرة»)
[7] - Voir A. Picon, Les Saint-Simoniens, Paris,
Belin, 2002, Deuxième partie
[8] - Voir la mise au point de F. Jacquet-Francillon dans Naissance
de l’école du peuple. 1815-1870, Paris, Éditions de l’Atelier, 1995, p.
67-70 et passim
[9] - إن المعلم الذي يستند كلية إلى المقرر (أي المؤلف الذي
بدأه كيزو Guizot) «يبدو كمعلم في مرتبة أقل بكثير من مدرب ضباط الصف، إذ كما يملك ضابط
الصف الجانب النظري، يملك المعلم المقرر» (J. Ferry, Discours du 2
avril 1880 au Congrès pédagogique réunissant les directeurs et directrices
d’Écoles Normales et les Inspecteurs primaires, in O. Rudelle, Jules
Ferry. La République des citoyens, Paris, Imprimerie nationale, 1996, t. I,
p. 436- 437). Voir M. Bréal, Quelques mots sur l’instruction publique en
France, 2e éd., Paris, Hachette, 1872, e.g. p. 137-138
: لم يعد مقبولا من المعلم « أن يكون لآلة تسكب على التلاميذ ما ملأهم به».
[10] - كما يشهد على ذلك بعض مقالات ميشيل برِيال المحررة
لل: Dictionnaire
de pédagogie et d’instruction primaire (Paris,
Hachette, 1887) dirigé par F. Buisson (voir e.g. « Langue maternelle »,
t. II, p. 1120 sq.).
[11] - Voir A. Renaut, La Libération des enfants. Contribution philosophique à une histoire de l’enfance, Paris, Calmann-Lévy – Bayard, 2002.