إريك دوبروك
رابط الجزء الثاني من هنا
مسار الوجود وقياسه
لذلك
إن التربية الأولى، أقصد زمن الطفولة والشباب، تشكل، بالضرورة، الفترة الغامضة
لغياب تحكمٍ في الذات وبحثٍ عن السلوك الذاتي. تحقيق الاستخدام الصائب للذات وللعقل،
بعيدا عن كونه تلقائيا، أمر يتطلب نكران تلك الذات: فحتى إن أدى ذلك إلى المعرفة الأكثر
سعة من شخص «اطلع على كل الكتب» و«وقام بدراسة كل ما يُدرس في المدارس بكل دقة»،
فإنه لن يخلق بها سوى «نوع مختل»، لا «رجلا شريفا»، بل عادةَ تنظيم فكره وأفعاله
بحسب قوى خارجية عن حكمه الشخصي([i]).
ولذلك تنقسم الحياة إلى فترتين كبيرتين متعارضتين، الطفولة والشباب أو زمن
الاعتقاد والتجريب، وسن الرشد الذي لا ينبغي أن يقتصر على الدراسة، ما دام «مسار»
الوجود «يجب أن يقاس بشكل جيد» وأن يتم العمل بحرص على «كثرة استعمال الزمن في ممارسة
الحروف»، وأن «هناك أشياء كثيرة لابد من القيام بها خلال الحياة»، وأن تتم ممارسة
الخير على الخصوص([ii]). أعمار
الحياة تتكشّف من خلال استعمال الزمن واستخدام الذات.
إقرأ أيضا: ترابط الوسط الأسري بالنجاح المدرسي
سن الشك
لابد
إذن من القطع مع تربية المدارس والعالم لنصير قادرين على حكم أفكارنا وأفعالنا
بذاتنا –عودة يتم التعبير عنها بوضوح، على المستوى المعرفي gnoséologique في صفحات البداية من تأملات ميتافيزيقية المعروفة جيدا،
حيث يقول ديكارت (بضمير المتكلم) بأن من يرغب «في إقامة أمر ثابت وقار في العلوم»،
لكونه «أدرك، منذ سنواته الأولى، أنه تلقى العديد من الآراء الخاطئة على أنها
صحيحة، وأن ما أسسه منذ ذلك الوقت على مبادئ غير مؤكدة تماما، لم تكن في الحقيقة سوى
أمور مشكوك فيها وغير يقينية بشكل كبير»، قد كان عليه «في حياته أن يتخذ دفعة
واحدة بجدية قرار التخلص من كل الآراء التي تلقاها إلى ذلك الحين كطلب من طلباته»([iii]).
لحظة الشك الجذري تشكل لحظة الدخول إلى سن الرشد: إنها تتمثل في قلب وتدمير من
الأعلى إلى الأسفل([iv]) لكل ما
قدمته التربية والخبرة، وتدشن –على الأقل على مستوى الحقيقة والمعرفة- عودة الذات
لاستعمال قدراتها الخاصة في مواجهة القوى الخارجية التي تتحكم فيها. ذلك أنه يقف
ضد «كل ما» نـ«تلقاه إلى حدود اللحظة باعتباره الأكثر صدقا والأكثر تأكيدا» والذي «تعلمناه
بالحواس، أو من خلال الحواس»([v])
في مواجهة كل ما رأيناه وسمعناه من ال«أباء» وال«مدرسين»([vi]).
الطفولة والشباب، باعتبارهما مرحلتان، إن جاز القول، للتعلم السمعي البصري البحت،
هما على الدوم تاريخ كائن خاضع للحواس وللشهوات، للأهواء وللمشاعر وكذلك للإدراك
واستهاماته ولمن يرسخون في ذهنه الآراء والمعتقدات.
سن
الطفولة والشباب لا يقود إذن بشكل تلقائي وطبيعي إلى سن نضج الفكر القادر على
التحكم في نهجه والوقوف أمام عدم الانجراف وراء الآراء المودعة فيهما شيئا فشيئا.
لحظة الشك تتمثل في تحول وتغيير في الاتجاه، وهذا ما يميز الاختلاف بين الفترتين
الكبيرتين من الحياة. كما يجب أيضا، من جهة، إدراك ما يشغل العقل من معتقدات
مكتسبة منذ زمن طويل حتى وإن كانت غير قائمة على أسس صحيحة، ولم يتم، من جهة أخرى،
الاعتراف بعدم الرضا بها. هذه المرحلة السلبية البحتة، المتمثلة في تخليص الذات من
الأفكار التي تسبق حكمها وتحدده، تجعلها فيما بعد قادرة على البحث عن الحقيقة.
إنها تتجسد بذلك في ظهور قوةٍ خاصة للتفكير، إبان تلك اللحظة.
اقرأ أيضا: البيداغوجية وعلوم التربية: علاقة صعبة (ج1)
لحظة التفكير
من
اللائق، في نهاية المطاف، عدم إساءة تفسير هذه اللحظة أو المبالغة في تقديرها. ذلك
أنها تفترض، من جهة، جهدا لا يمكن القيام به باستمرار وأن «قطار [الـ]حياة العادية»
ينتكس «بشكل غير محسوس»([vii]).
ويفرض عبء العادة الذي يثقل كاهل «الآراء القديمة»، في نفس الوقت، الرهانَ على «طول
تأمل[ـه]» لمواجهته، و «توقفـ[ـه] بعض الوقت» بين كل فترة وفترة ل«يطبع [به] عميقا
بذاكرتـ[ـه]»([viii])
النتائج. لا أحد يمكنه لحفاظ على هذا الجهد إلى الأبد: لهذا تقسيم التأملات
إلى ستة أيام([ix]). وربما
هذا يفسِّر أن صحة القول: «أنا أفكر، أنا موجود» ترتبط، في التأمل الثاني،
بفعل الحكم الذي يصوغه([x]):
لا لكونه أنه لن يكون حقا إلا في اللحظة التي يستوعبه العقل فيها، وإنما لأن هذه
الحقيقة لا تظهر له إلا حين يدركها، وهو ما يتم في فترة وجيزة([xi]).
إن مدة الطفولة واستمرار التبعية تتعارض مع لحظية الفعل الذاتي الذي يتم إصلاحه أو
تغييره([xii]).
الجهد المتحقق إبان الشك، أثناء تحييد كل الآراء، لا يدوم إلا لحظة، حين يقوم به
الفرد ويكون عليه بالتالي الاحتفاظ بآثاره في ذاكرته([xiii]).
يعقب ثبات المعتقدات، الذي يميز مرحلة الطفولة والشباب، قطيعة إصدار الحكم، ثم
مرحلة الرشد، التي يمكنه خلالها، كلما كان ضروريا، تذكر نتائج هذه اللحظة الحاسمة.
[i] - Descartes, La
Recherche de la vérité, AT X, p. 495, li. 9-11.
[ii] - Ibid., li. 3-15؛ التشديد مني.
[iii] - Descartes, Méditations,
AT IX, p. 13, li. 9-10؛ التشديد مني.
[iv] - Descartes, Meditationes,
AT VII, p. 17, li. 4-5؛ التشديد
مني: « ac
proinde funditus omnia semel in vita esse evertenda ».
[v] - Descartes, Méditations,
AT IX, p. 14, li. 13-14، التشديد
مني، (cf. Meditationes,
AT VII, p. 18, li. 15-16).
[vi] - Voir
Descartes, Entretien avec Burman, Paris, Boivin & Cie, s. d. [1937], p. 3.
[vii] - Descartes, Méditations,
AT IX, p. 18, li. 12-23.
[viii] - Ibid., p. 26, li. 35-39. Cf. AT IX, p. 72, li. 5-10 et AT VII, p. 90,
li. 12-16، التشديد مني. «لأن ضرورة الأشياء توجب علينا في الغالب اتخاذ القرار، قبل
[ليس دائما ضروري non semper
tam] أن يكون لدينا وقت الفراغ لفحصها بدقة، علينا الاعتراف أن
الحياة الإنسانية [humanam
vitam] هي في الغالب معرضة للفشل [sæpe] في المسائل لخاصة؛ ويجب في الأخير الاعتراف بضعف طبيعتنا وعجزها».
[ix] - أنظر
ibid., p. 18, li. 27، «التأمل الذي قمت به البارحة...»؛ p. 42, li. 9-10، التشديد مني: «لقد اعتدت تماما في هذه
الأيام الماضية على فصل عقلي عن حواسي...»؛ والصفحة 50, li. 4، أشدد: «لم أتعلم اليوم فقط...».
[x] - Ibid., p. 19, li. 35-38 (cf. AT VII, p. 25, li. 10-13)، «بعد أن فكرت جيدا في الأمر، وفحصته بعناية كل الأمور،
لابد من الاستنتاج في النهاية، ونثبت أن هذا الافتراض أنا أوجد، أنا موجود
افتراض بالضرورة حقيقية في كل مرة أنطق بها، أو أدركها عقليا»
[xi] - Ibid., p. 21, li. 17-22 (cf. AT VI, p. 27, li. 7-12)؛ التشديد مني: «آخر[صفة الروح] أن تفكر؛ وأرى هنا أن
التفكير هي صفة تهمني: هي وحدها لا يمكن أن تنفصل عني. أنا أُوجد، أنا موجود،
هذا أمر يقيني؛ لكن إلى متى؟ Quandium autem ?]] علما أنه ما دمت
أفكر Quandium autem]]؛ لأنه من الممكن أن يحدث، حين أكف عن التفكير، أن أكف في نفس
الوقت عن الوجود»
[xii] - الخطاطة،
التي سنجدها عند مالبرانش، هي خطاطة عمل فكري على الذات (É. Dubreucq, « Méditation et pratique de soi chez Malebranche », Methodos,
n° 2, janvier 2002)، والذي يأخذ، مع ديكارت، شكلا أعمق.
[xiii] - خطاب المنهج يتضمن، في شكل آخر، نفس التمييز: يقول ديكارت: «وأنا أرغب في التفكير بهذه الطريقة، أن كل شيء زائف، كان لابد بالضرورة أني أنا، الذي أفكر فيه، أقوم بشيء ما»، لكن، ولأني لم أستطيع، «الاحتراز» منه إلا «بعد ذلك مباشرة»، يقينية «هذه الحقيقة: أفكر، إذن أنا موجود» ولد أُقيمت بشكل «مؤكد ومضمون»، «يمكنني إدراكه، جون أي تردد، كمبدأ فلسفي أول، الذي أبحث عنه» (AT VI, p. 32, li. 15-23؛ التشديد مني)
[xiv] - سيكون من الضروري هنا بدء دراسة La Logique ou l’art de penser d’Arnauld et Nicole en 1662 (Paris, Jean Guignart, Charles Savreux
et Jean de Launay).