تنويه: يرجى من القارئ أن يترك ملاحظته، المرحب بها، أسفل المقال بالمستطيل الخاص
بالتعليقات |
«إني أسمع من كل مكان صوتاً ينادي لا تفكر.. رجل الدين يقول
لا تفكر بل آمن ورجل الاقتصاد يقول لا تفكر بل ادفع ورجل السياسة يقول لا تفكر بل نفذ..
ولكن فكر بنفسك وقف على قدميك إني لا أعلمك فلسفة الفلاسفة ولكني أعلمك كيف تتفلسف.
» كانط
*****
تقيم قولة كانط تمييزا بين الفيلسوف ومن هم دون ذلك. وأما
الأول فهو من بين فئة إن قيست بسكان العالم في الزمان والمكان والامتداد فإنها لن تبلغ
حجم ذرة نقطة من مياه البحار أو تزيد قليلا باحتساب المهتمين والمريدين والطامحين
إلى الانتماء، وأما الباقون فهم من فئة لا تعد ولا تحصى بالعين المجردة. [حتى وإن
كان الاعتبار ليس بالكم وإنما بالكيف كما قد يقال]. الفئة الأولى نخبة بأطيافها، والثانية
جمهور بسعته. ولعلها العلة في عدم سماع فئة واسعة عن الفلسفة أي شيء عدا، ربما،
الاسم، وحجة فئة أوسع في الإعراض عن معارفها. والكل من هؤلاء و أولئك، في الأصل، نوع
إنساني. وأَخص ما يميز النوع الإنساني عن باقي الكائنات كونه يفكر
لما كان الانسان متميزا عن سائر الحيوانات بخواص اختص
بها، فمنها العلوم والصنائع التي هي نتيجة الفكر الذي تميز به عن الحيوانات. (ابن
خلدون: المقدمة. ص: 62).
ذاك لأن (ال)أنا
أفكر (هو) (ال)أنا موجود.
*****
كان سقراط سيداً في قومه. كان له عبيد يقضون له كل حاجاته،
حتى أنه يفيض عنه الوقت ويشيط، فيطارده، بالتأكيد، الملل. لذا قد يكون –افتراضا- انتقى،
إسوة بنبلاء المدينة، هواية تناسب محصلاته المعرفية وما استقصى عنه من علوم عصره. ولربما
من كثرة استقصائه أجاد عادة تركيب السؤال وإقامة مؤملات إجابته. فطفق يلاحق السؤال
بالسؤال بحثا عن حكمة رصينة تعيد للوجود المتشتت وحدة جوهره، أو هكذا يكون قد تراءى
له. تساءل عنه أهل المدينة: من يكون؟ قال قائل: محب للحكمة.. والحكمة يتم توليدها
كما يُستخرج ماء الورد نقطة نقطة، عبر حوار طويل وشاق، حوار متأن. لكن السوق، ككل
سوق، تلتهب أسعارها بندرة سلعتها، وقيمة الحكمة في ندرتها بين أهلها عند التساؤل عن
الوجود والجمال و الأخلاق.
*****
يمكن
الاطلاع على المقالات التالية:
-
قراءة في عنوان
كتاب "الدرس الديني وعوائق بناء قيم التسامح"
-
هل لا تزال المدرسةقادرة على تكوين العقل؟
*****
الفلسفة أم العلوم. بالغصب وليس بالنسب. الأمومة ذروة
اللذة والألم قبل الميلاد. و لم تعانِ الفلسفة مغص ألم ولادة الرياضيات ولا الطب ولا
أي من العلوم الحقة أو غير الحقة، وإنما أوجدتها الحاجة لإحكام سيطرة الإنسان على
الطبيعة.
الأخلاق والجمال مجالان من أنشطة اليومي الإنساني. في علاقات
الحياة الإنسانية الداخل ذاتية ومع لآخر تتداول الفضائل والرذائل، القيم الإيجابية
والقيم السلبية، الخير والشر. وكأن بعض المعالم الجمالية سَرْمَدَتْ تلك القيم الأخلاقية
في نحوت وأشعار وسرديات... في الفنون الما بعد حداثية، وحتى في أغاني الهيب هوب،
لتغرسها في شخصية الإنسان.. والعلوم، كالأخلاق والجمال، لها وجود قبلي، سابق عن
وجود الفلسفة. كلما ألم بالبشر ما يهدده بالموت من سقم، وجّه فكره لإيجاد الدواء، ولم
ينغمس في فك طلاسم العلة والمعلول والوجود من حيث هو موجود. إن السماء هي علامات لما
هو تحت قدمي الإنسان من واقع حرون: الأرض وإمكانات الشق للزرع والغرس، الوديان لرسم
المجاري نحو الأخاديد لتكثير الغلات، البحار لرسم مسالك تأمين العواصف وتيسير الرحلات...
من أفواه الخبرة الجماهيرية، أحيانا المبتذلة، ترقى التجربة الإنسانية لتُصقل. قد تفيد
هذه التجربة في هذا الحقل الذي ليس هو لها ولا منها في الأصل. وحين يبدو القصور بديهيا،
يتجه الفكر منقبا لتجاوز العائق، قد تنتج عنه تجربة جديدة، ميدانا جديدا، علما مستحدثا.
حينما يتم تجاوز الأزمة، يحضر المابعد لاستكناه الممكن والواجب.. تجد الفلسفة، الأم
بالغصب، نفسها لاهثة وراء التأمل كي تنحت مصطلحا، تصيغ تصورا في بؤرة منهج تحاول
أن يكون الأخير، وما هو بذلك.
*****
لم تعد العلوم اليوم على حالها كما كانت زمن سقراط، ولا حتى
عند نهاية القرن 19. لقد تكاثرت وتناثرت تناثر النجوم في السماء. ولد بعضها من البعض
نتيجة توافقٍ أو نتيجة عقوق، حتى أنها أصابها الشتات، بل التشرذم. المرور من حقبة
العجلة الحاسمة في عصر النهضة، إلى تنزيل العالم الافتراضي الذي عدَّد التقانة
وعدّد معها الحاجة إلى وسائل المعالجة. لم تعد السماء موضوع افتراضات ذهنية تقاس
صرامتها بمدى تماسكها المنطقي. السماء في وضعية التقانة خرائط مفتوحة لكنها محكمة
بالسنوات الضوئية. الدهشة البينغبانغية.
لا، أصبح عصيا على
الفلسفة أن تدعي أمومتها لكل هذه الولادات الحادثة طوعا أو كرها. صدْمتها كبيرة
أمام عقوق البنوة بالغصب، جعلها في حالة نكوص رهيب. لم يعد بإمكانها اليوم، كما لم
يكن ممكنا أبدا، أن تنعم بالراهنية. ذلك يعني حضورها الآن وهنا بشكل فعال ومجدي. كيف
يمكنها اليوم أن تثبت حضورها أمام فاجعة مباغتة، وقد وقفت عاجزة أمام سؤال :الفلسفة زمن الجائحة؟
*****
السؤال الذي يجب طرحه، عوض العنوان المقترح، هو: هل كانت
هناك حاجة فعلية لظهور المعرفة الفلسفية؟ أن يكون المرء مفكرا، فهذا يعني أنه يقوم
بهذا النشاط في إطار ميدان يشتغل به لينتج فيه تصورا محددا عن موضوع محدد تتم معالجته
وفق منهجية محددة باستعمال مفاهيم تنتمي لذاك الميدان: الأدب، الفن، الفلك،
التقانة، الدين، علم النفس... ليس من الضرورة أن يكون المرء فيلسوفا كي يكون
مفكرا.. وكانط حين يقول: « إني لا أعلمك فلسفة الفلاسفة ولكني أعلمك كيف تتفلسف»، فهو،في
اعتقادي، يعني أن تعلم كيفية التفلسف يعني تعلم كيفية التفكير بشكل صائب. وهنا
تبدو المعرفة الفلسفية وكأنها، حسب التحليل النفسي، أُمّ ذات شخصية مسيطرة.
*****
ما العمل إذن؟ إننا أمام فعل فكري ربما لم تكن الحاجة
إليه ضرورية حين نشأ. لكنه ظهر، وكان له من الأقطاب والمريدين من حقنوه بنسغ
الحياة والاستمرارية ما نصب له هيكلا لا يملك أحد أن يخمد جدوته المتقدة في أعلى
هرمه. يجر وراءه تاريخا من المعرفة الإنسانية في ميادين فلسفية متشعبة ومتوالدة،
أحدتها فلسفة كورونا 19 !!! إنها بذلك تشكل جانبا من تاريخ الفكر الإنساني، قبس من نور يشع في
مجاهل البشرية، لكنه ليس بالنور في حد ذاته. صحيح أن الحديث عن الفلسفة بصيغة
المفرد قد يكون صعبا، ما دامت كل نظرية تُحسب لصاحبها. فالواقع أننا أمام فلسفات
لكل واحدة منها موضوعها ومنهجها وطروحاتها. والمعرفة الفلسفية في نهاية المطاف هي
المعرفة التي أختصرُ أهميتها، على ما يبدو لي، في تعلم كيفية التفلسف: إنتاج معرفة
فلسفية لا تعلم كيفية التفكير الصائب.