Philippe MEIRIEU
رابط الجزء الثالث من المقال من هنا
صدمات نفسية لا غنى عنها؟
أخيرا، ليس بالإمكان الإفلات من مسألة الصدمات النفسية لضرورة يفرضها المربي
على الطفل حتى يساعده على النمو: طقوس الانتقال الموسمي التي تتفاوت نسبة عنفها،
العقوبات المبررة بشكل كلي أو جزئي، حالات الهلع، المخاوف وحالات القلق التي
يفرضها الأكبر سنا بدرجات متفاوتة ويرون فيها فرصا ثمينة للتعلم على «تهذيب
النزوات»، للسيطرة على النفس وتجاوز المحن البسيطة تهيؤا لتلك، الأكثر صعوبة من
دون شك، القادمة فيما بعد. من هذا الناحية سيكون إيجابيا أن يرتعد الطفل، في الليل،
خائفا من الظلمة لعدم سماح والديه له بإشعال الضوء؛ سيكون مفيدا تهويل الامتحانات
والاختبارات بغية جعل الشباب يعيشون حالات إجهاد؛ سيكون مبررا تهديد اليافع
بعقوبات تتناسب والأخطاء المرتكبة لتسريع نمو خياله الملحمي والتمكين من زرع الثقة
في النفس عند اكتشاف أن المخاوف التي تمت تغذيتها لا تتحقق في الواقع. وللتوضيح
فإن الحضارات بأجمعها قد قامت أو هي تقوم بهذا الإجراء: ألم يُفرض على شباب الهنود
عبور الصحراء بجرعة ماء واحدة في أفواههم ويبصقونها عند وصولهم بغية «تقوية عزيمتهم»؟
هذا مؤكد، إلا أن هذا الاختبار قد أُعِد منذ فترة طويلة؛ دافع عن دلالته
مجتمعٌ بأكمله مدعيا طابعه القدسي؛ قد شكّل جزءا من الأساطيرِ الاجتماعية المستوعبة
تماما ومجموعةٍ متناغمة من الطقوس. الشاب الهندي كان متدربا على استحمالِه وكان
يرافقه عرّابه حتى اليوم المشؤوم. هو نفسه من طلب شرف التنافس أملا في أن يصبح
عضوا ضمن مجتمع الكبار. لقد كان جليا لديه ولدى الجميع أنه في نهاية السباق سيمكنه
تحقيق عدد من الامتيازات، كاختيار لقب واكتساب زوجة وتأسيس عائلة.
بيد أنه من الممكن مساءلة هذه «الطقوس الصادمة»
التي يدعي مجتمعنا فرضها على أطفاله من أجل مصلحتهم: إذ لعدم تواجدها ضمن
ميثولوجيا متماسكة واضحة، فإنها غالبا ما تظهر بحسب ما يقدّره الكبار، بل تكون في
بعض الأحيان تعبيرا عن نزواتهم. في أقصى حالات «المضايقات» التي يمارسها كبار
التلاميذ على الصغار، لا يعطي الخضوع لها أي حق في سلطة إخضاع الآخرين لها في السنوات
القادمة... فهو قبول محزن للطابع السادي كُليةً لهذه الممارسة. وحتى إن لم تكن
مهينة، فإن هذه التجارب في حد ذاتها لا تُكوﱢن، في الحقيقة، شخصيته. إنها لا تساعد
على النمو إلا حين تدخل في إطار بيئة مكوِّنة، وأن تأخذ موقعا في لحظة معينة من
تطور الشخصية وتكون موضوع استثمار شخصي مدعوم من قبل مجتمع يعطيها معنى. والـــ«بيئة المكونة»، التي سبق لنا الإشارة إليها، هي
تلك التي تضمن صراحة استمرار التجربة دون أن تتعرض سلامة وكينونة الفرد لأي
انتهاك: فبدون إطار يمنح مسار التجربة أمنا نفسيا وجسديا، لا يمكن للفرد أن يتحرك
إلا تحت الضغط وبذاك سيعمل على تجنب التجربة عندما يعتبر أنه من الضروري مواجهتها.
«اللحظة الحاسمة» للتدخل، هي التي يختارها ويحددها
الراشدون (مع هامش تقريبي لا مفر منه)، معتقدين أن الطفل أو المراهق، بسبب تجربته
التي راكمها من قبل وما نوفر له من موارد، يملك الوسائل لمواجهة تحدٍ يبقى مع ذلك
صعبا بالنسبة إليه، بل وقد يهدد نموه. ف«الاستثمار الشخصي» هو الإرادة التي تدعمها
الرغبة: الرغبة في أن يصبح شبيها ل«شخص راشد»، أن يتجاوز ذاته، أن يتخذ خطوة حاسمة
فيتم الاعتراف به بعد ذلك داخل المجموعة التي ينتمي إليها... ترى ما الأمر الذي لا
نمعن فيه النظر أكثر في الطريقة التي يتعلم بها الأطفال التكلم أو المشي! يمكن أن نرى
فيها كيف يضمن الكبار إفلاته من العقاب عند ارتكاب الخطأ أو الحد من المخاطر
الجسدية والنفسية؛ سنجدهم يحاولون استغلال الفرصة طمعا في تحقيق تقدم حاسم والاعتراف
بالجهد المبذول مقرين، في نفس الوقت، أنهم يتجردون من أصله وينسبون للآخر تصرفاتهم
الخاصة. إنهم، من خلال فعل الإحالة هذه المتحققة في سياق ملائم، يستدعون فردا
لجعله يبرز على أرض الواقع.
اقرأ أيضا
علوم التربية والبيداغوجيا
(الجزءI)
من أجل بيداغوجية مصاحبة لركوب المخاطر
لنعد، للختْم، إلى مثال جد متداول. يمكن أن يحدث هذا في أي إعدادية: خوسيه،
جيرار أو أحمد تلميذ يصل متأخرا كل صباح للمرة العاشرة على التوالي. ولأن المدرس
قد رفض دخوله للقسم، فقد توجه إلى مكتب أحد المشرفين التربويين الذي أبدى بعض
الانزعاج. انطلق الطفل في خطبة طويلة لتبرير موقفه: فهو الوحيد، بالمنزل، الذي
يستيقظ صباحا منذ أن أصبح والده عاطلا عن العمل؛ ثم عليه أن يشرف على ابنة أخيه
الصغيرة إلى وقت متأخر من الليل لأن عمتها، التي تحرس على تربيتها لوحدها، وجدت
عملا كمنظفة بأحد المكاتب في الجوار؛ لم يعد متحمسا للوصول في الوقت المحدد في حين
أن الأساتذة، أنفسهم، يسمحون لأنفسهم بالوصول إلى مقرات عملهم متأخرين بشكل منتظم؛
أما بالنسبة لدرس هذا الصباح، وهو درس الفيزياء، فهو بالتأكيد لا يفهم شيئا من هذه
المادة... علاوة على أن الأستاذ أخبره أنه قد راكم تأخرا كبيرا من الصعب تداركه.
في ظل هذه الظروف، بأي حق يمكن أن تفرض عليه عقوبة بسبب تأخره؟
لنعترف أن الصورة كاريكاتورية شيئا ما؛ لكن ما يهمنا هو أنها من الناحية الهيكلية ممكنة
وأنها، من هذا المنطلق، عادية تماما. إنها، أيضا، واقعية بشكل رهيب ولا يمكن
للراشد، في هذا الوضع، التملص منها. عليه أن يتصرف بسرعة وأن يتخذ، بطريقة أو
بأخرى، قرارا. وكيفما كان الفعل الذي سيقوم به -وحتى إن لم يفعل شيئا- سيكون ذلك
قرارا، ومن المرجح أن يكون له أثر ما، ليس فقط على التلميذ المعني، ولكن أيضا على
سلوك زملائه، وعلى وضعيات المدرسين و، بصفة عامة، على الحياة اليومية للمؤسسة. وضعيتان
ممكنتان في هذه الحالة: تلك المتمثلة في كونه أخذ قراره انطلاقا من مجموعة
المؤثرات الممارسة عليه وتلك التي تفترض حرية غير قابلة للاختزال تجاه هذه
المؤثرات وهو قادر على مقاومتها. فمن ناحية يمكننا أن نعذر التلميذ بالنظر لكلِّما
يمكن أن يعاني منه؛ ومن ناحية أخرى، يمكن اعتباره مسؤولا بافتراض أنه، على الرغم
من الظروف، يمكنه دوما أن يتحمل الضغوط ويقرر بحرية. بطريقة معينة يمكن اعتبار
الموقفين مقبولين: أولا لأن هذا التلميذ ليس، بالطبع، متساو مع زميله الذي تهيؤ له
والدته فطور الصباح في السابعة صباحا؛ وثانيا، لأنه، في حالة عدم افتراض قدرته
التصرف بحرية، سيخاطر بالوقوع في قدرية فجة. فإما أن نعذره ولا نقوم بمعاقبته حتى
لا نظلمه ولا نصدمه، وإما أن نحكم عليه بخوض تجربة يفترض فيها أن تقوي إرادته.
لكن إرادته لا يمكن أن تنبني بطريقة سحرية من خلال إنكار الحتميات
الاجتماعية وإنكار التاريخ الذي هو نفسه وارثه الشرعي. لا يمكن لإرادته أن تنشأ
إلا في بيئة ملائمة، في حالة ما إذا توفرت له فرصة مناسبة واقتُرِح عليه مشروع صعب
لكنه واقعي يهدف من ورائه الحصول على تقدير الكبار وتتم مساندته في تحقيق رغباته. يبقى
على المربي هنا أن يبتكر وضعيات تناسب هذا اليافع لكن دون السقوط في أدنى
ديماغوجية؛ على المربي تقديم المساعدة والدعم اللازمين كي يتطور ويرقى بنفسه، ليتمكن
من تحدي نفسه ويمكنه، في الأخير، تحمل مسؤولية أفعاله. سيُعهد إليه، حسب الحالة،
تعليمُ شخص أصغر منه سنا، أو مسؤولية تنشيط اجتماع بين زملائه في القسم وبين
أساتذته حول الطرق البيداغوجية لتدريس الفيزياء أو حول القانون الداخلي، أو
مسؤولية تحرير قراءة في كتاب عن الأسئلة التي يشعر أنها مقلقة وذلك لصالح مجلةٍ مدرسية،
إلى غير ذلك.
لا شيء سهل هنا. الكبار مجبرون على الحضور. إنه شرط، بل وحتى، شرط تربوي حقيقي لكونه في نفس الوقت مطلب تجاه الذات ومطلب تجاه الآخر. إنها طريقة لمساعدته على النمو دون أن نقوم، على أية حال، بإعداد الطريق له ، ودون حرمانه بتاتا من سعادة الاكتشاف أو رعشة الخوف.
رابط الجزء الأول من هذا المقال هل يمكن أن تكون هناك تربية دون صدمات؟