Philippe MEIRIEU
رابط الجزء الثاني من هذا المقال
وساطة الثقافة
وراء هذه الحماية المفروضة علينا تجاه الطفولة احتراما منا بتعهداتنا
الإنسانية، فإن مسؤولياتنا كمربين تفرض علينا أن نوفر للطفل الوسائل الضرورية
ليعيش ما يتحتم من صدمات نفسية التي ستصادفه خلال وضعيات متعددة في حياته الخاصة:
اكتشافٌ قاسٍ لخيانة صديق، فشلٌ شخصي مدرسي أو رياضي رغم المجهود المبذول خلال
الاستعداد، تجربةٌ عنيفة غير مرتقبة، معاناةٌ جسدية أو الموت، وغيره. هذه الأحداث
لا تقع، بطبيعة الحال، «في الوقت المناسب»، الوقت الذي نكون فيه مستعدين لتحليلها
أو التقليل من شأنها، وحين تذكرنا نعض مصالحنا أن الحياة تبقى غنية بشكل غير محدود
وحاملة لفرص السعادة المحتملة بشكل لانهائي. إن الصدمات النفسية تحدث، تحديدا،
حينما يغطي حدثا باقي الأحداث، ويسود الأفق فيبدو وكأنه يطمس المستقبل بشكل تام.
حينها يمكننا دوما أن نجعل الطفل ينسى ما وقع، مراهنين على الوقت والنسيان؛ لكن
باتخاذ هذه الطريقة لن نساهم بفعالية في بناء الشخصية، ولا بالتقزيم المستمر لما
وقع أو بترديد أنها «ليست المرة الأولى ولا الأخيرة التي
ستصادفنا وضعية من هذا القبيل وأن الآخرين قد خرجوا منها سالمين!». وهنا يبقى
التخاطب والتواصل هما الأجدر، لا يمكن الاستغناء عنهما وهما يتطلبان، في الغالب،
وساطة.
ليس من السهل التحدث عما وقع، خصوصا حين تكون الشحنة
الوجدانية قوية جدا و تتنكد العلاقات العاطفية في سياق الأزمة. لربما قد يكون هذا
مرغوبا فيه. المراهقون يعانون من هذا بالضبط، حيث تكون لديهم رغبة جامحة للحوار
مقترنة بخوف مهول من أن يقتحم أحد حميميتهم. لهذا السبب غالبا ما يكون مفيدا أن
نراوغ ونستعمل وسائط، لربط الاتصال، يمكنها أن تتمثل في الإبداعات الأدبية أو
السينمائية، والتظاهرات الثقافية المختلفة التي تنجح في نقل التعبير، بدرجة عالية
من الإتقان، عما يقلق الانسان ويغضبه ويسبب له المعاناةٍ مساهِمة في تدميره أو،
على العكس من ذلك، في بناء شخصيته. فعندما يتم التفكير في الحدث داخل إطار ثقافي
يقحم تاريخ الإنسانية فإنه يفقد وحشيته البدائية؛ إنه -الثقافي- يصير وسيلة
للاتصال بالآخرين وللمشاركة الإنسانية فتتم آنذاك مقاسمة الصعوبات وأيضا الآمال.
يسمح هذا بالكثر مما يسمح بالخروج من الانعزالية؛ ثمة إمكانية للحصول على نوع من
الطمأنينة التي تحل بشكل تدريجي في قلب المعاناة أو الانفعال... طمأنينةٌ لا تلغي
التمرد ولا حتى الحزن لكنها تسمح بترجي إمكانية التسامح، تعيد فتح الأفق شيئا
فشيئا وتسمح بالأمل في، لا النسيان، بل تجاوز و، ربما، عودة الثقة في النفس والقوة
الداخلية التي تجيد التلاؤم مع الدعة واستدخال صورة الانسان في أفضل أشكاله.
اقرأ أيضا
رهانات علوم التربية الإيبيستمولوجية
هذه، على الأقل، هي التجربة التي يمر منها عدد كبير من الآباء حين تعرف
العائلة موت عضو منها ويستعملون عند مقاربة هذا الحدث مع أطفالهم الصغار كتابا
ثمينا كغُرَير البئيس (المدرسة الترفيهية). نفس الشيء يمكن أن يعيشه المدرس
وهو يشرك تلامذته في التفكير في عنف صور إبادة مبثوثة عبر قنوات التلفاز، يتم
الاستخفاف بها لدرجة الخلط بينها وبين روايات الخيال العلمي أو، على العكس من ذلك،
نشر الجثث المشوهة بوحشية التي لا يمكن إلا أن تثير الاشمئزاز... قراءة وتحليل «النائم
في الوادي» لرامبو يمكن أن يُحوﱢل استراق النظر إلى تعاطف حقيقي، وتأمل في ظلم
وتفاهة الحرب التي قتلت مراهقا، رغم أن هذه القراءة متوافقة تماما مع جمالية
العالم. إنها حالة المدرس الذي يشتغل مع مراهقين يواجهون صعوبةً كبيرة، ضحايا
وجلادون في نفس الآن يعيشون في عالم هامشي يتحكم فيه قانون غابوي لا يرحم، ويعمل
على جعلهم يكتشفون نشأة الآلهة لهيسيود: «في المقابل، يولِّد التنافس
البغيض النسيان، المجاعة، المعاناة المصحوبة بالدموع، المشاجرات والحروب، القتل
والطعن، الخصومات، الأكاذيب، النقاشات، النزاعات، القوانين السيئة والكارثية
المتلازمة دوما...» في خضم هذه الفوضى لابد من تدخل زيوس ليقيم النظام كي يبزغ
عالم قابل للعيش فيه. لقد لبست الحكاية بالفعل معناها وكيَّفت اللاإنساني: تفصِّل،
وتسمي، وتحكي الذي وقع لتأخذ مكانا لها... هناك أيضا قصة أستاذ الثانوية المهنية،
الذي يواجه مأساةً يومية متمثلة في غياب الآباء والذين لضعفهم التام لا يقدرهم
الشباب تماما، فاقترح عليهم الأستاذ قراءة جماعية لقصة موباسون القصيرة، الابن:
حينها أمكن لكل واحد التحدث عن نفسه بوساطة نص جعله، في نفس الوقت، منخرطا
ومتخذا مسافة [حذرا]،. قد يحدث أن ينفلت الوضع وأن يتمادى تلميذ في استفزاز شخصه
أو في اعترافات خليعة؛ في هذه الحالة على المدرس التذكير بالنظام الذي يفرضه النص:
فمن خلاله، وكذا من خلال مواضيع أدبية أخرى، يشرع كلٌّ على حدة في النشاط الذي
يسمح بإثارةٍ استيهامية للأبوة: هنا نكون قريبين جدا من فرانكشتاين، وبيغماليون
وبينيكيوه أيضا. يتم استفسار الصدمات النفسية للفرد في حالاتها المتفردة العميقة
جدا إلى حين انكشافها في كونيتها: لا شيء هنا «يواسي»
بسخافة، ولا شيء يمحي آثار الجرح بأعجوبة، وإنما هناك وعي متدرج بإنسانية الإنسان.
وفي هذا يقول فرانسوا مورياك أن المربي هو الذي «يؤسس إنسانية الإنسان». هو يفعل
ذلك أيضا من خلال الطريقة التي يردد بها صدى الصدمات النفسية التي تصر على التواجد
فيما نحْكِه للطفل أو المراهق من قصص مرفقة بالأسئلة، وكذا في حالات القلق
والأساطير المؤسسة لهذه الإنسانية.
رابط الجزء الرابع من هذا المقال من هنا