أخر المقالات

الفلسفة النقدية وسياسة التعليم (فوكو، آلان، كانغوليم) (ج: ألانْ)

 



Thomas Bolmain

 

الجزء الثاني من هذا المقال على الرابط: الفلسفة النقدية وسياسة التعليم (فوكو، آلان، كانغوليم) (ج: فوكو)

 

قراءة غير مركزة كافية لفهم أن ملاحظات حول التربيةPropos sur l’éducation يجد مصدره في التساؤل، من قبل ألانْ، عن النشاط التعليمي: الإشارات إلى تجربته الواسعة. فالكتاب من حيث امكانيته ذاتها مرتبطٌ بعودة مشروطة إلى الذات. علاوة على ذلك، يمكن اعتبار هذه النظرية التربوية بحق في كثير من لحظاتها الموضعَ الذي تتوج فيه فلسفة ألانْ النقدية. لابد من التذكير بأن الفلسفة، بالنسبة إليه، هدفها النهائي «المذهب النقدي»([1]). ويستند النقد هنا إلى معرفة بالأشياء وأيضا بمعرفة الذات، بحيث أنه يؤدي إلى الممارسة الحرة للحكم، سواء على الأشياء (خاصة السلطة السياسية) وعلى الذات في حد ذاتها (خاصة على المشاعر والتحكم فيها). هذا في الوقت الذي يتمثل فيه الهدف الأخير من التربية، وأكرر هذه الحقيقة، في السماح لأي كان في «الحكم على القيم»، «للإنقاذ ذاتِه لجزء من الحكم الحر والذي لا يقهر الذي سيقيس [...] قيمة الملوك في ميزان غير قابل للفساد» (§ 82) ([2]). وبهذا فسياسة التربية، باعتبارها تربية على السياسة، ستعيد الفلسفة من جديد إلى أساسها النقدي.

لا أدعي التمكن من طروحات ألانْ وتقديمها وفق كل أبعادها (التاريخية والفلسفية). يبدو لي أكثر استعجالا وضرورة طرحها هي نفسها في ملاحظات قليلا ما يتم الاهتمام بها اليوم. هذا ما أقترح القيام به من خلال تنظيم الكتاب حول بعض التيمات الكبيرة. ولتقديم إطار عام لهذه القراءة، أذكر بدءا أن فوكو، عند بداية تعليقه على ما هو التنوير Was ist Aufklärung؟، كان يؤكد على العنصر التالي: وضعية مقال المجلة لنص كانط. ففوكو يحدد تحديدا نوعيا لعلاقة الذات والآخر، ال«علاقة بين القارئ والكاتب»، باعتباره ال«محور الأساسي» من Was ist Aufklärung؟. تدقيق صياغة التحكم في الذات والتحكم في الآخرين، إنشاء فضاء مجتمعي، أو عام، إنما يتم عن طريق نيابة عنصر في وضعية ثالثية، والذي هو النص، المدرك في جوهرية موضوعه([3]). الحال أن تحكم المدرس، في تحليل ألانْ، يؤدي بالتلميذ إلى حكم نفسه بنفسه وإصدار حكم مستقل ونقدي شرط أن يمنح مكانة مميزة لما يجري نقله من الواحد إلى الآخر: وعن هذا الكتاب يجري الحديث. أقوم الآن بعرض ملاحظات حول التربية هذه.

الفلسفة النقدية للتربية التي قام ألانْ ببلورتها تقوم على رهان سياسي يؤكد على التساوي في الذكاءات ([4])(§ 24): إنها أولى فرضيات هذا الكتاب. لا نرى بتاتا بأي حق يسمح المدرس لنفسه بالحكم على الطبائع الوبتثبيتها، كأن يقول مثلا: «أن هذا بليد وأن الآخر كسول على الدوام» (§ 11). هذا النوع من الحكم يبين حقا غباء المدرس وكسله: «حيث يجعل بهذه الطريقة [التلميذ] وحشا، لا ستعمل لكل طاقته فكرية [...] لإعادة الحياة لهذه الجوانب المجمدة»، هو بالتأكيد «الخطأ الرئيسي الأهم تجاه الإنسان» (§ 20). ينزع المدرس عن نفسه الأهلية حينما يرفض «تعميد الانسان على التفاهة أو النوم» (§ 19). على العكس من ذلك، تأخذ التربية أصالتها من خلال التأكيد القوي الذي بحسبه «يكون كل إنسان غنيا» بإمكانياته غير المشكوك فيها (§ 11). وتتولد المصاعب، التي سأعود إلى تفصيل القول فيها، فقط من نقصٍ في الإرادة أو من العواطف الجامحة؛ لكن الحقيقة أن «كل واحد ذكي على قدر ما يريد» (§ 24) و «كل فكر هو على استعداد دائم للفهم» (§ 79). وبهذا يجب على المدرس توجيه انتباهه نحو «أولئك الذين لا يتعلمون تماما» -إما لكونهم عاجزين عن ذلك، أو لأنهم لا يريدونه -أي أولئك الذين تتقلص إرادتهم إلى الصفر وعواطفهم جياشة (§ 20).

اقرأ أيضا: تأملات كانط حول التربية

سيتم فهم هذا الاهتمام النوعي في معناه الأخلاقي والسياسي. فهو من جهة يشير إلى تحول المدرس نفسه، الذي يتم حدوته داخل العنصر المعرفي: إذ يكتب ألانْ في إطار انشغاله بمن يسمون بالبلداء «سيكسب من هم الأفضل، والمدرس أيضا، وذلك بفضل التفكير فيما نعتقد معرفته». ثم إن هذا الانشغال سيبرز، من جهة أخرى، وجودَ تعددٍ في أشكال الذكاء، وحقيقةَ أنها تتجاوز دائما فضاءات الصرح الاجتماعي المخصصة لها بشكل مسبق –والصيغة هي: «حينما يكون عبدا على غرار إيسوب Ésope، فسيستمر في التفكير» (§ 20). رهان المساواة هذا ما يزال يؤدي إلى اضطرابات سياسية عميقة. بنوع من السخرية يطرح ألانْ السؤال التالي: «ما مصيرنا [...] إذا ما صاغ الفقراء خطاباتهم على أساس الحقيقة، لا بحسب دماثة خلقهم؟» (§ 53). سؤال يجيب عليه بجدية لا يوازيها سوى فكر سياسي تحرري وقائم على المساواة الحقيقية:

 سيظل هذا العالم دوما كما هو، إن حوفظ على كنز العلوم الإنسانية لمن هم أجدر به. أما إن شرعنا، على العكس من ذلك، في تعليم الجُهال، فلنتوقع الجديد (§ 20).

فيما يتجلى إذن هذا التعليم؟ إنه يجمع بين تلميذٍ، مندمجٍ هو بنفسه في مجموعة اجتماعية (القسم)، وبين معلمٍ. شخصية التلميذ المستجوب بشكل مُميز هو الطفل. الطفل يكشف بالفعل عما يعنيه «فن التعليم بمجمله»: إنه مرتبط دوما بنتيجة Ausgang، أو ب«مرور سعيد». والحقيقة أن التربية تُختزل في «بلوغ [...] أن يتحمل الطفل المشاق وأن يرقى ليبلغ مرتبة الرجل» (§ 5). وفعل التربية يعني خلق الشروط المادية والذاتية التي يجد فيها ما يمكنه به أن «يرقى»، بالمعنى المزدوج للمصطلح. إلا أن عنصرا، في المقتطف السابق، يلفت الانتباه: لما يجب على الطفل أن يتحمل «المشاق»؟ الواقع أن عملية التعلم بذاتها هي المتضمنة، في كليتها، في هذا التعبير، إضافة إلى الصعوبات التي تعترضه وتثيره بشكل حتمي.

لا يعتقد ألانْ بأي شكل من الأشكال بإمكانية التعلم عن طريق اللعب: على المدرسة أن تمنع اللعب، خصوصا إن وضعت من بين أهدافها تنوير عقول تلامذتها باستخدام الحكم الحر (§ 1, 29). تُتخذ هذه الأطروحة في أشد عواقبها تطرفا. فعدم قبول اللعب، بحسب المدرس، هو بكل بساطة رفض التعلُّم بالمعنى المتعارف عليه، أي التفهيم والشرح: هذه مهمة البيداغوجي، الذي لا يوقِّره ألانْ، وهي ليست بالتأكيد مهمة «معلم القيم»(§ 3)، الذي يطالب به ألانْ. المدرس غير مطالب بالشرح، وغير مفروض عليه انتشال الطفل من براثن الجهل. هذه الأطروحة المتناقضة –أو، بالنسبة لقراء ج. رانسيير J. Rancière، هذه الأطروحة البديهية-، يؤسسها ألانْ على تساؤل انتروبولوجي مثير للاهتمام بشكل خاص. إن التساؤل «من هو الإنسان؟»، هو بشكل أساسي تساؤل عن «ماذا يريد الإنسان». الإجابة جد واضحة: «عينه على الصعب، لا على الممتع، و، في حالة عدم قدرته الحفاظَ على موقفه الإنساني هذا، يطمع أن يُقدَّم له العون» (§ 4). لدى على المعلم الاكتفاء بلعب هذا الدور البسيط باعتباره عاملا مساعدا على تحقيق رغبةٍ بعينها للإنسان. ويمكننا القول، بتعبير أكثر دقة، أن العملية التربوية تسير على الطريق الصحيح حين يحاول الطفل نفسه أن يرفض بكل ما أوتي من جهد هذه المساعدة، حين «يبحث الطفل بنفسه على المصاعب، ويرفض أن تُقدم له المساعدة أو يتم الاهتمام به» (§ 3).     

اقرأ أيضا: هل من حاجة إلى الفلسفة؟

يمكننا الآن معرفة ما يعنيه التعلم، حين لا يرقى إلى مستوى الشرح. فلا يجب «إطلاقا [...] ترويض الرجال الصغار»، إذ لا يتعلق الأمر بتعويدهم أو تدجينهم. بل الأهم من ذلك هو «وضع تعليمهم بين أيديهم» (§ 2). إنها الفكرة الأساسية لهذه الـرؤى، التي تم إعلانها منذ البدء: «على الطفل معرفة القوة التي يتمتع بها ليحكم نفسه [...] عليه أيضا أن يحس بكون العمل الذي يقوم به على نفسه عملٌ صعب وجميل» (§ 2)؛ وأخيرا من الملائم أن «تكون هذه الانتصارات شاقة، ومربوحة دون أية مساعدة خارجية» (§ 3). يجعل المدرس عمل النقل من الذات إلى الذات ممكنا ومكثفا –تربية ذاتية. هذا يعني أن شخصية المدرس يجب أن تكون قدر الإمكان واضحة. «مدرس القيم»، وهو أيضا ال«صاحب الحقيقي للطفل»، عليه أن يقتصر على تطبيق «الطريقة المتشددة» (§ 3). سيكشف بشكل ملموس ال«لامبالاة» ولا يتوانى على إظهار «قساوة القلب» (§ 7)، فتلك هي الطريقة الصحيحة: يسجل ألانْ أن «المدرس الجيد هو الذي لا يكون مباليا تماما، و [...] ويفرض على نفسه أن يكون كذلك» (§ 9).

إن المدرس، بالتمعن فيه عن قرب، خبيرٌ في العواطف. فالتربية الحسنة، التي لا تنفصل عن الشعور بالألم، تتضمن في الواقع هندسة معقدة من المشاعر. وهذا بالضبط ما يجهله البيداغوجي: إنه لا يرى أن «الإنسان قوة منضبطة، وإنما هو قوة على الدوام»؛ وهو يجهل أيضا «قوة المشاعر» (§ 2). ومع ذلك، فالدافع الذي يتحكم في العملية التعلمية والعقبات التي تواجهها ومؤشرات نجاحها لا يمكن فهمها إلا في إطار تحليل عميق للمشاعر وممارسة، نقدية، لتحولاتها. لابد من معرفة السبب الذي يدفع التلميذ إلى اتباع المسار المؤلم والشاق الذي يرسمه له المدرس. ذلك لأنه بكل بساطة يعرف، أو يحس في بواطنه العميقة، بشرط استمراره في النمو، أن في الأفق تلوح «متع أخرى» أكثر إلحاحا (§ 4). لا يمكن المبالغة في أهمية الانتقال من الألم إلى اللذة في التربية: فأن نقول إن «الانسان يتكون من خلال الألم» فذاك لا يأخذ معناه إلا من حيث أن «المشاكل الأكثر شدة تمنح هي الأخرى لذة أكثر بكثير» (§ 5). هذا هو البعد العاطفي للتحول الذاتي من خلال  وفي خضم إدماج المعرفة: فالعمل الجاد يفترض الفقدان المؤلم لما كان يشغفنا في الوهلة الأولى والذي شكل «حبـ[نا] الأول»؛ وعندها يُعرض علينا «نوعٌ من السعادة لا تتنبه له الرغبة تماما» (§ 56). اللذة التي يتخللها الألم، إبان العملية التربوية، كعمل على الذات من خلال وساطة الآخر، تُفهم هنا، ليس بعيدا عن العمل النقدي الثالث لكانط، كنشاط سامي...

هذا ليس كل شيء. فموقف التلميذ لا يخلو من شكل معين من الإعجاب أو التبجيل. لنوضح الأمر: لا تتم ممارسة هذا تجاه المدرس، بل تجاه فضاء المعرفة ذاته. في أساس كل تعلم هناك تألم، هناك «معاناة» أساسية: ترتبط الثقافة بشكل من التعبد، موجه نحو شكل من الثقافة قادمة من الخارج معطاة لنا لنختبرها أولا باعتبارها غريبة عن تفكيرنا اليومي، والتي في هذا المستوى تزعجنا و تضغط علينا، والتي سنعترف لها، فيما بعد، بالجميل: فهي التي تسمح بحدوث تحول في الذات، وتخول ال«عبور» إلى حالة جديدة للذات، إلى حالة مغايرة. على أن كل شيء يبدأ بحالة «الالتقاط أولا دون فهم، وبشيء من الورع» (§ 5). عدم الفهم الأولي هذا يثير لدى التلميذ كل أشكال المقاومة التي تشهد عليها مختلف المشاعر –ويستحضر ألانْ حالات ال«غضب»، وال«يأس»، وال«هيجان»، وال«ثورة» و«ما يشبه اللعنة الطوعية» (§ 24). إلا أن الخوف هو وحده الذي يعرقل المرور. الخوف من الوقوع في الخطأ هو وحده الذي يعاكس فرح تعلم تقلبات المزاج. عندها سيكون على المدرس إقناع الآخرين بقبول أن تعلم «التفكير، هو الانتقالُ من خطأ إلى خطأ» (§ 32) و، من ثمة، إرغامٌ، وإكراهٌ على التفكير، وبالتالي تجاوز الخوف من الفشل، ومن الوقوع في الخطأ. إن العملية التربوية تحقق الهدف منها في تجاوزٍ من هذا القبيل. لكن، بالمعنى الدقيق للكلمة، لا يملك المدرس الحق في الإشارة إلى أن هذا التجاوز قد تم أو في إطار الإنجاز. هذ الهدف لا يتحقق إلا عند تذوق متعة التفكير، الملازمة لفعل التلميذ على ذاته: حين يشرع المريد في الفعل يعرف ويشعر أنه يفعل فعلا من أجل المتعة.

 

اقرأ أيضا: معنى المدرسة

لذلك يتم استيعاب مهمة المدرس، أولا وقبل كل شيء، كفعل على الانفعالات، تلك التي تخصه هو (مثال idéal اللامبالاة)، لكن على أيضا تلك التي تخص الطفل على وجه الخصوص. يوجه كل جهده نحو فرض «عودة الوعي» الذي « يستدعي الذكاء»، والذي سيحققه من خلال وضع «الغبي الصغير في مواجهة مع غبائه الخاص، وهو أمر سخيف في حد ذاته» (§ 29). سيكون عليه، بكل إيجاز، دعم الجهد الذي يقوم به التلميذ. الطريقة المتشددة لليست حقيقة سوى محاولة لتقوية وتوجيه إرادته، بغية إتاحة الفرصة له للتمكن من اندفاعاته، والـتحكم فيها (§ 57). ولهذا السبب، في النهاية، «تشكل أعمال المتمدرس اختبارات للشخصية» قبل أن تتوجه إلى لذكاء (§ 24): فالشرطُ الأساسي لكل تعلم، حركتُه ذاتها ونهايتُه يشكل بالفعل «تغلبا على المزاجية، [...] وتعلمَ الإرادة» (§ 24). وبذلك تتحدد المهمة الأولى للمدرس في العمل على احترام النظام داخل القسم (§ 43)، «لتجنب الضوضاء والبلبلة»: هذه بالفعل «الصعوبة الرئيسية» (§ 59)، وهي أيضا الشرط المادي الضروري لتحقيق الانضباط الذاتي للتلميذ وإصلاح شخصيته.

لذا سيكون المدرس صموتا بشكل استثنائي. هذا ما يجب تفهمه: فألانْ يؤكد بشدة على أهمية وضعية الإتقان؛ ولا يدعي أيضا ضرورة أن يكون المدرس جاهلا، بل عليه على العكس من ذلك أن يكون متمكنا مما يتمنى أن يمتلكه تلامذته (§ 33). لكنه غير مجبر على نقل أو شرح هذه المعرفة: وكما كتب ألانْ، ونعرفه نحن كذلك، «فكرة التحدث بشكل مفرد إلى مجوعة من المستمعين بغية تعليمهم هي السخافة بعينها» (§ 55). إذ المدرس في النهاية ليس سوى مجرد غلاف فارغ. فالمدرس لا يُعرَّف بمضمونه بل بوظيفته وطريقة عمله، بأسلوبه. علينا الإقرار أن «العمل بدون وجود المدرس يعني أن المحاولات تنتهي في اللحظة ذاتها التي يبدأ فيها العمل» (§ 6)؛ في حين يتمثل عمل المدرس أساسا في توجيه هذه المحاولات: عليه دعم نشاط المتعلم وذلك حتى لا يقتصر على أن كونه وعاءً سلبيا لمعرفة المدرس. يجب على المتعلم أن يخوض بنفسه تجربة هذه المعرفة، واستخدامها كرافعة لتحول ذاتي منضبط.

ينتج عن هذا عدة نتائج. فقاعة الدرس المثالية هي «المكان الذي لا يشتغل به المدرس بالتمام، ويشتغل فيه الطفل كثيرا» (§ 33). إنها الصيغة العامة للتعلم الجيد: «إنْ صمت المدرس، وقرأ الأطفال، فكل شيء يسير على ما يرام» (§ 25). ولا جدوى، في النهاية، في الأمل من التعلم الجيد للتفكير إنِ اكتفينا بالاستماع إلى شخص يفكر بالشكل الصحيح. تعلم المرء هو ليس شيئا أكثر من أن يفعل، أن يـمارس –وهذا ما جعل بالتالي ألانْ، وهو يتخذ موقفا وسطا بين سبينوزا وكانغوليم، أن، يلاحظ أن «لا يمكن لأحد أن ينجو بنفسه من خلال براعة الآخر؛ بل عليه انطلاقا من خطأه أن يصنع الحقيقة» (§ 57). لهذا يتقلص التعلم، بعد إنتاج الأفعال، إلى سلسلة من التمارين المقَّلدة (§ 44): إعادة النقل، ترديد الإنشاد والقراءة بشكل دائم. ويكون من الضروري خوض المرء تجربة الصعوبة والفشل بنفسه. يتم إدماج المعرفة، تشق طريقها بصعوبة في الفكر، وتزعج الطريقة السابقة للتفكير، أو لِلَّاتفكير، فتصبح بهذه الصفة المفعِّل لتحول عملي للوضعية. ذلك أنه  بالـإتيان بالفعل نربي أنفسنا؛ وبقدر ما نقوم بالمحاولة بقدر ما نأمل في القيام بالفعل، أن نحقق ذواتنا بشكل مغاير. لذا، صحيح فعلا أن في المدرسة «لا أحد يقومنا سوى ذواتنا» (§ 29): لا يكفي أي تدخل خارجي كيفما كان في تعويض «صبر الورشة» هذه التي، من كثرة «الفعل وإعادة الفعل، إلى أن تترسخ المهنة» (§ 37)، يثير التلميذ حوارا مع نفسه، نقدا ذاتيا، ويستمد فيه القوى اللازمة لتحوله والتحكم في الذات المستقلة -«معرفةُ فكري يعني القيام به» (§ 21) دوما من جديد. نجد في الخلفية الفكرةَ التي تقول أن التربية تقوم أولا على التربية الذاتية، على التجريب التطبيقي للاستعمال المستقل للفكر، من خلال نقد ذاتي يؤدي إلى إحداث تغيير، وفهمِ أن الحكم النقدي يُكتسب فقط خلال محاولة التفكير الذاتي نفسه. «لن يتحقق أي شيء مادام الطفل لا يفكر بنفسه فكره» (§ 40)؛ فبالـ«تأمل يستطيع معرفة معنى الفهم وما تعني المعرفة»، وأنه «يتغير بنفسه» (§ 64).

من هنا أيضا يتأتى الامتياز الكبير الممنوح للكتاب. إنه أكثر من وسيلة بينية يتحكم المدرس بواسطتها في الآخر ويجعله يتلمسُ التحكم في ذاته. فيه يتم إيداع كل المعرفة، وتاريخ المعرفة، ويتم إحلال مجمل التربية في العلاقة الصحيحة المتداولة بين الأفراد على اختلافهم. فلا يكون المدرسون بهذه الصفة سوى «مساعدين للكتاب» (§ 41). فيجدُ صمت المدرس تبريره بشكل أفضل مادامت «الكتب العظيمة هي التي تتحدث، أليس هذا أفضل؟» (§ 25). وبهذا يتم، في نهاية المطاف، استدخال الطريقة المتشددة: من المناسب القراءة بوضوح ما يجب قراءته، دفعة واحدة، ثم القيام بإعادة قراءته مرات عديدة من طرف التلاميذ؛ على المعلم، أثناء ذلك، «الحرص على شد انتباه التلاميذ متيقظا» (§ 41). يمكننا الآن تكوين فكرة واضحة عن شخصية المدرس. إنه، إنه المتعلم والصموت، ذو الشخصية القوية، الذي يحكم تلاميذه بأقل جهد: يقوم بمراقبتهم، يحرص على الانضباط ويتحكم في انتباههم، «يوجه»ـهم و«يعيد»ـهم سالمين إلى شط الأمان. إنه يأخذ، ما بين المعلم المتعبد [الزن zen] والمحلل اللاكاني lacanien، وضعية المتمكن، لكن شريطة إفراغه من محتواه، فيقفز في اللحظة الحاسمة، وعصاه في يده، بخبطة تصك الآذان، ليوقظ التلميذ المنهمك في تكاسله أو نزواته:

اقرأ أيضا: إعطاء معنى للمعارف: أو الديداكتيك بعد أربعين سنة

من هنا أعود لفكرتي، حيث أنه من الضروري مساعدة الطفل، توجيهه، وإنقاذه، وأنه من خلال هذا يتم العمل، في نهاية المطاف، على إخراج فكره الخاص، وهو شيء نادر، شيء ثمين يستأهله الجميع، على شاكلة بيت شعر لهوميروس (§ 54).

ذلك أن الباعث من الكتاب كونه أيضا فرصة للتذكير بأن اكتساب وممارسة فكرٍ وحكمٍ مفعمين بالحرية ليس مسألة شخصية. إنهما، ومنذ البداية، ينطويان على فكرة عن المجتمع، وهما بذلك ابتكار لـجماعة حدودها، على مستوى الحقوق، هي الإنسانية ذاتها. هنا بالفعل تتمثل قوة الأعمال الفكرية العظيمة –وخصوصا تلك، الأكثر أصالة، التي تتوجه فيما يبدو إلى الجمهور الأكثر تثقيفا، والأقلية السعيدة  happy few- في إيقاظ ذكاء أيٍّ كان. «قد استحوذ الشعر العظيم على الكل» (§ 19)، كما قال ألانْ –سنتجاهل إذن التعاليق والأعمال الترويجية، وهي طريقة لقول أن «ما يراه الجميع جميلا، وإنسانيا عالميا، هو بالضبط ما يبدو أنه كُتب لكلٍ على حدة» (§ 21). لكن ما إن ينغمس العقل في العنصر المعرفي، حتى يرى نفسه في تواصل مع المجتمع بأسره. «ماذا يعني إذن التعلم بواسطة العقل»، إن لم يكن «إقامة المجتمع»؟ يمكننا أن نفكر في مسّاح(-نموذجي)، لا ينهي استنتاجه إلا بعد أن يلاقي «محاورا وهميا»، قد تصدر عنه «هذه المعرفة المسماة عن حق كونية، أي كونها مشتركة بين كل العقول» (§ 26). يمكننا أيضا ذكر الأعمال الأدبية الكبيرة: «حين أقرأ هوميروس أُنشئ مجتمعا، أبتكر الصوت البشري، أسمع خطو الإنسان». في هذه ال«المراسيم الاحتفالية» المتمثلة في القراءة، «توجد الإنسانية، تكون الإنسانية واقعا» (§ 70). الحق أن ألانْ يعرف فعلا أن تحقيق هذا المجتمع العالمي واللامتناهي في الممارسة الحرة للفكر غير ممكنة في أي بقعة من العالم، ما دامت هناك على الدوام سيطرة للقيم الخاصة، والجزئية (الوطنية مثلا). والـمدرسة، كفضاء حر، مستقل، منغلق «لحسن الحظ» على نفسه، هو القادر لوحده على تقديم بيئة مناسبة للاستخدام السامي، الكوني، للفكر. ومن المفارقة ألّا تكون التربية على كونية الفكر ممكنة إلا في مجتمع مغلوق ومحدود (§ 15, 27).

التربية(-الذاتية) على الحكم النقدي يهدف إلى العالمية وإلى خلق فضاء مشترك، وخلق «مجتمع»؛ إذ أصبح من الممكن من خلال مخالطة الكتب، أي مخالطة الـإنسانية في حد ذاتها، ومعرفة تاريخها، إزالةُ هذا الهدف على أساس المساواة فيما هو أساسي:  ف«التفكير، ولو بشكل فردي، هو تفكير داخل جماعة، بل إعطاء قوة للتفكير في أي شيء» (§ 84). إن كانت هذه التربية الذاتية التي تتم داخل ما هو كوني تقوم على نقد ذاتي لا هوادة فيه، وبالخصوص على علاقة نقدية بالعواطف، فهدفها الأخير الممارسة الحرة للحكم المطبق على الذات والأشياء؛ وعلى هذا النحو، فهي مدرسة لعدم الامتثالية، انبثاق الاختلاف، للأفكار الخاصة والمفترضة لضمير المتكلم (§ 22).

خلاصة القول، تبدو العملية التربوية كـتجربة مشتركة تتلخص فيها مهمة المدرس في رعاية مزاج التلاميذ، وتصحيح نقائصهم وعاداتهم السيئة، وجعلهم يربون أنفسهم بأنفسهم، وتحقيق ذلك من خلال الفعل وإلغائه. وبالمقابل، يكتشف المدرس في هذه الممارسة ما يجعله يربي نفسه بنفسه من خلال التفكير فيما يعتقد أنه يعرفه. أخيرا، يبتكر التلميذ، من جانبه، وسائل للخروج من طفولته، من حالة الوصاية، ويتعلم أن يفكر ويتخذ قراره بكل حرية، وذلك بفضل وفي خضم هذا التحول الذي يكون فيه ذاتا أكثر من موضوع. كل طموح المدرس يتركز في إحداث «تغيير صغير جدا، لكنه كاف» في ذهن الطفل - «لابد من تليينه، بواسطة التربية البدنية والموسيقى»-، الأمر الذي لا يرقى إلى تغيير طبيعته بقدر ما يرقى إلى «إنقاذ»ـه، وتنميته، وهو ما يعني أيضا تحريره، وخلق الشروط الموضوعية والذاتية لاستعمال مستقل للفكر في الحكم. «بهذا لا تكون الرذيلة سوى خنق الذات لذاتها، بسبب الافتقار للتربية البدنية والموسيقى» (§ 22).

اقرأ أيضا: هل يمكن أن تكون هناك تربية دون صدمات؟

أصر على أن: هذا التحرير  لا يهدف إلى جعل الجميع متشابهين أو أكثر تماثلا وإنما «جعلهم أكثر اختلافا» (§ 22). التربية الجيدة، التربية المتشددة والفاضلة، من شأنها السماح لأيٍّ كان اكتساب موقف نقدي بمفرده. على أن هذا النقد التطبيقي المتخذ بطريقة جيدة هو سياسي بطبيعته: عليه أن يُمارس ضد القوى المهيمنة. هذا فرَض على ألانْ استثمار مفهوم الطاعة، لكن بمعنى جديد. إنه يعترف، بالفعل، عن طواعية بفضل التلقين؛ التربية الجيدة تفترض في نهاية المطاف قبولا حقيقيا لتوبيخ المدرس. ومع ذلك، فالتصور الألاني للخضوع لا يتطابق مع ما تتطلبه السلطات. فبداية، وكما تكشف عنه تجربة الحرب، «كل سلطة هي سلطة مطلقة»؛ والسلطة هي بالتحديد ما هو كائن مقابل «تقوية الطاعة». عندها سيعني الخضوع بشكل نقدي إلزاما «الحد، ومراقبة، وحراسة، واتخاذ قرارات بشأن هذه السلَط الرهيبة» (§ 83). إننا نرى شيئا ما يبقى «يأبى بشكل مطلق الطاعة»، ويتمثل في الرأي، والفكر النقدي –نشاط يتجاوز، بطبيعة الحال، الفرد-: «ممارسة [...] رقابةٍ بيِّنة، حازمة، لا ترحم على الأفعال و أكثر من ذلك على خطابات القائد»، هي على الخصوص «إقامة تواصل»، بحيث «تدرك معها السلطة أنها مراقبة» (§ 83). «من الضروري محاكمة القيم» (§ 82): إذ الانصياع يعني القيام بالنقد، ولا يمكن تصور حرية التفكير خارج حرية النقد هذه. والحكم الممارس بإحكام وإنصاف، والذي هو أعلى إنجازات التلميذ، يحيط بمُثل الحرية والمساواة والكونية: «لا وجود لفكر إلا لدى الإنسان الحر؛ لدى إنسانٍ لا يقدم وعدا بشيء، منزوٍ، يختار الوحدة» (§ 84). منزو لكنه قطعا غير وحيد: مرة أخرى، «أن يفكر، ولو لوحده، يعني أنه مع الجمهور، بل وأن يعطي قوة لأفكارِ أيٍّ كان». «هنا يتحدث الإنسان إلى مثيله، وأنه يريد التكافؤ معه»: في مواجهة البيداغوجي، يبرز صمت المدرس ورهانه الديموقراطي «مساواة رهيبة» (§ 27)([5])؛ وهي مساواة يمكن للقوى المهيمنة، على كل حال، أن تتخوف منها بشكل مشروع.

لقراءة الجزء الأخير: الفلسفة النقدية وسياسة التعليم (فوكو، آلان، كانغوليم) (ج: كانغوليم) 

 



المرجع

https://popups.uliege.be/2031-4981/index.php?id=1513#tocto1n5

الهوامش

[1] - Alain, Éléments de philosophie, p. 13.

[2] - كل الشهادات المثبتة في هذه الفقرة مأخوذة من: Alain, Propos sur l’éducation, Paris, PUF, 1948. أقتصر على الإشارة، في النص نفسه، إلى الفقرة في الكتاب التي يأتي منها الاقتباس.

[3] -  M. Foucault, Le Gouvernement de soi et des autres, p. 9-10.

[4]- الإشارة إلى J. Rancière, Le Maître ignorant, Paris, 10/18, 2006، هي واضحة بقدر ماهي ضرورية. الإشارة إلى Télémaque de Fénelon تجمع بين جوزيف جاكوتو وألان (§ 46).

[5] - من الأهمية بمكان الاطلاع على هذه الشهادة في كليتها: «صحيح أيضا أنه في نفس الوقت الذي تستيقظ الروح في الإنسان، تستيقظ أمور أخرى، والتي هي المساواة الرهيبة. سقراط، وهو يبحث بين الحاضرين في حلقته، ظن أن عبدا صغيرا يلبس معاطف كونه متعلما مسَّاحا. أوجم اللامع ألشيبياديس عاجزا عن الكلام، لكنه كان طوال اليوم يردد تلك الأفكار التي لا يقولها أحد. ربما كان البيداغوجي جد متمكن؛ ربما أعطى وعدا لنفسه أن يعلم سر المساواة إلا لمن سيكونون أسيادا».

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-