أخر المقالات

الفلسفة النقدية وسياسة التعليم (فوكو، آلان، كانغوليم) (ج: فوكو)

 

 


طوماس بولمان

 

اقرأ الجزء 1 من المقال:الفلسفة النقدية وسياسة التعليم (فوكو، آلان، كانغوليم) (ج: كانط)

 

النصان اللذان يطرح فيهما فوكو مسألة العلاقة بين النقد/ التربية  Aufklärung (سنة 1978، خلال ندوة «ما هو النقد؟»، ثم سنة 38-4198، ضمن مختلف إصدارات «ما هي الأنوار؟») تدخل في إطار بحث أكثر اتساعا يتعلق بمفهوم إدارة العقول gouvernementalité (الذي يحيل هو الآخر على دراسة للعلاقة الذاتية/الحقيقة): نقصد بذلك درس 79-8019 المسمى «حكم الأحياء» و دروس 1982-1984 التي جمعت كلها تحت عنوان «حكم الذات وحكم الآخرين». يشهد هذا المصطلح على محاولات فوكو في أن يُفكِّر، بإيجابية تامة، مسألة «مقاومة» الإرادة المعرفية، سنة 1976، المسماة ب «أدوات المعرفة-السلطة». غالبا ما يتم التذكير بعبارة، كانت مشهورة في دروس ما بين 81-1982، ألا وهي تأويلية الذات، والتي تنص على أنه لن يكون هناك «نقطة أخرى، أولية أو نهائية، لمقاومة السلطة السياسية إلا في علاقة الذات بذاتها([1])». ما نجهله هو أن فوكو قد حرص هو نفسه، سنة 1984، على تصحيح نفسه: «لا أعتقد أن الإمكانية الوحيدة لمقاومة السلطة [...] تكمن في علاقة الذات بالذات. إني أقول أن إدارة العقول تتضمن علاقة الذات بالذات([2])». ترى ماذا تعني هذه الحركة؟

تضع العملية التحليلية الفوكاوية للسلطة مفهوم «إدارة العقول gouvernementalité» في المركز الثالث بعد «علاقات السلطة» و «حالات الهيمنة»:

بين الاثنين [...] هناك الأليات الحكومية [...] –إنها الطريقة نفسها التي نحكم بها الزوجة [...] الطريقة التي نسيّر بها مؤسسة. [...] فمن خلال هذا النوع من التقنيات يتم، في الغالب الأعم، تتم إقامة وترسيخ حالات الهيمنة.

تكمن قيمة مفهوم إدارة العقول في كونه يشرك على الفور مفاهيم العلاقة بالذات و العلاقة بالآخر وبالتالي العلاقة بالفرد

تنطوي إدارة العقول ضمنيا على العلاقة بالذات [...] مجموع الممارسات التي يمكن من خلالها إنشاء، [...] وجعل الاستراتيجيات التي يمكن للأفراد، بشكل حر، أن يقوموا بها الواحد تجاه الآخرين([3]).

تبدو السلطة الآن كلعبة منظمة بين مجموعة من الحريات، علاقاتُ قوى متوازنة تم إنشاؤها إبان حكم الآخرين و حكم الذات. هكذا يسمح مصطلح الحكم عند فوكو أخيرا من أن يطرح بشكل واضح، وإيجابي، مفهومه عن الذات sujet. لم تعد الذات هي تلك المقيدة أو الخاضعة لعقدة السلطة والحقيقة (سنوات السبعينات)؛ وهي ليست كذلك، بحكم العلاقة التي تجمعها بذاتها، تلك التي تكشف عن وسائل المقاومة. إنها الآن ما يحدث داخل هذه العقدة، في إطار حركة تساعد، حسب السياق، على الخضوع وعلى التدمير. تحويل سؤال الذات في عمل فوكو، المدعوم من قبل بحث كيفيات الحكم، يتبدى بشكل منطقي، كما نرى، من خلال خضوع مفهوم المقاومة لمفهوم الحرية.


اقرأ أيضا: دور الآداب في ترسيخ القيم

 

هذا هو السياق النظري العام الذي سيحاول فوكو، انطلاقا من تصوريْ موروث العصور اليونانية والرومانية، أن يطرح بشكل صارم مسألة تمفصل العلاقة بالذات و العلاقة بالآخر: هذان المصطلحان هما الانهمام بالذات (epimeleia heautou) و قول الحق (parrêsia). وإني لأقيم أطروحتي العامة على أن منذ اللحظة التي قال فيها أنه يهتم «أكثر فأكثر بالتفاعل الحادث بين الذات والآخرين([4])» أصبح من الممكن أن نتلمس لدى فوكو صياغة إشكاليات أكثر أو أقل وضوحا للقضية التربوية.

لنقترح أولا وقبل كل شيء قراءة ألكيبيادس لأفلاطون التي تم القيام بها في تأويل الذات.  يؤكد فوكو بالخصوص على اللحظة التي يحاول فيها سقراط تحديد طبيعة الذات التي من المستحسن العناية بها، الذات التي تشكل بصريح العبارة موضوع انهمام الذات. بطبيعة الحال هناك الروح pneuma التي لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال انعطاف الآخرين: إذ وفقا لأفلاطون، «الروح الحيوية [...] إن أرادت التعرف عن ذاتها، وجب عليها النظر في روح حيوية» (133 a). يؤكد فوكو هذا: «لكي تصل ممارسة الذات إلى الذات التي تستهدفها، يبقى وجود الآخر ضروريا([5])». الحال أن هذا الآخر هو على وجه التحديد معلم ذاك المنشغل بنفسه. فالمعلم بذلك يواجه متعلما. يمكن لفوكو وصف كل منهما بإيجاز. المعلم ليس بالشخص الذي عليه تفهيم أو شرح أمرٍ ما للتلميذ: كل ما يقوم به هو الانشغال «بالأمر الذي يشكل هاجسا للشخص الذي يرشده([6])»، و دوره ينحصر في التحقق من وجود هذا الهاجس، ثم قياس طبيعته وشدته. أما المتعلم، من جهته، فقد يكون جاهلا، لكن السبب الذي يجعل المعلم متصلا به فمختلف تماما: إما لكونه «سيئ التكوين، أو بالأحرى تكونه يعاني من خلل ما، طالح، سجين عادات سيئة([7])». لا يمكن فصل الاهتمام بالذات التراثي عن العلاقة بالتربية، بحيث أن المعلم، بما يمكنه حكم نفسه، يمكنه أن يحكم الآخر، أي أن يقوّمه، يقوي انتباهه إلى نفسه، ويتيح له بالتالي بلوغ حكم نفسه وحكم الآخرين.

 

اقرأ أيضا: تأملات كانط حول التربية

 

دراسة الرسالة الثامنة من رسائل أفلاطون، ضمن دروس 82-1983، تعرض لإشكال آخر من العملية التربوية: يتعلق الأمر هذه المرة بتربية الأمير من قبل الفيلسوف. النصائح التي يقدمها أفلاطون لديونيسيوس هي أولا وقبل كل شيء طريقة لجعل الفلسفة تخضع لاختبار السياسة، أي في مواجهة الواقع. عندها يستمد المجمع الفلسفي شرعيته من فعل كونه مرهون بشجاعة الحقيقة، القول الحق parrêsia، الذي يتم التحقق منه باتفاق خطاب السيد مع الواقع: القول الحق parrêsia هو «النشاط الذي يطلبه أفلاطون ويعترف به [...] كأساس لنشاطه الاستشاري([8])». يسمح هذا مرة أخرى بطرح مسألة الملك-الفيلسوف، مسألة علاقة الفلسفة بالسياسة، والمستشار بالأمير. من الضروري استيعاب عدم إمكانية استنتاج مضمون النشاط السياسي من المعرفة الفلسفية. كل ما يطلب به أفلاطون هو أن يكون الفرد الحاكم فردا فيلسوفا كذلك. إذ الذي يشكل موضوع تساؤل ليس هو اتساق العقلانية سياسية وإنما الهوية، وجود الأمير في حد ذاته، روحه. مرة أخرى، إن طبيعة العلاقة بالذات –مرتبة حسب فئةِ شجاعةِ الحقيقة عوض الانشغال بمصلحة الذات-، هي التي ستقرر في الأهلية لحكم المدينة. إنها «نصيحة» الفيلسوف الأساسية: «على روح الأمير أن تتمكن من حكم نفسها حقا بحسب الفلسفة الحقة، لتتمكن من حكم الآخرين بحسب سياسة عادلة([9])».

من الانهمام بالذات epimeleia heautou إلى القول الحق parrêsia، يواجه فوكو، وهو يستكشف تفاصيل حكم الذات وحكم الآخرين، مسألة التربية في أوسع امتداداتها: ثمة علاقة جيدة تتجاوز الأفراد حيث العلاقة بالانشغال الحقيقي الذي يتداوله الواحد تجاه نفسه يكون مبررا لحكم الآخر، ليس من خلال تعليمه شيئا ما، لكن بتغيير كيانه نفسه، حيث يكون هو نفسه قادرا على التحكم في الذات؛ ثم، بعد ذلك، التحكم في الآخرين.

 

اقرأ أيضا: تجديد التأمل التربوي فلسفيا

 

من الملاحظ أن فوكو لم يكف، في نفس الوقت، على وضع علاقته الخاصة بالمعرفة و، على الخصوص، موقفه النوعي كمربي أو كمدرس في سياق إشكالي. وكما لخص ذلك أحد المعلقين فإن «فوكو لم يكن ليكون على خط متساوقا مع نفسه» كما كان في ذلك الوقت؛ كان «وكأنه يعلن من خلال هذه الدراسات عن القول الحق، يصوغ إشكالية عن وضعية خطابه الذاتي والتعريف بدوره([10])». بنفس الطريقة، بل وأكثر من ذلك، يمكننا من دون شك، من خلال الدرس الأخير المؤرَّخ في شهر مارس 1984 –حيث يضع فوكو الكلمة الجريئة الحقة معارضة للأستاذ البليد المقتصر فقط على نقل ما لا يمكنه خلقه- أن نستحضر نوعا من الفن المتعلق بال«الأداء المتناقض». فوكو يعْرف أنه كان، من بين أمور أخرى، أستاذا؛ وكان، بالتأكيد، يستخدم بذكائه هذا المنصب ليدْرس أسباب التي تجعل من التدريس بطريقة مغايرة عن تلك التي يقوم بها مهمةً (سيحاول أيضا بطرق مختلفة تغيير الطرائق المادية التي درّس بها في كوليج دو فرانس).

المهم بالنسبة لنا ليس هنا. فتطابقا مع الافتراضات التي انطلقنا منها، لن نتفاجأ من أن تركيز فوكو المستمر على موضوع التربية والعلاقة بالتمكُّن والإتقان سيقوده مباشرة إلى طرح السؤال حول البُعد النقدي لفكره (أو، بشكل أفضل، أن حقيقة تاريخ فكرنا لا تتكشّف إلا من خلال التفكير النقدي). أشير هنا فقط إلى عنصرين. أن فوكو يسعى، من ناحية، إلى التفكير في علاقته الخاصة بالمعرفة ونقلها: يقول دون كلل «مشكلتي تتلخص في تحولي». هذا هو ما يسميه ب«ال"مقال" l’"essai»، حيث يعرّفه ب«الجسم الحي للفلسفة»، والمتمثل في استكشاف «ما يمكن أن يتغير، في فكره الخاص، من خلال الممارسة [...] من معرفةٍ غريبة عنه([11])».أخذ فوكو بعين الاعتبار لتيمة التربية هو معاصر لتأملٍ في فعل التفلسف ونشره المفهرس لفكرة التغيير النقدي للذات من طرف الذات في اختبار المعرفة. ثم إنه، من ناحية أخرى، قرر في هذه اللحظة ذاتها أن يدرج بحزم مشروعه ضمن «التقليد النقدي الذي هو تقليد كانطي». فوِفقا لمفهومه عن النقد، يرجع هذا التقليد، بحسب فوكو، إلى «عمل نقدي للفكر في ذاته»([12])، إلى تجربة محدودة لإهمال في الشروط التاريخية التي نفكر عادة في إطارها، مسافة أو اختلاف تمكن من إمكانية التفكير بشكل مختلف. على هذه الخلفية يسمي الفكر الفوكاوي نفسه نقديا باعتباره عمل تغييري يتم القيام به ضمن حدوده هو ويجعل كموضوع له طابعه التاريخي الخاص.

لنختتم هذه النقطة. إن مفهوم تدبير العقول، الذي يسمح بمساءلة التكوين المستقل للذات داخل علاقة غير متجانسة مع الآخر، يقدم إطارا مفاهيميا للتفكير في مسألة التربية، لا سيما وضعية الإتقان؛ وبهذا يجد الفكر الفلسفي الفوكاوي فرصة للتعرف عن نفسه، في أصوله، في بعده النقدي (و، بعيدا عن حصر النقد ضمن منظور أخلاقي ضيق، يقدم هذا العمل إضافة إلى ذلك رؤى سياسية: انظر أبحاثه عن الكلبية cynisme). ربما نفهم بالفعل بشكل أفضل –شرط أن نظل نتذكر بداية هذا المقال- لماذا اختار فوكو أن يجعل، في آخر حياته، من كتيبه عن كانط «ما هو عصر الأنوار؟»، نوعا من ال«حجاب الواقي» لفكره. فبفضل هذا النص وبفضل الدراسة المعمقة لهذه التيمات تمكن في الأخير من استيعاب فكره كفكر ينتمي كلية إلى مجال النقد. ولأنه «يبدو أن هناك تقاطعا دقيقا [...] فيما بين العلاقة بين حكم الذات و حكم الآخرين([13])»، فهذا النص يجبره على الأخذ بعين الاعتبار من جديد مسألة التربية؛ إنها بكل تأكيد مرحلة أساسية كي يبدو له المضمون النقدي لعمله في صورته المتطرفة بشكل كامل.

لقراءة الجزء الثالث: الفلسفة النقدية وسياسة التعليم (فوكو، آلان، كانغوليم) (ج: ألانْ)




المرجع

Thomas Bolmain, «Philosophie critique et  politique de l’éducation (Foucault, Alain, Canguilhem)», Dissensus [En ligne], N° 6 (juillet 2016), Varia, URL : https://popups.uliege.be/2031-4981/index.php?id=1513.

الهوامش

[1]- M. Foucault, L’Herméneutique du sujet. Cours au Collège de France (1981-1982), éd. F. Gros, Paris, Gallimard/Le Seuil, « Hautes études », 2008, p. 241.

 

[2] - M. Foucault, « L’éthique du souci de soi comme pratique de la liberté », dans Dits et écrits, t. 2, p. 1547

[3] - بالنسبة لكل هذه الفقرة، انظر المرجع نفسه.

[4] - M. Foucault, « Les techniques de soi », dans Dits et écrits, t. 2, p. 1604.

[5] - M. Foucault, L’Herméneutique du sujet, p. 123.

[6] - Ibid., p. 58.

[7] -  Ibid., p. 125.

[8] - M. Foucault, Le Gouvernement de soi et des autres. Cours au Collège de France 1982-1983, éd. F. Gros, Paris, Gallimard/Le Seuil, « Hautes études », 2008, p. 259.

[9] - Ibid., p. 272.

[10] - M. Foucault, L’Usage des plaisirs, Paris, Gallimard, 2005, p. 16. Sur ce thème, le passage le plus clair de Foucault est sans doute dans « Entretien avec Michel Foucault », dans Dits et écrits, t. 2, p. 860-866.

[11]- M. Foucault, L’Usage des plaisirs, Paris, Gallimard, 2005, p. 16. Sur ce thème, le passage le plus clair de Foucault est sans doute dans « Entretien avec Michel Foucault », dans Dits et écrits, t. 2, p. 860-866.

[12] -  Voir respectivement M. Foucault, « Michel Foucault », dans Dits et écrits, t. 2, p. 1450, et « Usage des plaisirs et techniques de soi », dans Dits et écrits, t. 2, p. 1362.

[13] - M. Foucault, Le Gouvernement de soi et des autres, p. 8. De nouveau, j’ai largement développé ailleurs ces thèmes, en particulier au chapitre X de ma thèse, op. cit.

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-