أخر المقالات

أصول وتطور علوم التربية في البلدان الفرانكفونية (ج 2)

 


                                                                                 غاستون ميالاري 


رابط الجزء الأول: من _هنا

          مرحلة 1918-1940

في فرنسا، كانت صدمة السنوات الأربع الصعبة من الحرب، وإعادة انطلاق خدمات مصالح الدولة، واستئناف النشاط الاقتصادي وغير ذلك، قد ألزمت قضايا البحث العلمي –وخصوصا منه التربوي!- على التراجع إلى المستوى الثاني من اهتمامات المسؤولين. كانت الحركات البيداغوجية (خصوصا ما تعلق منها بالبحث عن السلام الدائم) ذات مكانة الصدارة؛ وعقدت الحركة التربوية مؤتمرها الدولي في كاليه سنة 1920. وتم، سنة 1923، نشر التعليمات الرسمية المحددة لبرامج ومناهج المدرسة الابتدائية. وتفوقت اهتمامات التجديد على الاهتمامات الرسمية المتعلقة بالبحث العلمي.

غير أنه تجب الإشارة إلى هيئات أخرى، خارج التربية الوطنية، داومت على إجراء بحوث تهم، إلى حد ما بشكل غير مباشر، التربية. هي حالة معهد الفنون والحرف لمعهده الفتي علم النفس؛ وتحت إدارة ه. لوجييه، وه. بييرون، والسيدة ه. بييرون، والدكتور تولوز والآنسة د. فينبورغ، نُظمت دراسة مهمة في موضوع تصحيح نسخ الباكالوريا؛ إنه، في اعتقادنا، واحد من أولى الأعمال الدوسمولوجية الرئيسية. بقيت هذه الحجرة الملقاة في بركة الباكالوريا المقدسة والتي لا يمكن المساس بها بلا أي تأثير؛ وكان من الضروري انتظار نهاية الحرب العالمية الثانية كي يبرز السؤال من جديد في إطار اهتمام باحثي علوم التربية (غ. ميالاري، غ. دولانشير، أ. بونبوار...).

في الدول الفرانكفونية غير فرنسا، وحتى لا يطول بنا العرض، نكتفي بذكر الأعمال البلجيكية التالية التي نعتبرها أساسية. أحدها ريادي: أ. ديكرولي ور. بويز، مقدمة في البيداغوجية الكمية؛ الآخر ذو نطاق علمي واسع: ر. بويز، التجريب في البيداغوجية. ويدخل كتاب ت. جونكهير T. Jonckheere، المنهج العلمي في البيداغوجية، وكتاب إ. بلانشار، البحث البيداغوجي، سواء من حيث الموضوع أو المنهجية أو النتائج، جزءا من ببليوغرافية كل باحث. وهكذا تم إرساء أسس البحث العلمي في التربية؛ غير أن الأمر سيستغرق عدة عقود، بعد وضع هذه اللبنة الأولى، قبل أن ينطلق البحث العلمي في التربية انطلاقته الفعلية.

 

ابتداء من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى سنة 1953

الفترات القاسية للحرب والمقاومة لم تدع مجالا لاهتمامات الباحثين العلميين. كان من الضروري، عام 1944، إعادة تعمير فرنسا، من إعادة بناء اقتصادها، وإعادة تنظيم هياكلها الإدارية، واستعادة سلمها الاجتماعي. ومع ذلك، كانت قضاياها التربوية قيد الدراسة بالفعل، كما هو مبين في خطة الجزائر لتجديد التربية. لقد كان إصلاح التعليم مدرجا، منذ حركة التحرير، في جدول الأعمال؛ إذ تضاعفت وتطورت الحركات البيداغوجية المسماة بالتربية الجديدة (المجموعة الفرنسية للتربية الجديدة (GFEN) حركات فريني، كوسينيه، كاميا...). وعلى الصعيد الوطني أنشئت لجنة إصلاح التعليم برئاسة بول لانجيفان مما أسفر عن خطة لانجيفان-فالون الشهيرة. هذا العمل، الرائع مع ذلك على المستوى البيداغوجي، لم يخصص أي فصل ولا فقرة للبحث العلمي في المجال التربوي. كل الاهتمامات، سواء منها «السياسية» أو «العملية» خلال تلك الفترة، قد انصبت على مسائل التنظيم، والتجديد، وتكيف خدمات التربية الوطنية مع الشروط الجديدة للحياة الاجتماعية، والحضارة الوليدة والجديدة.

البيداغوجية التجريبية

ورغم ذلك، استمر تيار صغير، سري إلى حد ما وصغير بشكل لافت، في شق طريقه: إذ تجمعت عدة بحوث تحت عنوان كبير «البيداغوجية التجريبية». من المفيد التوقف لحظة عند هذا التعبير الذي أثار معناه الحقيقي العديد من سوء الفهم. فالحركة البحثية، التي دشنها وطورها ألفريد بينيه بداية القرن العشرين، لم تخبو تماما. ومن الممكن رصد، في كل الدول الفرانكفونية، إما بعض المبادرات الفردية، وإما أنشطة بعض مراكز البحث التي، ببعض ما أوتيت من وسائل (إن توفرت!)، أنها اجتهدت في تطوير المشاريع البحثية.

في بلجيكا، تجدر الإشارة إلى مركز مورلانويز (بفضل الجهود الفعالة لـ ف. هوتيات)، وفي بروكسل يُذكر جونكير، ثم فاندفيلد، وفي لييج كلاوس، ثم بايير، كراي، دو لاندشير، وفي غاند فيربست، ثم م. ل. فان هيرويغ، وفي لوفان بويز، فرانكارد، جيل، بونبوار، أندريا جادوي في أنغلور، وجيرار جوسينس في فوريست-بروكسل. وسنلحق ببلجيكا الأستاذ البلجيكي بلانشارد، الذي يدرّس في جامعة كويمبرا بالبرتغال.

في سويسرا، ستبرز، في جنيف، شخصية روبرت دوترونز وشخصية صمويل رولو، مدير مختبر البيداغوجية التجريبية لمعهد جينيف للعلوم التربوية، وكلاهما إلى جانب جان بياجيه.

بفرنسا، سيتم إنشاء، سنة 1956، مركز البحوث التابع لمعهد الوطني للبيداغوجيا (المعروف سابقا باسم متحف البيداغوجيا)، تحت إشراف روجيه غال، ومختبر علم النفس البيداغوجي بالمدرسة العليا للأساتذة بسان كلو، التي أنشأه وأشرف عليه غاستون ميالاري (سنة 1948). لابد من الإشارة أيضا لأعمال البحث العلمي البالغة الأهمية التي قام بها فريق من علماء النفس الشباب المتمدرسين التي قادها روني زازو (وعلى الخصوص وضع اختبار لقياس المعارف).

كل البحوث التي أجريت في هذه المؤسسات حاولت جاهدة أن تكون علمية و، بتأثير من ر. دوترنز، تجمعت تحت شعار البيداغوجية التجريبية. كان لهذا التعبير، حينها، دلالة علينا توضيحها بسرعة. صدرت الطبعة الحادية عشرة من كتاب كلود برنار، مقدمة لدراسة الطب التجريبي، سنة 1939؛ إذ تحركت قاطرة الثورة السيكولوجية، وأصبح الحديث عن علم النفس التجريبي أمراً شائعاً. كل الأنشطة التي ستقاطع الموقف الفلسفي-الأدبي القديم وستتبنى موقفا علميا وستلحق بها صفة بالتجريبية. مما سيثير بعض الالتباس لكون، لأن جميع التخصصات التي ستندرج ضمن عائلة علوم التربية، كما سنرى، ليست من حيث طبيعتها تجريبية.

في سنة 1953 (من هنا جاء اختيار هذا الحد)، نظم روبرت دوترينز، بالتعاون مع جامعة ليون، الاجتماع الأول لمجموعة صغيرة من الباحثين (بالكاد عشرة!) الذين يؤكدون انتماءهم إلى البيداغوجية التجريبية. بهذا انطلق هذا التيار؛ وعلى مدى خمس سنوات، كانت هذه المجموعة من الباحثين تعقد اجتماعًا سنويًا، حتى يتمكن الأعضاء من اطلاع بعضهم بعضا على أبحاثهم، وانشغالاتهم، ومشاريعهم وأنشأوا، سنة 1958، بشكل رسمي الجمعية الدولية للبيداغوجية التجريبية الناطقة بالفرنسية، التي كُلّف برئاستها غاستون ميالاريه. ستلعب هذه الجمعية دورا مهما في تطوير البحوث العلمية في مجال التربية وفي تكوين الباحثين الشباب (Mialaret 2006, p. 39).

 

ولادة جديدة لعلوم التربية

أنشئ، ابتداء من 1912، بجينيف معهد لعلوم التربية. وحولت بعض الجامعات الأجنبية، حوالي 1960، كوليجات وكليات التربية إلى كليات لعلوم التربية؛ كان العدد مع ذلك محدودا. ففي 1960، كان الحديث عن علوم التربية قليلا جدا. وقد نشب خلاف في بداية القرن العشرين: هل يجب الحديث عن علم التربية أم عن علوم التربية؟ توقفت هذه النقاشات مع اشتعال الحرب. علاوة على أن دوركايم، منذ زمن بعيد، كان قد طرح بوضوح مسألة التمييز بين البيداغوجية والبحث العلمي (أنظر أدناه). فالظروف الدولية وإنشاء المنظمات الدولية الرئيسية (الأمم المتحدة، اليونيسكو، اليونيسيف والمجلس الأوروبي...) غيرت من المشهد الثقافي؛ تغيرت وسائل الاتصال مع ظهور الوسائل السمعية البصرية، وتكنولوجيا الحاسوب، والتطور الهائل لمناهج وتقنيات المعلوميات (نشر اليونيسكو لحوليات التربية)؛ فتطور وسائل الاتصال الجديدة قد فتح عهدا جديدا أمام البشرية. والاهتمامات المرتبطة بدور التربية وعلاقاتها بالحياة الاجتماعية، والتقنية والاقتصادية، في الدول السائرة في طريق النمو، والحاجة للقيام بمجهود استثنائي لمحو الأمية، عملا على أن تأخذ الاهتمامات المتعلقة بالتربية مكانة أولية والدعوة إلى تخصصات علمية جديدة: سوسيولوجية، إثنولوجية، ديموغرافية، اقتصادية... وبشكل متزايد، نرى تعبير «علوم التربية» يأخذ مكان «بيداغوجية تجريبية» ويصبح عدد التخصصات العلمية التي ستهتم بالتربية في تزايد مهم.

تيار آخر بدأ يتطور لدمج منهجٍ دراسي جديد على مستوى الجامعات ومعاهد تكوين المدرسين. ففي بداية القرن الماضي، كان دوركايم قد شغل ببراعة كرسي البيداغوجية في السوربون (الكرسي الذي أنشئ سنة 1887 وشغله ماريون سابقا، وبعده فردينان بويسون)؛ ثم تم، سنة 1904، إعادة طبع النسخة السادسة (كانت الأولى عام 1883) من العمل الضخم لغ. كومبايري، أستاذ بكلية الآداب في جامعة تولوز: التاريخ النقدي للمذاهب التربوية في فرنسا ابتداء من القرن السادس عشر؛ وضَمن شابو وجان بورجاد تعليما للبيداغوجية في جامعة ليون؛ وأنشأ الروفيسور لوبُنْوا، سنة 1911، معهدا دوليا للبيداغوجية بجامعة كاينْ. بهذا لم تكن الجامعة الفرنسية غريبة تماما عن الاهتمامات البيداغوجية. لكن المعقل الرئيسي للبيداغوجية، فيما بين الحربين، قد تشكل بالأساس من المدارس العادية للتعليم الابتدائي. ولم تتطور فكرة تدريس البيداغوجيا بالجامعة ولا الحاجة إلى تنظيم بحث علمي في التربية إلا من قبل بعض مدرسي التعليم العالي. فتحت تأثير وقائع وضغوط دولية جديدة، ونتيجة الأنشطة التي قام بها بعض الجامعيين المتميزين (م. دوبيس، ج. شاتو، غ. ميالاريه على وجه الخصوص) وبعض الشخصيات البارزة لتلك الفترة (ج. ستوزيل وب. فريز)، قررت السلطات الوزارية الفرنسية، في النهاية، خلق منهاج دراسي جامعي لعلوم التربية (Mialaret, 2006, p. 46 sq). هذا ما أسميناه «صاعقة 30 نونبر 1966». هكذا قامت ثلاث جامعات فرنسية: بردو وكاين وباريس، بداية العام الدراسي، بتنظيم منهاج دراسي للعلوم التربوية داخل كليات الآداب التابعة لها.

 

تاريخ مفهوم «علوم التربية» وإثراؤه

تعبير «علوم التربية» حديث نسبيا في اللغة الفرنسية؛ فمؤلفات مهمة كالموسوعة العالمية، المنشور سنة 1968، ومعجم اللغة البيداغوجية المنشور سنة 1971 من طرف ب. فولكييه، لم تذكره بعد. فهو لم يشمل، بعد استعماله لأول مرة سنة 1912، سوى مجال جد محدود من التربية: علم نفس الأطفال، الأطفال الصعاب وعير السويين، تكوين الأساتذة؛ إلى هذا يمكن إضافة فلسفة وتاريخ المذاهب البيداغوجية. المشاريع الأولى المُقدمة عقب الاجتماع الذي نظم بوزارة التربية سنة 1966، مهما كانت اهتماماتها الجوهرية، تشهد على فقر نسبي لمفهوم علوم التربية؛ لن يتم إثراء هذا المفهوم، الذي أصبح مقبولاً الآن، إلا تحت تأثيرات مختلفة.

 

التمييز بين البيداغوجيا وعلوم التربية: موقف إبيستيمولوجي آخر

كان التمييز متأصلا، منذ زمن بعيد، في الفكر العلمي. يشدد دوركايم، في مقطع شهير من كتابه التربية والسوسيولوجية، على التمييز الضروري القيام به بين ميدانين: العلم والبيداغوجية. في الحالة الأولى، «يتعلق الأمر ببساطة إما بوصف الأشياء الحاضرة أو الماضية، وإما بالبحث عن الأسباب، أو بتحديد آثارها». ويتابع:

النظريات التي نسميها بيداغوجية هي تأملات من نوع مختلف. فهي، حقيقة، لا تتبع نفس الهدف، ولا تستعمل نفس الطرق. لا يتحدد غرضها في وصف أو تفسير ما هو كائن أو ما كان، ولكن في تحديد ما يجب أن يكون. إنها لا تتجه إلى لحاضر ولا إلى لماضي، ولكن نحو المستقبل. ليست وظيفتها التعبير الأمين عن الحقائق معينة، بل تملي قواعد سلوكية. هي لا تقول لنا: ها كُمُ ما هو كائن وهذه أسبابه، وإنما ها الذي يجب فعله. (Durkheim,1934, p. 75)  

 

      على خطى علم الاجتماع (لا سيما بتأثير الموقف الابستيمولوجي لدوركايم)، وعلم النفس، الذي «مِن علم الروح» تحول إلى «علم السلوك» (كل المدرسة السيكولوجية المعاصرة)، أنجزت «علوم التربية» بدورها الابستيمولوجي من خلال دراسة الوضعيات التربوية من منظور علمي. فعلوم التربية هي مجال للملاحظة، والوصف والتفسير؛ أما البيداغوجيا فهي مجال الوصفات والفعل التربوي، دون أي فكرة ناتجة عن تراتبية بين المجالين.

 

تتكون علوم التربية من مجموع الاختصاصات العلمية التي تدرس، من وجهات نظر مختلفة لكنها متكاملة ومنسقة، شروط وجود، وأداء وتطور الوضعيات والوقائع التربوية

 

رؤية جديدة لمفهوم التربية

تم تجاوز النموذج السقراطي القديم إلى حد كبير؛ إذ لم تعد العلاقة التربوية تختزل –إلا في حالات خاصة قليلة- في وجود معلم ومتعلم. لقد اغتنى مفهوم التربية بشكل لافت سواء من حيث الشمول أو الامتداد. إن التربية تشمل، بأشكالها وطرائقها المختلفة، الفترة الممتدة من الولادة (بل وحتى قبلها) إلى الموت؛ وهي تهتم بكل جوانب شخصية الفرد أو الخصائص المختلفة للجماعة. لم تعد تربية فرد تقتصر فقط على ما يكتسبه داخل المؤسسة المدرسية، بل أيضا ما يكتسبه داخل ال«مدرسة الموازية» التي يتحدث عنها ج. فريدمان؛ إذ لا يعد بالإمكان اختزال التربية اليوم في نموذج معلم-متعلم.

أما التقنيات الحديثة (السمعية البصرية، والإعلامية، والصحافة...) فقد أضفت وجها خاصا على الوضعيات التربوية.  

الوضعية التربوية هي وضعية اجتماعية ديناميكية، ذات أهداف مصرح بها بدرجات متفاوتة من الوضوح، ومكونة من ذوات لا تمتلك كلها نفس الوضعية الاجتماعية ولا نفس الدور الواجب القيام به. تجري الوضعية التربوية في مكان وزمان محددين؛ لها تاريخ؛ ومنفتحة، في الغالب، على المستقبل.

وتشمل الوضعية التربوية (حسب الحالات) عددا معينا من الهيئات والخدمات التي تساهم في الفعل التربوي كما هو مبين ضمن الغايات وكيفيات الفعل التربوي المتوخى: الخدمات الصحية، الخدمات النفسية وإعادة التربية، خدمات التوثيق، خدمات التقييم، الخدمات الاجتماعية، الخدمات البحثية، الخدمات التقنية السمعية البصرية والمعلوماتية.

تشمل الأفعال الحاسمة في التربية أيضا، على نحو متقارب إلى حد ما، الوسط العائلي وجماعات الجوار، البيئة الاجتماعية وعالم الشغل، التجربة الشخصية، ومن الداخل، البحوث والنظريات البيداغوجية المتعلقة بالقضايا التربوية والتكوينية.

لقد أبرزت جميع الأعمال الحالية، في جميع التخصصات العلمية، مدى تعقد الحتميات التي تحكم الوضعيات التربوية، بل والتربية ذاتها.

 

بعض الجوانب الابستسمولوجية

المعارف الامبريقية والمعارف العلمية

ما يوجّه مسار الممارس يوجد في قلب الفعل، من خلال الحدس في غالب الأحيان، في مواجهة وضعيات جديدة، في البحث عن سبل جديدة للتدخل والتصرف: إذ المعارف التي يتحصّل عليها هي من طبيعة «عملياتية praxéologique».

يطبق الباحث في العلوم التربوية المناهج العلمية ويهدف إلى تحقيق نتائج ذات طابع علمي؛ بعد ذلك يهدف من بحوثه إلى استخلاص نتائج عملية يقترحها على الممارس.

لا يتعلق الأمر بإقامة علاقة تراتبية بين هذين الشكلين من المعرفة؛ فهما من طبيعتين مختلفين، وليسا متناقضين بل يجب عليهما أن يتعاونا على بناء معرفة في التربية. فالممارس يظل على الدوام مسؤولا عن نشاطه التربوي، سواء في اختيار غاياته أو في اختيار مناهجه وتقنياته التطبيقية.

 

مجالات الدراسة

أظهر التفكير في مفهوم التربية تعدد معاني المصطلح. لذا من الطبيعي أن نجد     أربعة ميادين للدراسة تتطلب، من أجل تحليلها، استخدام تقنيات علمية مختلفة أحيانا:

- التربية منظور إليها من زاوية أوجهها الإدارية والتنظيمية: التربية-المؤسسة (الجوانب التشريعية)؛

- التربية منظور إليها من زاوية المضامين: البرامج، المواد الدراسية (الجوانب العلمية، الاحتياجات المجتمعية)؛

- التربية منظور إليها من زاوية نتائجها، أنواع المتدربين الذين يغادرون النظام المدرسي (الجوانب النفسية)؛

- التربية منظور إليها من زاوية الممارسة الملموسة، والإجراءات المتخذة بهدف تحقيق الأهداف المحددة (الجوانب البيداغوجية).

 

ثلاث أنماط من وضعيات الدراسة

يمكن النظر إلى ميادين الدراسة من زاوية أخرى: تلك المتعلقة باستقرار الوضعيات. من الممكن التمييز بين ثلاثة أشكال أساسية:

- وضعيات من الماضي التي لم يعد لنا عليها أي إمكانية للتأثير، مثلا: التربية في اليونان. لا يمكن هنا للدراسة أن تتم إلا من خلال الوثائق (النصوص، الأعمال الفنية...): وضعيات مستقرة بشكل نهائي.

- الوضعيات المستقرة نسبيا بمرور الزمن: هي معاصرة للباحث واستمراريتها في الزمن طويلة إلى حد ما (مثلا: حالة النظام الجامعي الفرنسي سنة 2007). من الممكن تحليل النصوص المنظمة للنظام؛ يمكن استفسار الأشخاص الذين كانوا وراء النصوص، أو الأشخاص الذين طبقوها ونفذوها (المدرسون، هيئة التفتيش، أباء التلاميذ، رجال السياسة)، أو المنظمات المستقبلة للطلبة في نهاية دراستهم (الشركات)، أو الأشخاص القائمون على النظام (الإداريون، المدرسون، الطلبة، الخدمات الطبية، الخدمات النفسية والتوجيه...)؛

- الوضعيات الدينامية بالأساس، التي يجري في إطارها الفعل التربوي. إنها محدودة في الزمان والمكان، فريدة ولا يعاد إنتاجها بشكل على النحو ذاته.

 

أنماط المعرفة

من الطبيعي أن تتنوع أنماط المعارف المختلفة بتنوع الوضعيات التربوية المرتبطة بها، وذلك تبعا لاختلاف ميادين الدراسة. هذه بعضها:

- معرفة ذات طبيعة سيكولوجية أو القائمة على الشهادات. وهي تلك التي يتم جمعها بواسطة الملاحظة أو المقابلة؛ وتنتج عن نشاط الباحث وتقبل بالضرورة الخضوع لتحليل نقدي دقيق لضمان درجة من الموضوعية تتوافق مع البحث العلمي؛

- المعارف ذات الطابع التأملي، الفلسفي. هنا يكمن المجال الكامل لفلسفة التربية، والذي يتعلق بالمذاهب، والغايات وكذا الطرق والتقنيات المستعملة؛

- المعارف التاريخية وإثبات الحقائق. نحن هنا في صلب المجال المؤرخ الذي سيقوم، كما هي عادته، بالنقد الداخلي والخارجي للوثائق، لتقييم درجة موضوعيتها والبحث عن معناها الحقيقي وفقا لتاريخ الوثيقة؛

- المعرفة التصنيفية أو التشخيصية. فالنشاط البحثي مماثلٌ لنشاط عالم الطبيعة الذي يعمل جاهدا على بناء جداول تصنيفية حتى يتمكن من إجراء التشخيص. ما طريقة تصنيف مختلف طرائق تعلم القراءة وما تعنيه بالضبط الطريقة المقطعية أو الطريقة الشمولية؟

- المعرفة التجريبية. إنها المعارف الناتجة عن التطبيق الصارم لخطة تجريبية على حقائق أو وضعيات تربوية. وتكمن الصعوبة الأساسية في كون عدد المتغيرات المستقلة والتابعة يكاد يكون غير محدود، مما يفرض على الباحث بالضرورة الاختيار بينها لإدارة الوضعية ضمن شروط حسنة؛

- المعرفة الإحصائية. كل الدراسات الاستقصائية، وتطبيق الاستمارات (حين تكون مبنية حسب قواعد المنهج العلمي!)، كل الإحصائيات، رسمية كانت أم غير رسمية (ترتيب الثانويات وفق نتائج الباكالوريا، مثلا)، تقدم للباحثين بكم هائل من المعلومات التي يتعين عليهم بعدها ترتيبها وتحليلها وتفسيرها.

 

مصادر المعرفة بالنسبة لعلوم التربية

مصادر المعرفة في العلوم التربوية عديدة ومتنوعة وغير متجانسة. يمكن رصد أربعة أساسية منها:

- الممارسة البيداغوجية (الممارسة المباشرة، الممارسة الملاحظة، الممارسة المشتركة)؛

- خدمات التوثيق (الوطنية أو الدولية)؛

- مجمل نتائج البحوث في علوم التربية؛

- مجموع نتائج الأشغال والأفكار والمناقشات الفلسفية والتاريخية والسياسية.

 

خلاصة

يجب علينا الوعي بضرورة القيام باختيار أساسي، ذلك أننا هنا أمام التمييز الخاطئ الذي قام به ديلتاي بين التأويل والفهم. أقول «خاطئ» لأن اختيار الكلمة، أولا وقبل كل شيء، غير صائب. ثم إن التأويل ليس نقيض الفهم: فالوضعيتان لا يقعان في اللحظة نفسها من سلسلة البحث العلمي. لا يمكن لخيار «التفسير» أن يقدم وصفا كاملا للواقع التربوي، بينما يمكن لخيار «الفهم» (بالمعنى الذي يقصده ديلتاي) أن يسهم في البحث عن افتراضات عمل جديدة، أو أن يمنح، في انتظار تحققها مستقبلا، تأويلات للنتائج المحصل عليها التي لا يمكن، في الحالة الراهنة، التحقق منها بشكل تام عبر البحث العلمي؛ الفهم والتفسير، إذا، يساعدان سوية على بناء المعرفة التربوية. إن المشكلة الأساسية، بالنسبة للباحث، تتمثل إذن في التمييز الواضوح بين ما يندرج تحت ال«فهم» وما يندرج تحت ال«تفسير»، وذلك لإعطاء مجموعتيْ المعطيات وضعهما الابستيمولوجي الخاص، دون أن يؤدي ذلك إلى خلطٍ في عرض نتائج البحث.

اسمحوا لي، في ختام هذا العرض، أن أعبر عن سعادتي البالغة بأخذ الكلمة في رحاب هذه الجامعة حيث قضيت معظم حياتي المهنية والتي ظللت مرتبطا بها لشدة. إن العلوم التربوية –التي كافحنا جاهدين من أجل إنشائها وتطويرها- هي اليوم بين يدي جيل جديد وشاب. أثق شديد الثقة بهؤلاء الشباب، في حماسهم وتصميمهم لدفع عجلة تطوير علومنا التربوية، التي لن تتوقف بالتأكيد. حظ سعيد وسعي أكيد للجميع.
نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-