أخر المقالات

التفلسف بالمدرسة الابتدائية (ج4)

 




                                                                     برنار جوليبر

Bernard Jolibert

رابط الجزء الثالث من المقال من هنا

الطفولة

يرى جاك ليفينJacques Lévine  أن الأطفال يُظهرون في سن مبكر قلقًا حقيقيًا تجاه أسرار الحياة. الطفل مؤهل لأن يكون بشكل جنيني «فيلسوفا»، و«أنتروبولوجيا» و«ميتافيزيقيا»([i]). قد يكون، بكل تأكيد، كل هذا ما دام كل شخص له القدرة على التفلسف يوما ما. لكن لا يكفي أن تكون الروح قلقة (أي انسان معفى من هذا؟)، أن تبدو قادرة على فهم حقيقة الموت كلحظة اختفاء لا رجعة فيها، أو على مواجهة أجوبة أيديولوجية متنوعة عن هذه الحادثة كي تتفلسف، فمن الضروري التعبير عن القلق الوجودي بطريقة نقدية. وتؤكد جوسلين بيغيري أن «كل الأطفال فلاسفة، والبعض منهم فقط يبقى كذلك»([ii]). هل يجب افتراض أن النمو، أو المدرسة أو تأثير العائلة مسؤولون مجتمعون عن إقصاء البعض منهم من هذه الكفاءة الفلسفية الفطرية والعفوية في آن؟ استعمال اللغة، بالنسبة للمدافعين عن المقاربة الفلسفية المبكرة، كاف للدلالة على ذلك: «ليس هناك شرط ضروري للبدء في التفكير. يمكن للطفل البدء في التفكير حين يشرع في الكلام، مادام الكلامُ يعني بالفعل إعطاء شكل للعالم([iii])».

يكفي إذن أن نكون قادرين على التفكير وعلى التعبير بالكلمات عما نتج عنه التفكير كي نقوم بفعل التفلسف. وبالتالي سيمكن البدء بشكل مشروع في وقت أبكر عما يتنبأ به التقليد المدرسي الفرنسي. ألا يسمح لنا بذلك الفلاسفة أنفسهم؟ ألا يقترح لوك دفع الأطفال للتفكير في أقرب وقت ممكن([iv]) ولم يذكرنا كانط بأنه لا يجب انتظار نضج الفهم للبدء في تعليم الأمور التي لا يمكن فهمها بالكامل «إلا بواسطة عقل مُمارسٍ ومجربٍ([v])»؟

اقرأ أيضا: ترابط الوسط الأسري بالنجاح المدرسي

في هذه الدعوة لنظريتي الفيلسوفين المعروفين خلط بين فعل التفكير، بمعنى الاستفادة مما يُتوصل إليه من الفهم، والقيام بفعل التفلسف بمعنى التشكيك في هذا العقل نفسه، وهو الخلط الذي لم يقع فيه لا لوك ولا كانط. إن كانت ممارسة الفلسفة تعني القدرة على التفكير العقلي، فليس كل تفكير عقلي بطبعه فلسفيا. الرياضي يفكر. بل هو يفكر بشكل جيد جدا، وأحيانا بصرامة أكثر ممن نصبوا أنفسهم كذلك من المفكرين. فهل هو أيضا فيلسوف؟ لا، ليس طالما بقي في خضم حساباته الاستقرائية ومبرهناته الاستنتاجية. إنه لا يصبح فيلسوفا إلا حين يعود ليتأمل اختصاصه، بعبارة أخرى حين يجعل منه موضوع دراسة ويحاول الإمساك وتبرير مناهجه الفكرية الخاصة به. ايبيستيمولوجية أي تخصص كيفما كان هي بالفعل خطوة في الفلسفة([vi]). فمن الضروري أولا البدء بالدخول في تخصص معين لتنفيذ وقفة تأملية تخص موضوعه، ومنهاجه وأسسه. ينطبق الأمر نفسه على المؤرخ، والكيميائي، والجغرافي وعالم الرياضيات: إنهم يفكرون، وترى المدرسة أنها، على تخصصاتهم ومناهجهم، تمِّرس تفكير الأطفال منذ الأقسام الصغرى بغية تزويدهم بقواعد متينة تسمح لهم بوضع كفاءاتهم في التفكير موضع تنفيذ بأكثر الطرق صحة وموضوعية. يأتي بعد ذلك التجريد. فالبدء بالمنطق، لاعتباره مادة مجردة وصورية، يعني المخاطرة لا بصناعة مفكرين وإنما «مفكرين منطقيين صغار» كما قال كانط([vii]). من الضروري إذن البدء بإتقان اللغة، ثم المرور إلى النحو، باعتباره التأمل الأول في اللغة، حتى نتمكن لاحقا من الضبط المجرد للتفكير المنطقي الذي يهمّ العمليات الصورية للفكر. اكتساب الكفاءة العقلية الوحيدة المحتملة أمر غير كافٍ للمرور إلى الفعل بشكل تلقائي. فامتلاك آلة [موسيقية] أمر غير كاف لمعرفة كيفية استعمالها، ناهيك عن العزف عليها بشكل صحيح.

قد كان لوك، الذي حبّذ تربيةً عقلانيةً مبكرة، يتخوف من «القرود المتعلمة الصغيرة» الذين نكوّنهم في وقت جد مبكر على استخدام تفكيرهم في أمور لا تحصل لهم عنها تجربة إلا من خلال «إشاعات» تروج في بوسطهم الاجتماعي الخاص بهم. وسيتذكر روسو لوكَ حين سيتكلم عن هؤلاء الأطفال الذين تحولوا إلى «أغبياء»، و«متنازعين بينهم»، و«مغرورين» و«متمردين»([viii]) بفعل التفكير. هناك مسافة كبيرة بين العاقل والمعقول بمثل ما هو كائن بين التفكير بالمعنى الغامض والتحليل التأملي بطريقة نقدية. في الحالة الأولى، نكتفي بإسقاط صورة الرأي المتداول كمرآة عاكسة؛ في الحالة الثانية نحاول عكس الحجة على ذاتها لإدراك أسسها. بالنسبة لكانط، يتشكل الفهم أولا من خلال التجربة الحدسية ومن اللغة، اللتان تمثلان المنبع الأول للأحكام، وتتشكل المفاهيم لاحقا. أما ديكارت فيفتتح تأملات ميتافيزيقية بالتذكير على أن معارفنا الأولى تتأتى لنا «من الحواس أو من خلال الحواس». فلابد من البدء بارتكاب الخطأ. ثم نمر تدريجيا من المفاهيم «التي يعترف بها العقل» إلى التعرف عن المبادئ التأسيسية لهذا الأخير. وفي نهاية المسار فقط، تصبح عناصر المعرفة «مترابطة بواسطة العلم في كلٍّ منظم بشكل جيد». ويشير كانط في الأخير إلى أن «على التعليم اتباع نفس المسار([ix])». فالعقل النقدي الفلسفي لا يثبت إلا بالاستعمال القبلي للعقل الاستقرائي القائم على التجربة الحسية للمتناقضات المُعاشة.

الرغبة في التفلسف مع الأطفال الصغار تعني المغامرة بالبدء من حيث يجب الانتهاء. وتستغرب حنة أرندت من كون البيداغوجية الحديثة، وإن انخرطت في أفكار جان جاك روسو، تعود إلى المناهج القديمة، المتمثلة في التعامل مع الطفل كراشد صغير([x]). وعلى الرغم من الاختلافات النظرية العميقة بين فيغوتسكي، وفالون وبياجيه، إلا أنهم يتفقون على نقطة واحدة. فاكتساب التفكير المفاهيمي الصارم والاستعمال المناسب للتصنيفات المنطقية هما بطيئان بل ويصعب التعامل معهما بشكل صحيح. ومع ذلك فهما اللذان يشرطان على الأقل الوصول إلى التفكير الفلسفي([xi]). لا يعني عدم وجود فكر بدون لغة أن ثمة بالضرورة فكر نقدي حين تتأسس اللغة ويكون لها نحوٌ ينظمها. وقد لاحظت هذا ماري فرانس دانييل، خبيرة كيبيك في فلسفة الأطفال: إن الأطفال يتحدثون ويفكرون؛ فهل هم يتفلسفون؟

الأطفال، إن تركوا لوحدهم، لن يتمكنوا من ذلك! صحيح أنهم بشكل تلقائي يميلون إلى تبادل مروياتهم، أي سرد حكايات شخصية دون الانشغال بوجهة نظر الأقران. لكن، بتوجيه من الراشدين، ينجح الأطفال في تبادل الرأي على شكل حوار أحادي([xii]).

اقرأ أيضا: نيتشه المعارض القوي لتحرر المرأة

+++++

يمكن أن يكون الفن الخطابي للنقاش، وفن سيْر الحوارات، مفيدان في ضبط النقاشات، سواء بالنسبة في التربية على التمدن أو في فن «تسييل fluidifier» التواصل الاجتماعي، لكنهما يبقيان عند عتبة الفلسفة. لقد كان إسقراط Isocrate خطيبا عظيما، ماهرا في مناقشة الأفكار، بل ومتوجسا من السفسطة، ومكونا فعالا في القانون والسياسة، لكنه مع ذلك لا يعتبر فيلسوفا، حتى وإن باشر أحيانا مواضيع فلسفية([xiii]). عيب هذه الورشات والحوارات لا يكمن في اقتراح مقاربة بيداغوجية أصيلة. فالحوار وتبادل الآراء هي دوما مهمة، سواء من الناحية اللغوية أو الأخلاقية أو الاجتماعية. ولا يتعلق الأمر في جميع الأحوال بانتقاد ممارسته [الحوار] داخل الوسط المدرسي. فالنقاش المسمى «فلسفيا»، والذي من أهدافه أولا زرع قيم المواطنة المقبولة اجتماعيا، يهدف إلى إنشاء عادات أخلاقية وسلوكية. لكنه، حتى وإن استدعى مع ذلك إلى مقاربة أولية لبعض القيم، لا يتمكن في هذه المرحلة بلوغ تأمل نقدي حقيقي لهذه القيم نفسها.

أما التعليم الفلسفي فلا يهدف، حتى في صورته الأكثر أكاديمية والأكثر مدرسية، سوى إلى تحرير التلاميذ. مهمته هو التساؤل حول كل ما هو بيّن، وحول كل الحقائق، بما فيها المتعلقة بالاحترام، والتسامح، والمواطنة، والتضامن والحقيقة، وهي كل القيم التي تتوافق مع الانتظارات الاجتماعية الحالية. ينطبق هذا على مجال الأخلاق، وعلم المعرفة، والسياسة وعلم الجمال وأيضا البيداغوجية. من الناحية العملية، وكما يرى باشلار، يفترض الفكر النقدي دوما «قطيعة» لا تتأكد إلا حينما ينبني ال«عائق الإبيستيمولوجي» للمعرفة المشتركة بالفعل وأن تكون الأسس الفكرية متينة بما يكفي للسماح بوضعها موضع سؤال([xiv]). تعريف مختصر لكانط سيلخص هذا المطلب المزدوج للتأمل النقدي والذي يتطلع إلى العالمية:

المعرفة الفلسفية هي معرفة عقلية تأملية وتبدأ بذلك حيثما يتوقف الاستعمال المشترك للعقل ليشرع في بحوث معرفية كونية مجردة in abstracto([xv]).

لا يكفي التحدث، والتساؤل، ومبادلة الرأي، واستعمال البراهين، وربما الشك في كل شيء للظهور بمظهر الفيلسوف، بل لابد من القدرة على التشكيك فيما يتم التفكير فيه (الموضوع)، على التساؤل عن كيفية التفكير فيه (المنهج) والتساؤل عن حدود فكره الخاص باعتبار كونه معقولا (الصدق).

ضع ملاحظاتك في خانة التعليقات أسفله👇👇

اقرأ أيضا: مدرس الفلسفة فيلسوف؟





المرجع

Revue philosophique de la France et de l'étranger 2015/3 (Tome 140), pages 291 à 306. Éditions Presses Universitaires de France

الهوامش

[i] - Jacques Lévine et al., L’Enfant philosophe avenir de l’humanité ?, Paris, ESF, 2014, pp. 19, 28, 39 sq

[ii] -Jocelyne Beguery, Philosopher à l’école primaire, op. cit., introduction.

[iii] - Michel Tozzi, cité in « Philosopher à l’école primaire. La méthode Tozzi », 22 novembre 2012 (http://www.vousnousils.fr/2012/11/22/philosopher-ecole-primairemethode- michel-tozzi-537802).

[iv] -John Locke, Quelques pensées sur l’éducation, trad. de Gabriel Comayré, Paris, Vrin, 1966, pp. 105 sq.

[v]   Emmanuel Kant, Réflexions sur l’éducation, trad. d’Alexis Philonenko, Paris, Vrin, 1966, p. 112.

[vi] - Voir Robert Blanché, L’Axiomatique, Paris, Puf, 1966.

[vii] -  Emmanuel Kant, Réflexions sur l’éducation, op. cit., p. 112.

[viii] - Jean-Jacques Rousseau, Émile, Paris, Gallimard, p. 317.

[ix] - Réflexions sur l’éducation, op. cit., p. 119.

[x] - Hannah Arendt, « La crise de l’éducation », in La Crise de la culture (1961), Paris, Gallimard, 1972, p. 240.

[xi] - Jean Piaget, Le Jugement et le raisonnement chez l’enfant, op. cit. ; Henri Wallon, Les Origines de la pensée chez l’enfant, op. cit. ; Lev Vygotsky (1933), Pensée et Langage, trad. de Françoise Sève, Paris, Éditions Sociales, 1985.

[xii] - Marie-France Daniel, «Philosopher à 4 ans», http://www.cenestquundebut.com/autour-du monde_8/Philosopher-a-4-ans

[xiii] - Jean Lombard, Isocrate, rhétorique et philosophie, Paris, Klincksieck, 1990.

[xiv] -  Gaston Bachelard, Le Matérialisme rationnel, Paris, Puf, 1953, p. 31.

[xv] - Emmanuel Kant, Logique, trad. de Louis Guillermit, Paris, Vrin, 1966, p. 28.


نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-