أخر المقالات

المأساة حسب مارسيل كونش (ج2)

 



أندريه كونت-سبونفيل

 

انظر الجزء 1 من هذا المقال بالضغط على الرابط

 

مأساة جذرية، في أفق الزمن والموت

ما يلفت الانتباه في الفصل السابع كما هو الحال في مقاطع أخرى من التوجه الفلسفي، هو مدى تفرد التصور الكونشي، مند البداية، للمأساة: فهو بقدر ما يختلف عن التصور الأرسطي، الذي لا يستحضره، يختلف عن التصور النيتشوي، الذي يستحضره بقوة، ويبقى بطريقة ما مدينا له، لكنه متميزا عنه بشكل حازم.

لن أسهب الحديث عن أرسطو، الذي يتألق في هذا الفصل فقط بغيابه([1]). فمارسيل كونش لا يحيل أبدا على التحليل القواعدي للمأساة في فن الشعر. هل هو الخوف؟ أم الشفقة؟ لا شيء يشير إلى أن هذه تؤثر، بالنسبة لمارسيل كونش وبالضبط سنة 1971، بشكل أساسي على المأساة.

مع نيتشه، الأمر مختلف بالطبع. فمفهوم «الحكمة المأساوية» مستعار منه صراحة: «نيتشه هو الذي تحدث عن "الحكمة المأساوية": في مقابل حكمة السكينة، والسعادة الهادئة، أي في مقابل الحكمة التقييدية restrictive وضع حكمة "مأساوية"، "ديونيزية"»([2]). ويقدم مارسيل كونش، في الصفحات التي تلي –ولدينا شك في ذلك- تصور نيتشه للمأساة، على أنه «تثبيت كلي» و«فرح ديونيزي»، أو بعبارة أخرى (ووفي بالفعل لنصوص نيتشه) كإثبات بهيج للكل. هذا ما نجده كذلك لدى اثنين من كبار النيتشويين، جيل دولوز وكليمون روسيه، اللذين سيحولان الفرح (مع بعض النتشوية والمفارقة المفرطة) إلى شعور مأساوي بامتياز([3])...

إنه الاختلاف الأول بين المأساة لدى كونش والمأساة بالنسبة لنيتشه: كلتاهما إيجابيتان، إلا أن كونش عوض الدفاع عن ال«فرح ديونوزي»، يبدو أنه يحكم عليه من جانب واحد أو «بشكل غير متناسب»([4]). مسألة مزاج؟ من دون شك –لنعترف أن مارسيل الذي عرفناه لم يعد يبلغ السكْر الديونوزي. ففي مقال بيلار سانشيز أوروزكو الجميل ، الذي خصصته لل«حكمة المأساوية» عند مارسيل كونش، أشارت إلى أن «هذه الحكمة في جزء منها مرتبطة بمفهوم ال«فرح المأساوي» الذي وجده كونش قبلا لدى نيتشه ومونتنييه. لكن،( تضيف أوروزكو بحق) أن حساسيتها ليست لهما»([5]). إلا أن هناك أكثر من ذلك، الذي يمس المزاج أقل مما يمس الفكر، الحساسية أقل من الأخلاق([6]). فمارسيل كونش، ودون أن يجعل من الرأفة –على عكس أرسطو- مفارِقة للمأساة بشكل نوعي، يرفض –على عكس نيتشه- إدانتها. ففي مؤلفه الصغير Lucrèce الذي كتبه سنة 1967، أوضح كيف تنشأ الأخلاق، حسب الأبيقوريين، من الأسرة، وبالتحديد من «قدرة الأقوياء» (الوالدين) على «خدمة الضعاف([7])»(الأطفال). خمسة عشر سنة، بعد سرد هذه السطور من أسس الأخلاق، أضاف قائلا: «لنقل، بشكل عابر، أن هذا يدفع على النقيض إلى التفكير في نيتشه و الإشارة إلى بعض أخطائه([8])». سنجد نفس الموقف، بعد أربعين سنة، في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب نيتشه والبوذية: «الرأفة هي قيمة»، التي أبعدت كونش عن نيتشه وقربته من بوذا([9]). فلدى مارسيل كونش «حنية تجاه الضعفاء»([10]) وحساسية تجاه مآسيهم التي تمنعه ليس فقط ليكون نيتشويا، فهذه ليست مشكلته، بل أيضا ليجعل من الفرح –عكس مونتينييه هذه المرة- «العلامة الأكثر تعبيرا عن الحكمة»([11]). دعونا نستشهد بالنص، الذي هو في نفس الوقت نص الهامش الأخير، و أيضا الأسطر الأخيرة، من الفصل السابع من التوجه الفلسفي:

«قد يسألنا سائل «هل الحكمة المأساوية حكمةُ فرحٍ؟» ماذا أقول؟ في زمننا ثمة مآسي إنسانية شديدة، ستكون معها حكمة الفرح شيئا غير ملائم و على النقيض. هي ليست مسألة ابتهاج وفرح، بل فقط مسألة وجود وعيش، وبالتالي (ولأن الإنسان في نهاية الأمر يعيش بالكلمات) مسألة تفكير بطريقة تكون بها لهذه الكلمات دلالة (نقصد: ملأُ الفراغ بالمعنى الذي تولدت معه الحاجة إلى الفلسفة). بطبيعة الحال لا يتعلق الأمر بمضاعفة الحزن. فمفهوم السعادة المأساوية تتجاوز ثنائية فرح-حزن. إنه يترجم بالأحرى الطريقة التي يحس بها الحكيم المأساوي قوته الخاصة (أي قوته الداخلية في التفكير)([12]) .»

 

هذا الرابط يحملك لقضايا فلسفية

هنا نرى أن مارسيل كونش يتعارض مع جيل دولوز و كليمون روسيه، اللذان يريان أن «المأساة هي بشكل مباشر سعيدة» (دولوز([13]))، كما يشكل الفرح، و المسرّة والغبطة «التيمة المركزية» للمأساة بصفة عامة و «للفلسفة النيتشوية» بشكل خاص (روسيه([14])).

 

زيادة على ذلك. المأساة لدى كونش ليست فقط أقل سعادة، أو بهجة أو غبطة من مأساة نيتشه، بل هي أيضا أكثر جذرية. ذلك أن نيتشه، كما هو الحال بالنسبة لهيراقليط، قد «أخطأ التراجيديا»([15]). كيف يمكن ذلك، وقد تم استعارة فكرة «التثبيت الكلي» عنه بشكل صريح؟ الجواب بسيط: أن فكرة التثبيت الكلي لا تكفي لتمييز المأساة. لابد من تثبيت الكل في أفق الزمن والموت، وهذا ما يميز كونش عن نيتشه. صحيح أن المأساة، بالنسبة لمارسيل كونش، تتطلب تثبيت (تأكيد) الكل، لكنها أيضا وقبل كل شيء التأكيد العيني كون الزمن، كقوة تحلُّلية، وبالتالي الموت، لهما الكلمة الأخيرة. يقول مارسيل كونش: «يتحدد الفكر المأساوي حقا في كون أن من له قيمة أكثر هو الذي، حتما، يكون محكوما عليه أيضا بالهلاك»([16]). هذا التثبيت، الذي نجده مرات عديدة في عمل مارسيل كونش، يؤدي إلى حقيقة أن هناك، بالنسبة لكل فيلسوف، ثلاث طرق رئيسية للانفلات من المأساوي:

-           «وسم القيمة الأكثر علوا كخاصية لما لا يهلك: الروح، العقل، الفكر، الله»، على مثيل ما تقوم به ال«أشكال المختلفة من الروحانية والمثالية»، وكما يقوم به هيراقليط نفسه أيضا، الذي «لم يبلغ درجة المأساة الأكثر راديكالية، لأن ماله قيمة كبرى بالنسبة له هو الـلوغوس، فهو الأبدي»؛

-      «إنكار قيمة ما يدمره الزمن»: وهو ما يسميه مارسيل كونش «العدمية»؛

-           لكن أيضا «إخفاء الطابع العابر للوجود، من خلال إعطاء، مثلا، الخلود لما مر وما يمر من أحداث مِن خلال فكرة العود الأبدي»([17]). هنا يكمن، بحسب مارسيل كونش، الفعل الفلسفي لنيتشه. فهذا الأخير يقوم بالفعل ب«هروب مزدوج نحو المستقبل ونحو الخلود»: «نحو المستقبل، ما دام الإنسان الخارق يساعده على تقديم «معنى» للوجود الإنساني الحالي» و«نحو فكرة الخلود، ما دامت فكرة العود الأبدي تتعارض وطابع الزوال للوجود»([18])

(... يتبع)

 المأساة حسب مارسيل كونش (ج3) من هنا



المصدر

https://www.cairn.info/revue-l-enseignement-philosophique-2015-4-page-44.htm

الهوامش

[1] - لم يتم ذكره إلا للحظة واحدة فقط، في الصفحة 173 أو 192، كمستشهد بهيراقليط.

[2] -Orientation philosophique, p. 1 6 0 ou 1 7 9 .

[3] -G. Deleuze, Nietzsche et la philosophie, I, 8 , PUF, 1 9 6 2 , rééd. 1 9 7 7 , p. 1 9 -2 0  («المأساوي هو الفرح»). C. Rosset, La Force majeure, Minuit, 1 9 8 3 , p. 2 4 et suiv. «البديل هو هنا بسيط وحاسم –وأضيف أنه يشكل في نظري، حتى إشعار آخر، المسألة الأكثر جدية التي كان على الفلسفة أن تتعامل معها على الإطلاق. إما أن الفرح يشكل الوهم الزائل بزوال مأساة الوجود: في هذه الحال لا يكون الفرح متناقضا ولكن وهمي. وإما أنه يدعم الوجود باعتباره مأساويا لا يقبل الإصلاح: وفي هذه الحال الفرح متناقض وليس وهميا. من غير مستغرب أن أعطي من جانبي الأفضلية للبديل الثاني، مقتنعا ليس فقط بأن الفرح يفلح في التكيف مع المأساة، بل أيضا وعلى الخصوص أنه لا يتمثل إلا في ومن خلال هذا التوافق المتناقض معه». انظر أيضا ibid., les « Notes sur Nietzsche », spécialement aux p. 4 2 -4 3 .

[4] - Cf. la note de la p. 1 8 3 ou 2 0 4 (التي أذكر أذناه).

[5] - P. Sanchez Orozco, « Sagesse tragique et métaphysique dans la philosophie de Marcel Conche », Revue philosophique de la France et de l’étranger, PUF, 2 0 0 4 , n° 1 , p. 6 9 à 7 5 (p. 7 1 pour l’expression citée).

[6] - وهو ما لم يفت بيلار سانشيز اوروزكو: المقال المذكور، ص 71.

[7] - Lucrèce et l’expérience, Seghers, 1 9 6 7 , p. 8 4

[8] - Le Fondement de la morale, Mégare, 1 9 8 2 , rééd. PUF, 1 9 9 3 , p. 2 2 (la pagination est la même dans les deux éditions).

[9] - Nietzsche et le bouddhisme, 2 e édition, 2 0 0 7 , p. 1 6 . Voir aussi p. 5 4 -5 5. «نيتشه مخطئ بشأن قيمة الرأفة»

[10] - Lucrèce et l’expérience, p. 8 4 ; Le fondement de la morale, p. 2 2 .

[11] - Essais, I, 2 6 , p. 1 6 1 de l’éd. Villey-Saulnier, aux PUF.

[12] -في الهامش Orientation philosophique, p. 1 8 3 ou 2 0 4 , .

[13] - Nietzsche et la philosophie, op. cit., p. 2 0 .

[14] - « Notes sur Nietzsche », 1 , La force majeure, op. cit. p. 3 5 .

[15] - Orientation philosophique, p. 1 7 6 ou 1 9 6 .

[16] - Ibid.

[17] - Ibid.

[18] - Ibid., p. 1 7 7 ou 1 9 7 -1 9 8 .

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-