أخر المقالات

البيداغوجية وعلوم التربية: علاقة صعبة (ج 2)

 



                                       جون هوساي

 

رابط الجزء الأول من هذا المقال منهنا

من البيداغوجية إلى علوم التربية: سرد تاريخي

لنحاول أولا فكّ خيوط هذا التشابك بتتبع التطور التاريخي. في العصور القديمة والقرون الوسطى، كان واضحا أن الإشكالات التربوية طُرحت فقط في إطار فلسفي ولاهوتي (Marrou,1948). لم يكن طرح هذه الإشكاليات ذات استقلالية خاصة و، حتى إن كان لها أهمية، فهي ليست ذات أولوية. لكن هذا لا يعني  أنها لم تكن مثيرة. سيمكننا، بكل يسر، التأكد من ذلك من خلال الاطلاع على ما كتبه المؤلفون الكبار لهذه الفترات (Riché, 1979). لكنه من الواضح أن البيداغوجية، ولمدة طويلة، قد أُدرجت بشكل مباشر ضمن المبحث الفلسفي وتُقدَّم على أنها، بشكل ما، عنصر غير منفصل عن الفلسفة واللاهوت. ستتغير الأمور في عصر النهضة: فقد غدَا من الممكن جعل المسألة التربوية وحقلها التأملي والعملي ذات استقلالية. إذ من خلال تشجيع البحث الحر ومعانقة التراث الإنساني المشترك المتأصل في الإنتاج المكتوب خلال العصور اليونانية واللاتينية القديمة، نجح عصر النهضة في اظهار ولهٍ شديد بالقضايا التربوية. سيتجلى هذا، من جهة، في وفرة الإنتاج البيداغوجي، وغناه وتنوعه، و، من ناحية أخرى، بتسريع عملية إنشاء المؤسسات التعليمية على مختلف مستوياتها وأنواعها في معظم الدول. فكانت البيداغوجية بمثابة نظرية منهجية ومحدِّدة لعمل التربية وأسسها. بل إن كلمتا التربية والتعليم كلتيهما ستبدوان، في هذه الفترة، متماثلتين. لكننا لا نقول مع ذلك أن البيداغوجية أو التربية قد ولدتا خلال عصر النهضة. دعنا نفترض بكل بساطة أنهما قد شكلتا أكثر فأكثر مجالا معترفا به ومستقلا عن مجموع الميادين المعرفية. ومن ثم فالدافع التربوي ينبع لدى الجميع، متفائلين أو متشائمين، من إعلان إمكانية تكوين الإنسان وقيمه.

سترفع الحداثة من وثيرة هذه الحركة بشكل كبير. فروسو بطوباويته الطبيعانية (1762)، والموسوعيون باهتمامهم المستنير بتقاسم المعارف، وآخرون ممَّن ألهموا ثوارا ومصلحين طمحوا إلى ترك البيداغوجية الإنسانية للقرون السابقة واستبدالها بتربية مُوسّعة، قادرة على إعداد الإنسان لتحمل مسؤوليته الاجتماعية. هذا ساعد على نشر فكرة أساسية تكمن في مسؤولية الدولة على الشؤون التربوية، ستؤدي هي الأخرى إلى نشأة مؤسسة التربية الوطنية. هذا سيمكِّن من قيام تحالف بين التربية، والتقدم والمؤسسة.

اقرأ أيضا: التربية والثقافة أو مسألة المعنى فيعالم إستشكالي

قبل ذلك لابد أن يكون التقدم والتربية متتساوقين. نقطة التقاطع هذه سيحدثها فعليا القرن الثامن عشر (Texier 1985). و الفلسفة هي التي ستؤدي، مرة أخرى، إلى هذا التطور. منذ ذلك الحين ستسير التربية والتقدم جنبا إلى جنب، شاهديْن على الاهتمام ببناء تصور عن إنسانية العقل وعقل الإنسانية، رابطيْن في ذات الوقت بين ما هو فردي وما هو تاريخي. وغَدَا التقدم، دون أن يكون خطيا ولا ضروريا، يوجّه معنى الإنسانية ومعنى التربية، أقصد معنى التربية الضرورية للإنسانية. إنْ أصبح هذا ممكنا وقابلا للتفكير فيه، فلأن في صميم الأفكار التربوية للقرن الثامن عشر تمركزت فكرة أساسية وهي: القابلية للاكتمال perfectibilité (يتم اليوم الحديث عن القابلية للتربية). وعلى غرار التسامح، وحرية الفكر ومكافحة العبودية، ستصبح قابلية الاكتمال جزءا من عُدَّة الفلاسفة والبيداغوجيين. فبَدت على أنها، في نفس الوقت، السمة الإيجابية للطبيعة الإنسانية وعلامةً على عدم كفايتها.

التعليم الشامل، الإنسانية المتكاملة، الحرية الموعودة، المساواة المطلوبة... عناصر لن يكون القرن الثامن عشر معها في سياق الانفتاحات وأشكال العظمة. لقد كان هذا القرن، في مجال التربية، بمثابة نقطة تحول رئيسية، ما دامت الأفكار السائدة التي ولَّد، ودافع عنها وشجعها (بيداغوجية، سلطة التربية، تقدم، أولوية الحواس، قابلية الاكتمال) قد سمحت ببناء جوهر الحداثة نفسها. تظافُر العمل بين الفلاسفة والبيداغوجيين سيسمح بهذا البناء إبان القرن الثامن عشر، في خطوة تشبه الصراع والأمل. سيتم ربح رهان هذا الصراع. لذا ستتمكن الحداثة، في القرن لتاسع عشر، من ترك وضعية الانبناء نحو ازدهار مشهودٍ. وسيتحول الأمل إلى حقيقة ملموسة (Gauthier, Tardif, 1996).

القرن التاسع عشر قرن بيداغوجي بالأساس. قد فكّر القرن الثامن عشر كثيرا، بينما حقق القرن التاسع عشر عمليا الكثير. هيمنة الفلاسفة ورجال الدين كانت أقل قوة، في حين كانت هيمنة السياسيين ورجال التربية أكثر وضوحا. وقد وجدت البيداغوجية نفسها، في غالبيتها العظمى، بنتا للدولة وللعلم، وذلك بعد أن كانت بنتًا للدين والفلسفة. سيفرض مصطلح البيداغوجية نفسه على الساحة التربوية، بعد أن ساد الحديث عن التربية العقلانية بداية القرن، وبدأ يدل على تربية قائمة على القوانين العقلية، وعلى العلم السيكولوجي (بالمعنى الواسع لمصطلح علم النفس). ستتحول البيداغوجية إلى علمٍ بيداغوجي، إلى علم للتربية. وحتى يصبح المدرسون، بالخصوص، معلمين حقيقيين، وفعليين و فعالين للأطفال، بات عليهم الارتقاء، في نهاية المطاف، إلى درجة مهنيين تربويين بفضل المعرفة البيداغوجية (وبفضل القيم الجمهورية).

اقرأ أيضا: معنىالمدرسة

من المنطقي أن البيداغوجية، وكما يقول جون شاتو، كانت تحت رحمة علم النفس. فهذا الأخير، وهو يكشف عن القوانين الطبيعية الإنسانية، يقدم في نفس الوقت الوسائل الواجب توظيفها للتصرف على الوجه الأحسن، بشكل علمي وأخلاقي. إن الممارسة التربوية الجديدة، بعد أن قطعت مع مرحلة التجريب القائم على المحاولة والخطأ، ومع الأساليب العقائدية والخرافات الدينية، من المفترض أن تصبح عقلانية، قابلة للإثبات ومنظمة من قبل العلم. وعلى هذا فإن علم النفس والبيداغوجية مترابطان إلى حد كبير: فالسيكولوجية، باعتبارها نظرية للممارسة البيداغوجية، لا تنفصل عن البيداغوجية التي هي، بدورها، تطبيق للقوانين السيكولوجية. لا غرابة أن تتم مأسسة هذين ال«علمين» في نفس الفترة تقريبا في فرنسا: ففي سنة 1887 ألقى ماريون «محاضرة في علم التربية» بجامعة السربون؛ وتأسس سنة 1889 «مختبر علم النفس» بمدرسة الدراسات العليا في باريس. إن البيداغوجية، بعد تؤكد علم النفس من صلاحيتها، كانت بمثابة الضامنة لعلم النفس باعتبارها الأرضية المناسبة للملاحظة، وأنها بعيدة عن كل التجريدات الميتافيزيقية، والتكهنات الفلسفية والسكولائية الفارغة. وقد حاول دوركهايم، أب علم الاجتماع، جاهدا انتزاع البيداغوجية من علم النفس الروحاني، لكنه طالب هو الآخر كذلك بعلمٍ للنفس أكثر علمية يقف إلى جانب علم الاجتماع بغرض تأسيس البيداغوجية (Durkheim, 1985). وكان على البيداغوجية التجريبية والتربية الجديدة، فيما بعد، بداية القرن العشرين، أن يكون لها حضور واسع حتى تكون البيداغوجية قادرة على المطالبة بوضعية مستقلة مقارنةً بالتخصصات الأخرى والعلوم التي أصبحت علوما إنسانية.

باعتماد حكومات القرن التاسع عشر الأوروبية للتحولات الاقتصادية والسياسية، سيطبقون على أرض الواقع أفكارَ القرن الثامن عشر. بذلك أصبحت التربية شأنا يخص الدولة إلى حد كبير. فمن خلال المشروع الحكومي، بلورت الدولة، ونظمت وأطرت برامج مدرسية. على أي أساس؟ على أساس الفعالية و الكفاءة. كيف يتم تحقيقها؟ من خلال إقامة التربية على معايير ثابتة و نهائية. من أين يمكن الحصول عليها؟ انطلاقا من المبادئ العلمية والعالمية المأخوذة من الطبيعة الإنسانية. من ثمة تكون التربية قد وفت بمعيار الحقيقة، لكونها تتأتى من نظام ثابت، أي الطبيعة، التي يمكن للبيداغوجيين فحصها وإعادة تنظيمها. إن وجود نظام مدرسي متين، يستند إلى بيداغوجية علمية، من شأنه، كما يقال، تعزيز الازدهار المستقبلي الذي يمنح الحياة للعديد من اكتشافات القرن.

تابع الجزء الثالث من هذا المقال بالضغط هنا 

  

المصدر

Jean Houssaye. Pédagogie et sciences de l’éducation : pas facile ! Les Sciences de l’éducation - Pour l’Ère nouvelle, vol. 52, no 2, 2019, pp. 11-27. ISSN 0755-9593. ISBN 978-2-918337-38-6.

المراجع

Altet M. La formation professionnelle des enseignants. Paris : PUF, 1994.

Bain A. La science de l’éducation. Paris : Alcan, 1894.

Bourdieu P. & passeron J.-C. La reproduction. Eléments d’une théorie du système d’enseignement.   Paris : Éditions de Minuit, 1970.

Castoriadis C. L’institution imaginaire de la société. Paris : Seuil, 1975.

Chalmel L. Le pasteur Oberlin. Paris : PUF, 1999.

Charlot B. Les sciences de l’éducation : un enjeu, un défi. Paris : ESF, 1995.

Château J. Pour une éducation scientifique. Revue française de pédagogie, 1967, n° 1, pp. 9-16.

Comenius. La grande didactique. Pari : Éditions Klincksieck, 1992 (1949).

Cousinet R. Une méthode de travail libre par groupes. Paris : Fabert, 2011 (1945).

De Corte E. et al. Les fondements de l’action didactique. Bruxelles : De Boeck Université, 1979.

Dehaene S. Apprendre ! Les talents du cerveau, le défi des machines. Paris : Odile Jacob, 2018.

Deligny F. Graine de crapule. Paris : Éditions du Scarabée, 1960 (1945).

Dewey J. L’école et l’enfant. Paris : Fabert, 2004 (1970).

Durkheim E. Nature et méthode de la pédagogie. In : Durkheim E. Éducation et sociologie. Paris : PUF, 1985.

Fabre M. Penser la formation. Paris : Fabert, 2018 (1994).

Freinet C. L’imprimerie à l’école. ICEM, 1927.

Freire P. L’éducation : pratique de la liberté. Paris : Éditions du Cerf, 1967.

Gauthier C. & Tardif M. (Dir.). La pédagogie. Théories et pratiques de l’Antiquité à nos jours. Montréal : Gaëtan Morin éditeur, 1996.

Hameline D. Courants et contre-courants dans la pédagogie contemporaine. Sion : ODIS. 1986.

Houssaye J. (Dir.). Quinze pédagogues. Paris : Fabert, 2013 (1996).

Houssaye J. « Révolution, professionnalisation et formation des maîtres ». Education et révolution. Colloque international francophone. Suisse : Yverdon-les-Bains, 2010.

Houssaye J. « Présentation ». Nouveaux pédagogues. Pédagogues de la modernité. Paris : Éditions Fabert, 2007.

Houssaye J. Spécificité et dénégation de la pédagogie. Revue française de pédagogie, 1997, n° 120, pp. 83-97.

Houssaye j., Fabre M., Soetard M. & Hameline D. Manifeste pour les pédagogues. Issy-les-Moulineaux : ESF, 2002.

Huberman M. La recherche sur la formation. Quelques hypothèses provocatrices. Recherche et formation, 1987, n° 1, pp. 11-25.

Korczak J. Comment aimer un enfant. Paris : Robert Laffont, 1978.

La salle J.-B. (de). Conduite des écoles chrétiennes. Cahiers Lasalliens, 1720.

Marrou H.-I. Histoire de l’éducation dans l’Antiquité. Paris : Le Seuil, 1996 (1948).

Meirieu P. La pédagogie entre le dire et le faire. Paris : ESF, 1995.

Oury F. & pochet C. Qui c’est l’Conseil ? Paris : Maspéro, 1979.

Pestalozzi J.-H. Lettre de Stans. Yverdon : Centre Pestalozzi, 1985 (1979).

Piaget J. Le langage et la pensée chez l’enfant. Neuchâtel : Delachaux et Niestlé, 1923.

Riche P. Les écoles et l’enseignement dans l’Occident chrétien. De la fin du ve siècle au milieu du xe siècle. Paris : Aubier Montaigne, 1979.

Ricoeur P. La raison pratique. In : Ricoeur P. Du texte à l’action. Essais d’herméneutique. II. Paris : Seuil, 1986.

Rousseau J.-J. Émile ou De l’Éducation. Paris : Bordas, 1962 (1762).

Texier R. « L’idée de perfectibilité en éducation au xviie siècle ». Éducation et pédagogie au siècle des Lumières. Angers : Presses de l’UCO, 1985.

 

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-