أخر المقالات

سبينوزا والاسلام: «الاستبداد» و«الطاعة الطبيعية» (ج:3)

 



يوسف دجيدي

 

رابط الجزء الثاني: سبينوزا، العلاقة بالإسلام: من أمستردام إلى الأندلس


 

 

نعلم وجهة نظر اسبينوزا المتشددة في موضوع الاستبداد، المتجسد في رأيه في النموذج السياسي التركي والذي نبهت مقدمة الرسالة اللاهوتية والسياسية إلى حماية الهولنديين منه. لقد أشاد فيلسوفنا، مثلما فعل ديكارت كذلك، بهذا الشعب الذي كان ينعم «بسعادة نادرة [...] في العيش في ظل جمهورية، تعطى فيها حرية واسعة إما للحكم عن الله أو تكريمه وذلك بحسب الطبيعة كل واحد، وحيث يحظى كل واحد بحرية هي بالنسبة إليه أعز وأسمى مكتسب».   

[هذا في الوقت الذي] تكمن أكبر أسرار النظام الملكي ومصلحته الرئيسية في خداع الناس و السيطرة عليهم ببث الخوف المغلف بهالة الدين، فيقاتل الناس من أجل حماية عبوديتهم كما لو كانت حريتهم، ويعتقدون أن ذلك غير مخجل، بل شرفا كبيرا يدفعهم لسكب دمائهم وزهق أرواحهم من أجل رجل واحد.

وحتى وإن لم تتضمن هذه الفقرة بصورة مباشرة –وليس هذا بضروري- الأنظمة الإسلامية، فإن الأسطر التي تسبقها في نفس المقدمة لا تدع مجالا للشك. والواقع أن الاستبداد وخادمته الخرافة، بالنسبة لسبينوزا، « لم يكن لهما أثر أكبر مما كان في بلد الأتراك حيث يعتبر النقاش وسيلة لتدنيس المقدس، و ترهِق كثير من الأحكام المسبقة الحكم، وأن العقل الراجح لم يعد له مكان في الروح وأن الشك نفسه لم يعد ممكنا». فمكيافيلي، مثلا، صاحب الأفكار الثاقبة([1])، والذي كان اسبينوزا يمتلك أعماله الكاملة([2])، أكد، دون أن يضيف جديدا، «أن النظام الملكي في تركيا الكبرى يحكم بنفسه لوحده. الباقون كلهم عبيد([3])».

غير أن الخطاب النقدي لسبينوزا سيتجاوز هذا الحد في رسالته إلى يعقوب أوستين، التي يدافع فيها عن نفسه من هجمات لامبرت فيلتايسن على الرسالة اللاهوتية والسياسية، التي، حسب هذا الأخير، تهدم كل عبادة، كل دين وكل كتاب مقدس، بإقحام القدرية بشكل قطعي ومبسط و، أنها إن لم تصل حد ال«إلحاد مبطن»، فهي على الأقل تدعو إلى نسبوية دينية. فبالنسبة لفيلتايسن، ووفقا لتأكيدات الرسالة اللاهوتية والسياسية،

يمكن اعتبار القرآن كلام الله. والواقع أن المؤلف لا يملك أية حجة لإثبات عدم أحقية محمد في النبوة، مادام الأتراك أنفسهم، انطلاقا من أحاديث نبيهم، يحافظون على فضائل أخلاقية لا يشك في مصداقياتها أحد. كما يرى المؤلف، من جهة ثانية، أن الله غالبا ما يقود، عبر آيات أخرى، إلى استخدام العقل والطاعة أُمَما لم تستفد من أشكال الوحي الذي نزل على اليهود والمسيحيين([4]). 

 

اقرأ أيضا: الفلسفةالفرنسية و التربية

 

إجابة اسبينوزا هي أكثر إثارة للدهشة من كونها مُحرَجة، بل و يبدو أنها تبطل الفكرة التي ترى أن «عدم اهتمام» الفيلسوف «بالعقائد يثبت أيضا رفضه لها جميعها؛ سواء تعلق الأمر بالمسيحيين أو اليهود، الأتراك [المسلمين] أو الوثنيين([5])». وفي نهاية المطاف، تمكن من استنباط تلميحات فيلتايسن بسهولة، خصوصا المتعلقة منها، على الأقل، بالنسبوية الدينية. ومع ذلك فإن اسبينوزا يدافع عن نفسه كون «متًهِمهُ يقدم تفسيرا جد خاطئ» « بدافع الحقد أو عن جهل» لتطور أفكار كتابه ويعترض، عكس كل التوقعات([6])، أن العكس تماما هو ما يقترحه مذهبه ويعلن بوضوح تام أنه «يستخلص بكل جلاء أن محمدا محتال»، لكونه «يقمع [...] تماما الحرية التي تقر بها الديانة الكاثوليكية التي أوحي بها إلى النور الطبيعي وباقي الأنبياء، وأثبتت ضرورة الاعتراف بها». ويضيف فيلسوفنا:

لكني أتساءل هل من الضروري علي أن أثبت أن نبيا، حتى إن لم يكن محتالا، كان كذابا؟ على العكس من ذلك، الأنبياء هم أحق من الدفاع عن أحقيتهم في النبوة. قد يقول قائل أن محمدا قد بث هو الآخر في الناس قانونا إلاهيا وقدم آيات نبوية أكيدة، كما فعل باقي الأنبياء، حينها لا سبيل لإنكار حقيقة نبوة محمد. أما بالنسبة للأتراك وباقي الأمم، إن كانوا يعبدون الله بمحبة الحق والإحسان لذي القربى، فإني أعتقد أن روح المسيح تغمرهم وأنهم أُثيبوا، كيفما كان اعتقادهم، عن جهالة، في محمد وما أُحي له([7]).

صحيح أن اسبينوزا، المؤيد القوي لحرية المعتقد، لا يمكنه أن يستوعب أي سلطة سياسية أو دينية لا تعترف أولا بهذه الحرية. ومتاعبه مع السلطات الحاخامية في بلاده معروفة جدا لا يستدعي الأمر العودة إليها. لكن مشاكله لم تكن محصورة مع اليهود وحدهم، فهو، على الرغم من صلته بالمذهب الكلفاني، لم يتوقف أبدا عن إدانة حجم الأخطار التي شكلتها الكنيسة على الدولة وحرية المعتقد. ولعل أن واحدا من الأسباب التي أدت إلى بلورة تصوره حول الرسالة اللاهوتية والسياسية، كما أسر بذلك هو نفسه لأولدنبورغ، قد كان بالضبط ال«رغبة في الدفاع بكل الوسائل الممكنة عن حرية الفكر والكلام التي تهددها السلطة الواسعة جدا المسموح بها للرهبان ولغيرتهم، باستعمال القمع في هذا البلد([8]

 

اقرأ أيضا: ترجمة المصطلحات الفلسفية

 

نتفهم مخاوف اسبينوزا من تفرد كل ديانة بالحرية، «ما دام أنه صحيحا أن جميع رجال الدين، وثنيين كانوا أم يهود أم مسيحيين أم محمديين [مسلمين]، هو حريصين على سلطتهم من كل انصاف وقول حقيقة وأنهم جميعا تحركهم نفس روح الاضطهاد([9])». فيما يتعلق بالإسلام كان من الممكن، بالفعل، أن لا نرى في رسالته لأوستن سوى مراوغة بسيطة يمليه اتخاذ الحذر –وهذا بالفعل ما أوصى به الفيلسوف مراسله-، لو لم يكن هناك مقطع، في رسالة أخرى، يؤكد الرؤية السلبية للغاية للفيلسوف تجاه الدين الإسلامي.

الرسالة المقصودة هي التي رد بها على رسالة جاءته من فلورنس، من تلميذه السابق ألبير بورغ([10]). يخبره الشاب أنه «برحمته تعالى الواسعة، عدت إلى الكنيسة الكاثوليكية وأصبحت عضوا فيها». ثم أتبع ذلك بمحاكمة طويلة بنبرة جد ملتهبة في حق «الرجل التعس الذي لعبت برأسه شياطين قوية»، «وثنية»، «عديمة الرحمة»، والتي تستحق هي نفسها الرحمة ك«الكلفانيين، أو الذين يسمون بالإصلاحيين، [...]، مناصري لوثر، مينوناتيين، وسوسينيانيين، الخ»، وهم «كما هو حالكم في مملكة يخيم فيها ظل الموت». 

أما بالنسبة لليهودي، الذي ارتد عن دينه حديثا، وباعتبار أنه يعلم بطبيعة الحال أن أستاذه السابق من أمته –ويعرفه أيضا بالتأكيد غير مهتم بمصيرها-، فهو يدعوه بالطريقة الأكثر وقاحة أن يقدِّر

كذلك العقوبة الرهيبة والقاسية لدرجة لا تتصور التي حطت بقدر اليهود إلى أدنى درجة من البؤس، وذلك لكونهم صلبوا المسيح. تصفح، اِبسط أمامك، تمعن التاريخ العالمي، لن تجد مجتمعا كان له نفس الغنى مثل هذا المجتمع ولو في الأحلام.

لكن ماذا عن الإسلام؟ لا شيء تماما. يمكن استثناء جملة عابرة وذات مسحة ساخرة تؤكد أن «القسطنطينية هي عاصمة إمبراطورية تركيا». ولا حتى عندما يسمح المجال بذلك، مثلما هو الحال بالنسبة للمقطع الذي يمدح فيه العقيدة المسيحية المنتشرة بشكل متزايد بفعل عمل الجمعيات الخيرية، «وليس بهدير السلاح، وقوة الجيوش العديدة وتدمير الأراضي، وهي السبل التي يوسع بها أمراء العالم مستعمراتهم».

 

اقرأ أيضا: هل من حاجة إلى الفلسفة؟

 

لا يبدو هناك ما يبرر، منذ الوهلة الأولى، التغاضي عن الإسلام، ولنا كامل الحق أن نستغرب إجابة سبينوزا هذه:

أدرك ميزة النظام السياسي الذي شيدته الكنيسة الرومانية [...]؛ لكني لم أكن لأعرف النظام الأكثر قدرة على خداع الجمهور والهيمنة على النفوس لو لم توجد الكنيسة [المساجد] الإسلامية التي، من هذه الناحية، تفوق كل الأخريات؛ فمنذ بدء هذا المعتقد، لم يتم، بالفعل، تسجيل أي انشقاق بمساجده([11]).

وددنا لو عثرنا على البيِّنة التي تدعي فرانسواز شارل دوبر، في مقالها عن «سبينوزا والزنادقة»، العثور عليها في التقنية التي اعتمدها الفيلسوف في وجه خصمه:

عن تهمة اعتبار محمد نبيا حقا والقرآن كتابا مقدسا، «أجاب سبينوزا بطريقتين. أولا بالتأكيد وبوحشية أنه لم يفعل شيئا سوى إظهار أن محمدا كان دجالا. إنها لصياغة كانت شائعة، أرثوذكسية بالنسبة لفكر الحقبة، لكن أيضا مستفزة بشكل رهيب، وذلك لأن الصياغة تستحضر بشكل طبيعي أطروحة الدجالين الثلاث، حتى وإن كانت لا تتماشى وموضوع الرسالة اللاهوتية والسياسية». 

الحق أننا لا نجد سببا واضحا لحضور أطروحة الدجالين الثلاث في رد سبينوزا على فيلتايسن.

لكن ماذا لو سلمنا أن هذا هو حقا مسترسلات رده، وأنه لم يتبع حينها الحجة المترتبة عنها؟ لعله بهذه الطريقة كان سيدمر الإسلام وبقية الديانات وينعت جميع الأنبياء بالدجالين؛ أو أنه سيتبنى صراحة النهج الربوبي الذي يبدو أن فرانسواز شارل  دوبر قد اكتشفته في بقية رده، عندما

ينتهي أخيرا، وهو يوبخ نفسه، إلى عدم الاهتمام بالأديان –المعتقدات والمذاهب- طالما أنها تنشر تعاليم العدل والإحسان، وهو بالضبط ما ينتقده فيه خصمه. هذا ما يجعله يتمسك بوجهة نظره ويجعله ضحية النقد المتمثل في عدم المبالاة بالمعتقدات و الطابع الذي يجعل الأديان متماثلة، مادامت أنها تضمن الفضيلة، مما يجعلها قريبة فعليا من الخطابات الربوبية.

الحقيقة أن هجوم لامبر دو فيلتايسن كان مركزا بشكل دقيق، وبالتالي كان يتطلب من اسبينوزا ردا قويا. نرى هنا مدى محدودية «الحياد القيمي» الذي أشار إليه كارل ياسبيرز كسمة مشتركة بين اسبينوزا و فيبر([12]).

 

اقرأ أيضا: كانط: نقد، تربية، سياسة

 

لابد من الاعتراف أن اسبينوزا، في معالجته لمفهوم النبي، ارتبط بنموذج كتابي انجيلي صارم، ميز فيه، كما يقعّد ذلك الكتاب المقدس، بين النموذج المتحقق للرسول، ونقصد به موسى، الذي كلمه الله «جهرة»، ونموذج باقي الرسل، النبيئين، الذين كانوا مجرد مؤولين لكلام الله، ويمتلكون مع ذلك معرفة طبيعية([13]). سيتم تفجير هذا النموذج بشكل مضاعف من خلال توسعة العهد الجديد المتمركز حول شخصية المسيح. فهذا الأخير «قد أُرسل [بدءا] هداية لا لليهود وحدهم، وإنما للناس أجمعين([14])»؛ ثم بعد ذلك تلقى، وهو المزود بروح «تفوق بكثير الروح الإنسانية»، الوحي الإلهي «بشكل مباشر، دون كلام ولا رؤى([15])»، «من روح إلى روح». إذ «لم يكن المسيح نبيا وإنما كلمة الله([16])» حسب اسبينوزا.

لكن ما المكانة التي يخصها اسبينوزا لصاحب الدعوة الإسلامية؟ إنها بالتأكيد نفس المكانة التي تعطيها له الديانتين المسيحية واليهودية، أي «نبي كذاب». وقد سبق لإخوان اسبينوزا اليهود أن اتهموا محمدا بالمدينة المنورة بكونه «مجنون([17])»، هاجم وسخر من العهد القديم([18]). وبعد مرور قرون عديدة، ولم يستعمل حاخامات آخرون، كابن ميمون مثلا([19])، تعبيرا آخر غير «مجنون» لوصف نبي الإسلام. وباصطلاح اسبينوزا لا هذا يعني حرمان محمد من المعرفة والعقل السوي. هذا بالفعل ما عبر عنه الفيلسوف في أفكار ميتافزيقية، حيث يستبعد القرآن والتلمود لكونهما بحسبه يفتقران للنور الطبيعي([20])، الذي نجده لدى أنبياء الإنجيل. ولهذا السبب جعل اسبينوزا من محمد نبيا كاذبا والإسلام «خرافة» منتشرة ظلت، مع ذلك، ثابتة منذ بزوغها.

هل كان اسبينوزا يجهل حتى وجود مذاهب في الإسلام، كما اعتقد بذلك البعض([21])؟ احتمال ذلك جد ضعيف؛ ويكفي أن نستشهد فقط بدلالة الحائرين، ، لتقديم صورة عن هذا الأمر. فهل كان يجهل بوجود مذهبين متمايزين في الإسلام، كل منهما يشمل مذاهب فرعية عديدة؟ الواقع أن ما ألمح إليه اسبينوزا، باعتباره هولنديا حقيقيا، و أحيانا مؤمنا ببروتستانتية راديكالية([22])، هو تلك الانقسامات المؤدية للقطيعة، كما حدث تماما مع الإصلاح الديني. وفي نهاية المطاف، ألم يتأسف المصلح جمال الدين الأفغاني عن عدم وجود لوثر آخر في الإسلام؟

 

 



المصدر

 Djedi, Y. (2010). « Spinoza et l’islam : un état des lieux ». Philosophiques, 37(2), 275–298. doi:10.7202/045184ar

الهوامش

[1] - Traité politique, IV, § 7 ; X, 1

[2]  - A. J. Servas van Rooijen , op. cit., pp. 145-146

[3]  - Le Prince, IV

[4]  - Lettre XLII (déjà citée)

[5]  - Ch. Appuhn, in op. cit., p. XVI

[6]  - Cf F. Charles-Daubert, « Spinoza et les Libertins — Le Traité des Trois imposteurs ou L’esprit de Spinoza », in R. Bouveresse-Quilliot (dir.), Spinoza, sciences et religion. De la méthode géométrique à l’interprétation de l’Écriture sainte, Paris, Vrin, 1988, pp. 171-181

[7]  - Ibid., lettre XLIII

[8]  - Spinoza, op. cit., lettre XXX

[9]  - Ibid., p. 1542

[10]  - Ibid., lettre LXVII

[11]  - Lettre LXXVI in B. Spinoza, OEuvres complètes, p. 1347

[12]  - Spinoza, München, Piper, 1978, pp. 57-65 ;Y. Djedi, op. cit., pp. 197-198

[13]  - Traité théologico-politique, chap. I

[14]  - Ibid., chap. III

[15]  - Ibid., chap. II

[16]  - Ibid., chap. III

[17]  - Cf. Y. Djedi, op. cit., pp. 97-98

[18]  - Osée, IX, 7 (c’est du moins ce que suggère Jean de Hulster dans son édition de M. Maïmonide, Épîtres, op. cit., pp. 22, n. 69 ; 58 n. 68) ; Jérémie, XXIII, 21-40

[19]  - Op. cit., pp. 22, 58, 61, 71, 94

[20]  - VIII, in fine

[21]  - A. Wolf , op. cit., p. 476

[22]  - Cf. G. Hunter, Radical Protestantism in Spinoza’s Thought, Aldershot, Ashgate, 2005

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-