أخر المقالات

سبينوزا، العلاقة بالإسلام: من أمستردام إلى الأندلس

                                                                                  



يوسف دجيدي 

رابط الجزء الأول من المقال: سبينوزا والإسلام 

بدءا لابد من الاعتراف أن الجمع بين اسبينوزا والإسلام –المصطلح الذي لم يستعمله الأول أبدا- في نفس السياق أمر غير عادي. لربما كان فيلسوفنا هو أول ساخط عن ذلك، إذا ثقنا بتأكيداته الخاصة حول هذه «الخرافة»، والتي تمخضت عنها أضخم «كنيسة» لم يكن لها مثيل من قبل –أقوى حالات الخيانة من قبل صاحب الرسالة اللاهوتية والسياسية. فإلى أي حد عرف الإسلام؟

أما الفيلسوف نفسه فقد التزم الصمت المطبق تجاه هذه النقطة. ومع ذلك ثمة كراهية محيِّرة تبرز من خلال مقاطع متناثرة بين الرسالة اللاهوتية والسياسية والتأملات و في مراسلاته، والتي يجب أن نضيف إليها الرسالة السياسية، والتي تضمنت بعض الملاحظات على الاستبداد التركي ثم إشارة غامضة عن هيمنة الموريون Maures على منطقة الأرغون. تمنينا أن يكون أكثر إسهابا حول هذه النقطة الأخيرة، علما أن لديه اهتماما كبيرا بإسبانيا([1]). هل كان اسبينوزا أكثر عداء للإسلام من معاصره باليز باسكال، الذي ترك فقرات([2])، ضمن مؤلفه اعتذار للدين المسيحي، موضوعها مهاجمة الإسلام؟

يمكننا أن نشارك روجيه أرنالديز دهشته، من حيث أن «سبينوزا لا يعير الإسلام أي اهتمام، على خلاف باسكال([3])». لكن لا يمكن أن نفترض لديه نفس سوء الفهم لحضارةٍ كان لإخوانه في الدين معها، في زمنه ذاك، علاقات قوية جدا. وما يثير الدهشة أكثر صمته في الوقت الذي كانت أمستردام في عصره تعرف تجمعا قويا لليهود السفاردميين([4])، الذين لا يتحدثون فقط «الإسبانية، والبرتغالية، والإيطالية، ويقرأون اللاتينية والإغريقية؛ و غالبا الفرنسية([5])». فالبعض منهم، وأغلبهم ذووا صيت واسع، كانوا يتحدثون العربية أيضا، على غرار يعقوب ساسبورتاس الشهير([6]).

اقرأ أيضا: ترجمةالمصطلحات الفلسفية

كل المؤشرات تسمح بتخيل باروخ الشاب وهو ينعم بأجواء عائلية و اجتماعية، كانت فيها اسبانيا المسلمة ماتزال قائمة، لليهود فيها وجود قريب، على حد تعبير رينان، ل«ما يشبه ذكرى القدس([7])»، وحيث عرفت الطائفة اليهودية الإسبانية واحدة من أزهى فترات تاريخها الثقافي. والحقيقة أن «الثقافة العربية في اسبانيا المسلمة ميزت بينبوعها الذي لا ينبض، خلال القرون القادمة، الطائفة اليهودية الإسبانية([8])». ولم يبالغ غاي مارُوَاني في جعل اسبينوزا نفسه يلبس نفس «حداد اسبانيا ما قبل الملوك المسيحيين» التي بلوره إخوانه في الدين([9]). وحتى إن لم يكن يبدو عليه الاهتمام، فلا يمكن لسبينوزا تجاهل قسوة ملوك اسبانيا على رعاياهم اليهود والمسلمين. والواقع أن اسبينوزا كان ينتمي إلى هذا الجيل الأول من اليهود الإيبيريين المولودين في هولندا، الذين ربوا في ظل يهودية معلنة والذين، دون أن يفقدوا تقليد حب آبائهم لإسبانيا ولغتها وتقاليدها، شاع بينهم أيضا «اشمئزاز[هم] للسلطة السياسية والتفتيشية الإيبيرية([10])».

من جهة أخرى، وباعتبار امستردام مدينة للطباعة والنشر –وقد كان مناسح بن إسرائيل نفسه ابن الحرفة ويملك أول مطبعة عبرية-، كان من المألوف أن تشهد المدينة صدور مؤلفات بلغات أوروبية هي مؤلفة أصلا باللغة العربية، مثلما هو الحال بالنسبة ل الحجة والدليل في نصر الدين الذليل [المعروف ب Kuzari] للفيلسوف والشاعر اليهودي يهودا هليفي خلال القرن الثاني عشر إبان الدولة الإسبانية المسلمة([11])، أو حي بن يقظان لابن طفيل. هناك ربما ما هو أفضل بالنسبة لهذا العمل الأخير. فأول ترجمة هولندية لها –وأيضا الأولى إلى لغة عامية أوروبية- صدرت –مجهولة- عام 1672، وقد نسبت في فترة ما إلى اسبينوزا نفسه. ويرجع السبب في ذلك إلى أن إعادة طبع هذه الترجمة عام 1710 حملت الأحرف الأولى الثلاثة S.D.B، واعتقد أن اسبينوزا قد عكسها لإخفاء هويته([12]). في وقت لاحق، سيتم العثور بمكتبة روزنتال بأمستردام على نسخة من أعمال الموجودة بعد وفاة هذا الأخير من بينها ترجمة لاتينية لحي بن يقظان. 

اقرأ أيضا: مدرسالفلسفة فيلسوف؟

فرضية ترجمة هذا الكتاب من قبل اسبينوزا هي الآن مهجورة كليا تقريبا. هذه المهمة نسبت إلى صديقه الحميم جون بويميستر، بعدما كلفته الجمعية الفنية والفلسفية «بقلب يقض لا شيء يستحيل Nil Volentibus arduum» بإنجاز هذا المشروع وبتشجيع من فيلسوفنا([13]). لكن حين نقر بهذا، علينا أن نثبت أيضا أن هذه الترجمة قد تم إجراؤها انطلاقا من النسخة اللاتينية التي أنجزها إدوارد بوكوكي، الصادرة بأوكسفورد سنة 1671، وليس عن النسخة العربية الأصلية، كما تعتقد بذلك فاطمة حداد شماخ([14])، متبعة في ذلك كوينغاد أويدج ميينسما، الذي اعتمد هو نفسه على أطروحة ألبير يعقوب كروننبورغ استنادا إلى الجمعية «بقلب يقض لا شيء يستحيل»([15]). القول بخلاف ذلك سيعني أن اسبينوزا كان له أصدقاء عرب من بين أقرب أصدقائه –كما هو الحال بالنسبة للطبيب اليهودي المصري-، مما سيكون له بالتأكيد عواقب غير متوقعة على علاقته بالفكر العربي والإسلامي.

ربما لا يجب الآن إهمال هذا المسار، الغير المتيقن منه لحد الساعة، خصوصا إذا علمنا بالإقبال الكبير على اللغة العربية الذي كان عليه الحال في ذلك الوقت، كما يوضحه مثال الفلاسفة الطبيعيين الإنجليز([16]). لكن لا يمكن أن ننسى النسخة العبرية المجهول صاحبها لحي بن يقظان  التي اعتمد عليها، في تعليقه عنه([17])، الابن سيناوي اليهودي البروفنسالي الكبير المنتمي للقرن الرابع عشر: موسى ناربون([18])، الذي لم تكن فلسفته سوى «استعراض وتصحيح لفلسفة موسى بن ميمون برمتها على ضوء أفكار ابن رشد([19])». «لذا فمن المحتمل، كما يفترض ذلك خوان دومينغو سانشيز إستوب، أن اسبينوزا إن لم يكن، بنموه في بيئة من أصول يهودية، يعرف، رواية حي بن يقظان فهو يعرف على الأقل التعليق عنها، وهذا قبل صدور ترجمتها اللاتينية لصاحبها بوكوك بمدة([20])».

اقرأ أيضا: هلمن حاجة إلى الفلسفة؟

ويشق سانشيز إستوب طريقا آخر ينتقل من رواية ابن طفيل إلى الرسالة اللاهوتية والفلسفية فإلى الأخلاق، حتى وإن لم يستطع الفيلسوف العربي أن يساير الفكرة التي توصل إليها اسبينوزا بصدد التماهي بين الله والطبيعة، بغض النظر عن قبوله أو عدم قبوله لفكرة خلود الله والطبيعة المشترك. من هنا جاء رفض ابن طفيل للمادة [الجسد]، الأمر الذي لم يقم به اسبينوزا إذ، «حتى في أكثر لحظات أخلاقه غموضا»، لم يترك لنفسه أية فرصة للانجذاب نحو أي شكل من أشكال التعالي، باعتبار أن خلاصه فطري، أي أنه بالتحديد دنيوي. من ناحية أخرى، أقر سبينوزا بكل يقين، تماما كما فعل سلفه المسلم، بإمكانية الخلاص استعانة بالعقل الطبيعي، مادامت «هناك طريق عقلية تقود إلى الخلاص، إلى التوحد مع الله وإلى الخلود». و الرسالة اللاهوتية والفلسفية وحي بن يقظان «متفقان كلية» حول هذا الخلاص، ولا يمكن للمعرفة أن تؤدي إليه إطلاقا إذا لم تدعمها «الطاعة والتقوى([21]

حي بن يقظان هو عمل حداثي رائع، شكل منذ القرن السابع عشر ثروة استثنائية، حيث كان محط جدل ديني وسياسي بإنجلترا أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر([22]). فالكويكرون  quakers [يدعى بهذا الاسم المنتمون لجمعية الأصدقاء الدينية]، على الخصوص، قد وجدوا في حي بن يقظان، منذ ذلك الحين، وكما أشار إليه أرنست رينان من قبل، «كتابا تنويريا([23])». في القرن الثامن عشر كان فيلسوف برلين اليهودي الكبير موسى مندلسون يوصي به كواحد من المؤلفات التي تضمن درجة عالية من التكوين الفلسفي([24]). لابد أن هذا الداعية للتنوير الألماني، وهو يقوم بهذا التوجيه، لم يكن يتبع فقط تقليدا يهوديا فحسب، لكن من المحتمل أيضا أنه كان يتبع حكم واحد من قاداته في الفكر الذي هو ليبنتز. والحق أنه بالنسبة لهذا الأخير،

كان لدى العرب فلاسفة، وكانت مشاعرهم تجاه الألوهية عالية تماثل تلك التي كانت جد راقية لدى الفلاسفة المسيحيين. يمكن معرفة هذا الأمر من خلال الكتاب المميز للفيلسوف العصامي الذي ترجمه السيد بوكوك عن العربية([25]).


فوكو: إدارة العقول و العلاقة بالآخر


نسجل الآن أن الفيلسوف العصامي لا يمجد، في جميع الأحوال، سوى الطريق –الأفلاطوني الجديد([26])- للخضوع لله عن طريق النور الطبيعي، وهو ما واصل اسبينوزا التأكيد عليه([27]). فما يعلِّمه حي بكل بساطة هو الايمان الطبيعي –الفطرة- الذي نجده مطلوبا في القرآن والذي بدونه لا يمكننا فهم الإسلام([28]). هذه «الربوبية الأكثر نقاءً»، التي يرمز بها أرنست رينان إلى الإسلام والتي يبدو أـن اسبينوزا يتجاهلها بشكل واضح، أدركها ليبنتز بكل وضوح([29]). لابد من الاعتراف أن اسبينوزا، في هذه النقطة، قد كان أقل حداثة من معاصره الألماني.

 الجزء القادم: سبينوزا والاسلام، الحلقة السبتية


المصدر

*  - Djedi, Y. (2010). « Spinoza et l’islam : un état des lieux ». Philosophiques, 37(2), 275–298. doi:10.7202/045184ar

الهوامش

[1]  - Cf. l’introduction d’Atilano Domínguez dans Spinoza y España, op. cit., pp. 9-13 ; H. Méchoulan, « Spinoza et l’Espagne », Cuadernos salmantinos de filosofia (1984), XI, pp. 435-459

[2]  - Pensées, Paris, Librairie générale française, 1962, §§ 394, 399-404, 407, 413, 482

[3]  - R. Arnaldez, loc. cit, p. 158

[4]  - Cf. inter alia G. Nahon, « Amsterdam, métropole occidentale des Séfarades au xviie siècle », in Cahiers Spinoza, n° 3, éd. Réplique, 1980, p. 15-50

[5]  - D. Lindenberg, Figures d’Israël, Paris, Hachette, 1997, p. 49

[6]  -Ce grand théologien venu d’Afrique du Nord accompagna Menasseh ben Israël dans sa mission auprès de Cromwell en faveur du retour des juifs en Angleterre. Après sa disgrâce à Tlemcen, le roi du Maroc, Moulay Ismail — probablement sur l’insistance de son conseiller Daniel Toledano qui était aussi le beau-père de Sasportas — le rappela d’Amsterdam pour lui confi er une mission spéciale auprès du souverain espagnol. Sasportas deviendra, bien après la mort de Spinoza, et à un âge vénérable, rabbin de la communauté juive portugaise d’Amsterdam. Son fi ls Itzhak, qui lui succédera à cette charge, avait pris part lui aussi à une ambassade marocaine, chargée par le même sultan de conclure des accords de paix et de commerce avec la Hollande

[7]  - E. Renan, OEuvres complètes, Paris, Calmann-Lévy, 1852, III, p. 146

[8]  - Y. H. Yershalmi, Sefardica. Essais sur l’histoire des Juifs, des marranes et des nouveaux-chrétiens d’origine hispano-portugaise, Paris, Chandeigne, 1998, pp. 16-19

 [9]  «Spinoza et Shabatai Zvi : rationalisme contre messianisme ? », in F. Gerson et A. Percival (ed.), Cultural Marginality in the Western Mediterranean, Toronto, New Aurora Edition, 1990, pp. 80-81

[10]  - G. Maruani, ibid., p. 80

[11] - Cusary. Libro de grande sciencia y mucha doctrina… compuesto en la lengua Arabiga por Yeuda Ievita y trad. en la lengua santa y agora nuev. trad. del Ebrayco en Español y comentado por Jaacob Abendana. Il s’agissait là de la traduction espagnole à partir de la version hébraïque effectuée au xiie siècle par ibn Tibbon, et non pas de la traduction arabe, comme le laisse voir la notice bibliographique d’Atilano Domínguez (op. cit., p. 32, n. 157

[12]  - Cf. son introduction dans The Correspondence of Spinoza, A. Wolf (ed.), New York, Russel & Russel, 1966, op. cit., pp. 51-52. Cf. aussi J. D. Sanchez Estop, loc. cit., p. 280

[13]  - Cf. p. ex. L. I. Conrad, « Research Resources on ibn Tufayl and Hayy ibn Yaqzān », in id. (ed.), L. I. Conrad (ed.), The World of ibn Tufayl. Interdisciplinary Perspectives on Hayy ibn Yaqzān, Leiden/New York/Köln, E. J. Brill, 1996, pp. 275-276

[14]  - Loc. cit., p. 271

[15]  - Spinoza et son cercle : étude critique historique sur les hétérodoxes hollandais, Paris, Vrin, 1983, p. 487

[16]  - Cf. p. ex. G. A. Russel (ed.), The “Arabick” Interest of the Natural Philosophers in Seventeenth-Century England, Leiden/New York/Köln, Brill, 1994

[17]  - Cf M.-R. Hayoun, « Le commentaire de Moïse de Narbonne sur le Hayy bIn Yaqzān d’ibn Tufayl », in Archives d’histoire doctrinale et littéraire du Moyen Âge (1988), pp. 27-99 ; id. et A. De Libera, op. cit., Paris, P.U.F., 1991, pp. 60, 66-67

[18]  - M.-R. Hayoun et A. De Libera, Averroès et l’averroïsme, Paris, P.U.F., 1991, pp. 54-67 ; M.-R. Hayoun, La philosophie médiévale juive, op. cit., pp. 104-105

[19]  - M.-R. Hayoun, Le judaïsme moderne, Paris, P.U.F., 1989, p. 9

[20]  - J. D. Sanchez Estop, loc. cit., p. 280

[21]  - Id., loc. cit., pp. 281-288

[22]  - Cf. l’article d’Emily Kugler, « Islam in England : Debating Protestantism in the Ibn Tufayl Translations 1671-1708 », à paraître dans Studies in Eighteenth-Century Culture (2007). On peut consulter en attendant les mêmes développements dans sa dissertation, Representations of Race and Romance in Eighteenth-Century English Novels, University of California, San Diego, 2007, pp. 94-114

[23]  - E. Renan, OEuvres complètes, op. cit., III, p. 91

[24]  - M.-R. Hayoun, Moïse Mendelssohn, op. cit., p. 45 ; id., La science du judaïsme, Paris, P.U.F., 1995, p. 9

[25]  - Lettre de 1697 à l’abbé Nicaise, citée ap. F. Haddad-Chamakh, loc. cit., p. 272

[26]  - Cf. inter alia R. Kruk, « Neoplatonists and after : from Ibn Tufayl to Ibn an-Nafīs », in A. Vanderjagt et D. Pätzold (eds.), The Neoplatonic Tradition, Jewish, Christian and Islamic Themes, Köln, Dinter, 1991, pp. 75-85. Comparer avec L. Gauthier, Hayy ben Yaqdhân, roman philosophique d’Ibn Thofaïl, Beyrouth, Imprimerie catholique, 1936, pp. 116-120. Cf. pour Spinoza, notamment P. O. Kristeller, « Stoic and Neoplatonic Sources of Spinoza’s Ethics », in History of European Ideas, V-1, 1984, pp. 1-16

[27]  - Traité théologico-politique, XII

[28]  - Cf. p. ex. J. Bouman, Glaubenskrise und Glaubensgewißheit im Christentum und im Islam. Die Theologie al-Ghazalis und Augustins im Vergleich, Giessen/Baqel, Brunnen Verlag, 1990, pp. 69-70

[29]  - Préface des Essais de théodicée, op. cit., p. 27

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-