أخر المقالات

الفلسفة النقدية وسياسة التعليم (فوكو، آلان، كانغوليم) (ج: كانط)

 



طوماس بولمان


هذه المقالة هي بالأساس قراءة تقييمية جديدة –و حداثية- لكتاب ألان  Alain ملاحظات في التربية (1932). القراءة التي أقترحها تدخُل في إطار بحث العلاقة بين الفلسفة النقدية، وقضايا التربية وسياسة التحرر. وقبل الدخول في صلب الموضوع، سأستعرض بعض العناصر العامة المحددة لهذا الإطار النظري.

ضمن منظور الخطاب الفلسفي الحديث (الذي دشنه، في رأيي، كانط وضم، في حدوده القصوى، فوكو)، يتم تعريف النقد على أنه الأسلوب أو الموقف النظري والعملي للفكر، وطريقةٌ لربط التفكير –وموضوع الفكر- بالذات، والتساؤلُ حول شروط انبثاقه ووجوده وذلك في أفق التجريب على إمكانية تحوله، انطلاقا هذه الوضعية التأملية([1]). فالفكر، وهو يضع حدود اشتغاله اليومي والاعتيادي تحت المجهر، سيجعل التحول يتم بحسب اكتشاف قدرته الأصيلة على الفعل الفكري انطلاقا من الذات، وبالنسبة للموضوع، في التعلم العملي لقدرته على الاستقلال الذاتي. فالفكر النقدي، باعتباره فعلا تأمليا في الحدود المرسومة لموضوع الفكر، يجد نقطة بدايته في ممارسة نقد ذاتي جدري.

اقرأ أيضا: دور الآداب في ترسيخ القيم

من هنا تأتي أهمية المسألة التربوية. إن التربية ليست، ككل مواضيع الفلسفة النقدية الأخرى، موضوعا بحثيا، محايدا، بل إنها تتميز بكونها المجال الذي يأخذ فيه النقد معناه بامتياز: أي قدرته على أن يحدد لنفسه معيارَ ممارسته (الاستقلال الذاتي)، علما أن هذه القدرة لا وجود لها إلا في التجربة العملية، التأملية والتغييرية، التي يقوم بها الفكر وفق الشروط المحددة لإمكانه ووجوده. بطبيعة الحال ستُلحَق تجربةٌ عمليةٌ كهذه فورا بالمسألة السياسية البحثة المتمثلة في تغيير الشروط التي تملي على الذات أشكال تغايراتها، نحو الفعل الحر في الذات والآخرين وفقا للغرض المعلن في تقاسم الحريات على أساس المساواة الأساسية. لهذا فالتربية توافق الممارسة الذاتية لنقد الذات لذاتها، سواء كمؤشر أو كشرط للممارسة السياسية للاستقلال الذاتي، في الفكر و في الوجود. فمسألة الاستقلال الذاتي، في قلب القضية التربوية، هي –كما سأداوم على تكراره- عنصر أساسي (ميت Mitte) في نشر الفكر النقدي.

اقرأ أيضا: كيف يمكن نقل القيم المدرسية؟

على العموم، يتطرق النقد نفسه إلى هذه المسألة السياسية المرتبطة بالتحرر والاستقلال الذاتي، أثناء تمحيصها المتكرر –الأزمة القانونية التي لا تنتهي- للشروط اللازم التوفر عليها دوما كي تربي النفس نفسها s’ex-ducere، وتُستَخرج من ذاتها، في حدود عمل يكفيها لاسترجاع ذكرى انبثاقها و مواجهة إمكانية انتشارها. الواقع أن سَيْسنة politicité النقد تسمح برؤيته من خلال الفعل الذي يحدثه هذا الفكر تجاه ذاته، وذلك حينما يُقِيم بينه و بين ذاته مسافة تأمل، حيث تقوم إمكانية نقل وتكوين الذاتي auto-(trans)formation؛ هذه المسافة هي، بالفعل، خلاقة لإمكانية «خروجٍ تجاه sortie vers»، تجاه استعمال للذات وللآخرين يكون أكثر اتساقا، وانفتاحا واستقلالية –وبعبارة واحدة استعمال حر و متكافئ. وهكذا، ففي اللحظة التي تصبح فيها الفلسفة النقدية فلسفة تربوية، فإنها تخلق (لنفسها) فعليا مجالا لتأمل طرائق عملها (تكوينا و انتشارا). إنها، باتخاذ التربية ك«موضوع»، تتبدى لنفسها كفلسفة نقدية، أي باعتبارها تعتمد، في وجودها وتحولها، على حوار غير منقطع مع شروط إنتاجها الاجتماعية والاقتصادية (الموضوعية) و أيضا «العاطفية» أو الانفعالية (الذاتية). فالتربية، مأخوذة في بعدها السياسي، هي فرصة الفلسفةِ لتجرّب نفسها كنقد أو هي أفضل من ذلك: أساسها الوحيد أن تجرِّب قدرتها على أن تقِيم النقد على نفسها، و غايتها الأساسية أن تجرب الممارسة التحررية للاستقلالية.

أكرر القول أنه منذ الحداثة أصبحت هذه النقطة أساسية حقا لفهم الخطاب الفلسفي. دعونا نستحضر فوكو، باعتباره أحد حدود الحداثة الفلسفية: في مقال له عن كونغوليم، قام بتعريف العقلانية الحديثة على أنها العقل «الذي لا يتمثل الانعتاق بالنسبة إليه إلا في قدرته على تحرير نفسه([2])»: إذ يعتمد الأثر السياسي للاستقلال الذاتي («الانعتاق») على النقد الذاتي («التحرر من الذات»)؛ والتربية، كما سأبين، هي المجال المفضل الذي يمارس فيه موضوع التفكير التجربة العملية لقدرته على الاستقلال الذاتي.

اقرأ أيضا: تأملات كانط حول التربية

قبل أن أعود إلى ذاك بشكل وجيز في الخلاصة، سأتطرق للحظة إلى الحد الآخر من الحداثة الفلسفية، أقصد عمل كانط. لقد لاحظ هذا الأخير بالخصوص أن «هناك اكتشافين يمكننا اعتبارهما الأكثر خطورة: فن الحكم في الناس و فن تربيتهم([3])». الواقع أن هذين البعدين، من وجهة نظر نقدية، لا ينفصلان. ففكر كانط التاريخي والسياسي يمتد بين قطبين: التربية (في أساسها الثقافي) و القانون (الذي يعتبر في بعده الكوسموسياسي القضية الأساسية للمُؤمَّل الإنساني). وعوض الدخول في جزئيات الفكر الكانطي، نكتفي فقط بذكر أن تحقّق القانون في التاريخ يعتمد على تكوين الشخصية الإنسانية (تنشئة Bildung)، تكوين لا غنى عنه لبناء الثّقافي Kultur و، في الأخير، تخليق الإنسان للتاريخ. والحال أن تكوين الذات هذا هدفه العام نشر، أو «تعميم»، التنوير Aufklärung: إما بالتحصيل الصبور و الدؤوب الذي لا يكف عن أن يستأنف هو نفسه عمل التفكير، أو ع الخروج Ausgang  من حالة الأقلية، أو العبودية، التي هي أولا وقبل كل شيء حالة الإنسان في علاقته بـ«فن عدم الخضوع الكلي لسلطة الحكم([4])»، أو كما قال فوكو. والمهم أن الوضعية النقدية المحبذة والممارسة من قبل كانط لم تكن تبدو فقط شرطا لتحقيق مثل هذا الهدف من الاستقلال الذاتي: فوجوده الواقعي يشهد أن الاستقلال الذاتي كان ممكنا حقا، وأنه قيد التحقق بالفعل- فوجود النقد هو دليل، حسب كانط، أن القرن الذي عاش فيه قرن متنور aufgeklärt ([5]).

بعبارة أخرى إن ممارسة النقد، باعتباره أولا و قبل كل شيء نقدا ذاتيا، هو بالنسبة للفكر اللحظة الفعلية للتربية على استقلالية الذات. إذ لابد من الإقرار، في أصل كل نقد، على ممارسةٍ تعلمية: ف«القدرة على إصدار الحكم موهبة خاصة لا يمكن بتاتا تعلمها و إنما فقط ممارستها <gar nicht belehrt, sondern nur geübt>([6])». لذا فإن النقد الكانطي مرتبط بعلاقة الفكر بذاته (التأمل كرجوع للذات) وذلك بتربية نفسه من خلال ممارساتٍ وتجارب ومحاولات. في هذا الصدد، إن ما يشكل في ذات الوقت أداةَ وموضوع التربية لدى كانط هو ما يسميه هو نفسه [بالبصيرة] Urteilskraft (أي، وبشكل عام، الحس السليم). أثناء استعراضه لمبدئه في التعالي، يصف القدرةَ على الحكم، في نظريته النقدية الثالثة، بكونها العلاقة التي تجمع الفكر بالذات لمَّا يكتشف ذاك الفكر –وهو يمارَس، خاصة عند الحكم عما هو جميل- قدرته الخاصة لإرساء قانونه الخاص، والتفكير بنفسه هو ذاته. إذا كان النقد، مهما كان حاسما (النقد الأول والثاني)، يتأسس دوما على الممارسة التأملية لقدرة الحكم، أي على القدرة على التفكير بواسطة ومن خلال الذات، في استقلال عن كل حكم مسبق، فإن الحكم عن الذوق، وهو يؤسس استقلالية القدرة على الحكم([7])، هو الذي يمثل الحالة الأكثر أصالة لتعلم استقلالية الفكر. من هنا تتأتى علاقته الضرورية بإشكالية التنوير Aufklärung: في جميع الحالات يتعلق الأمر بمغامرة جريئة gewagtes Abenteuer، قوامها «تحرير» العقل لذاته بالتلويح إلى تجاوز (معرفة الاستماع Sapere aude !) الحدود (التاريخية والسياسية أيضا) الخاصة باستعمال الفكر. الصعوبات التي تعترض الاستخدام المستقل للفكر –من الخرافة إلى التكاسل- لا تسقط إلا في حالة ما إذا تجرأ الفكر على استعمال سلطته وقام بتربية نفسه خلال ممارسته([8]).

اقرأ أيضا: الفلسفة والتربية

باختصار، النقد هو في المقام الأول نقد ذاتي للفكر، تمرين يعلم فيه الفكر نفسه كيف يفكر، يضع بنفسه معيار إصداره للحكم. ويقوم النقد الذاتي على التربية الذاتية. في المقابل، إن التربية، بحسب كانط، هدفها الحقيقي هو التعليم على التفكير، أي أن يتعلم المرء التفكير بنفسه، أن يمارس النقد([9])؛ ونعلم أن تعلم الاستقلالية في اتخاذ الحكم والتفكير الحر، الناقد والمستنير، إنما يتحقق بممارسته وتجريبه من خلال و بممارسة النقد. هذه الحلقة ليست مفرغة، إنها تنبئ عن علاقة بالغة الأهمية يربطها الخطاب الفلسفي الحديث بين الفلسفة النقدية و التربية: فالنقد لا يُتعلم، و لا تحدد طبيعته، إلا من خلال محاولة الذات على التفكير بنفسها، و، قبل كل شيء، على النقد الذاتي؛ فالتربية هي أولا و قبل كل شيء تجربة عملية يخوضها هذا النوع من التفكير الذاتي، نقد (ذاتي) حاسم بالغ الأهمية. على هذا النحو يمكننا فهم أن الموقف النقدي هو، بشكل صريح، سياسي: إنه شرط وعلامة تحوّل سياسي نحو ال«ولوج لسن الرشد» (Debord)، وهي حالة الأغلية، إلا أنها الحالة التي يحققها، بالفعل، هذا التحول. من وجهة نظر نقدية –و سياسية أيضا- إن التربية على الاستقلال الذاتي يعني تعلم ممارسته، وبالتالي اكتسابه.

تابع الجزء الثاني من المقال: الفلسفة النقدية وسياسة التعليم (فوكو، آلان، كانغوليم) (ج: فوكو)

 



المرجع

Thomas Bolmain, «Philosophie critique et  politique de l’éducation (Foucault, Alain, Canguilhem)», Dissensus [En ligne], N° 6 (juillet 2016), Varia, URL : https://popups.uliege.be/2031-4981/index.php?id=1513.

الهوامش

[1]- هذا المقال في الأساس هو عبارة عن مداخلة في إطار ورشة مخصصة حول الفلسفة السياسية للتربية (تنزيم: ث. بولمين و أ. جانفييه) خلال المنتدى العالمي حول الفلسفة السياسية و المجتمع (FIPS ، تولوز، يوليوز 2009). وقد كان لي شرف الوقوف على بعض النقط التي بلورتها في الفقرتين 53 و 62 من أطروحتي، تجربة نقدية للفكر. خطاب حول الكانطية لفوكو (جامعة لييج، نوفمبر 2011). لذلك أعدت صياغة بعض الجوانب من نص 2009 بناءً على النتائج اللاحقة لبحتي: من هنا كانت أحيانا الطبيعة الممتزجة لهذا المقال.

[2] - M. Foucault, « Introduction par Michel Foucault », dans Dits et écrits, t. 2, Paris, Gallimard, Quarto, 2001, p. 433.

[3] - E. Kant, Réflexions sur l’éducation, trad. A. Philonenko, Paris, Vrin, 2004, p. 106.

[4] - M. Foucault « Qu’est-ce que la critique ? [Critique et Aufklärung] », Bulletin de la société française de philosophie, t. LXXXIV, 1990, p. 38.  

[5] - ألخص حجج كانط المعروفة، «الرد على سؤال: ما هو التنوير؟»، ترجمة ج.-ف. بوارييه، ف. بروست، ضمن نحو سلام دائم، ما يعنيه التوجه في الفكر؟ ما عي الأنوار؟ نصوص أخرى، باريس، فلاماريون، 2006، صص: 43-51

[6] - E. Kant, Critique de la raison pure, trad. A. J.-L. Delamarre, F. Marty, Paris, Gallimard, Folio, p. 187 [A 133/B 172], p. 187.

[7] - E. Kant, Critique de la faculté de juger, trad. A. Philonenko, Paris, Vrin,  2000, p. 47.

 

[8] - لهذا السبب فالقاعدة الأولى للمنطق السليم هي نفسها قاعدة عصر الأنوار، أنظر إ. كانط، نقد ملكة الحكم، ص. 186-187: «القاعدة الأولى [فكّر بنفسك Penser par soi-même] هي خاصة بالفكر المتقد دوما. يتم تعريف الحكم المسبق <Vorurteil> بالميل إلى السلبية و بالتالي إلى تبعية الفكر [...]. ونسمي التنوير Aufklärung بالتحرر <Befreiung> من الخرافات»

[9] - E. Kant, Réflexions sur l’éducation, p. 112.

 

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-