أخر المقالات

علم النفس المدرسي: رؤى متناقضة(الجزء 2) (·)(1)

 



ميشل دوسيه

Michel DOUSSET

 

اقرأ الجزء الأول عبر الرابط: علم النفس المدرسي: رؤى متناقضة

 

موضوع غير محتمل؟

اعتقد كل من هنري فالون ورونيه زازو أن بإمكانهما أن يقترحا على المدرسين سيكولوجية مكيفة ومعدلة بالشكل الكافي (أي أن تكون حدة كل إحالة إلى ما هو ذاتي مخففة) حتى تشكل أداة يتحقق بواسطتها قيام مجتمع أفضل، وذلك باستبدال الانتقاء القائم، في الغالب، على الامتيازات الاجتماعية بتوجيه عقلاني للتلاميذ مؤسس على استعداداتهم الفردية (إشارة إلى ألفريد بينيه وت.سيمون) وعلى حاجات المجتمع المبرمجة. إن هذا المشروع الذي لا يرى في علم النفس المدرسي سوى تلك التفاضلية التراتبية في وظيفة التدريس، مشروع لم يستطع الوقوف على رجليه.

وبالفعل، لم يكن من الممكن الدفاع عن هذا المشروع من أساسه. الواقع أن العلاقة بعلم النفس، بالخصوص، علاقة لا تقبل التعديل ولا يمكن أن تتحدد بالرغبة في التحكم. أما إذا أخدنا بعين الاعتبار ما يصدر عن مبدأي الواقع والشدة (4) cruauté أكثر مما يصدر عن المتخيل، الذي يحيل على ذلك البعد اللاشعوري المرفوض بشراسة، فسنجد أن هذا الأمر المسمى "علم النفس المدرسي" كما تم إبداعه، لم يثر سوى مجموعة من الإسقاطات أو الاختلالات في عمليات التحويل والتحويل المضاد التي لا يراد لها، بطبيعة الحال، أن تنشَّط، مانعة إياها أن تظل بطريقة دفاعية رهينة السجل الظاهري.

وقد، تبين والحالة هذه، أن البديل الذي يقدمه علم النفس بديل نفسي أكثر مما كان مأمولا فيه، معيدا، بشكل فعلي، إلى الواقع أصداء تم الإجماع على أنها منشطرة. فحين يطلب المجتمع من مدرسيه العمل بجدية لضمان تفوق جميع تلامذتهم، سيكون علم النفس المدرسي مدفوعا إلى سد نواقص النظام التي لا مفر منها، وحاضرا أيضا للتذكير، بشكل عرضي، بحقيقة مبدأ الشدة وبتفاهة الأوهام(5) التي تتخذهما وظيفة التدريس، أكثر من أي وقت مضى، منطلقا تنتظم في إطارهما. ومع حلول علم النفس المدرسي ستعود تلك الحالة الغير المحتملة والقاسية المتمثلة في اللاستمرارية المخصية، ما دام أن كل إنكار، أمامه، لا يمكنه إلا أن يكون عديم الفعالية.

لقد سبق لعلم النفس المدرسي أن بدا عاجزا على تغطية الحاجيات المدرسية، وعلى تعزيز ودعم معارف المدرسين. الأدهى من ذلك أنه، بالصدفة، قدم لهؤلاء المدرسين فرصة معاينة محدودية وعدم ثبات أوهامهم وتواتبهم المؤسساتية في الزمن، جاعلا من نفسه تلك المرآة التي تنعكس عليها المفارقات، و بالتالي غير قادر على احتواء عودة المكبوت، و الاحتفاظ بالبعد اللاشعوري مرفوضا.

 

المكيدة أو خطاب الحاجة...

كيف يمكن، في هذه الأثناء، استيعاب أن المؤسسة المدرسية لم تتطلع إلى الانفصال عن هذا الموضوع الفريد. فبالفعل، قد بدا آنذاك، وبشكل عرضي دوما، أنها قد اكتشفت فيه، بطبيعة تكوينه الغامضة والمفارقة، غاية كان من الضروري البحث عنها ضمن ذلك السجل الكامن الذي كان تحديده مرهونا بمدى المساعدة التي يقدمها علم النفس المدرسي نفسه، غاية مفروضة عليها بعدما اضطرت تحت ضغط المتخيل الاجتماعي وتطور الوظيفة الأبوية إلى إعادة تنظيم وظيفة التدريس بشكل مغاير.

وأخذا بعين الاعتبار للمهام والرهانات الملقاة على المؤسسة المدرسية من طرف مجتمع تتزايد سلطته المطلقة بشكل مضطرد، فإن إمكانية تحمل وظيفة التدريس تتناقص بشكل مضطرد ما دام المطلوب منها يمليه سجل المتخيل.

 

لم يكن في مقدور المعرفة أن تضمن على الدوام استمرار ذاك التحكم المنظم المرغوب فيه. فعلاوة عن الشعور بالإحباط، الذي تتزايد حدته بتزايد تضخم الأوهام( للإصلاح المتجدد للإنسان، العدالة الاجتماعية، السعادة...)، كان لابد أن تتوسع الحركة المعارضة للمؤسسة المدرسية التي لا تتقن سوى إشاعة الشك والنسبية. معارضة تحيل بالأساس على تلك المرتبطة بالوظيفة الأبوية الأكثر أساسية، والتي كانت بدورها موضوع تساؤل لكونها ستخطئ حين ستعلن عن حقيقة الإخصاء بطريقة فظة، وهي حقيقة غير محتملة خصوصا عندما تذِّكر، بكثير من المضايقة، ما يوجد بشكل بديهي من وهم (وكثير من الإيديولوجية) في المشاريع الإنسانية، بما فيها المشاريع النبيلة. لقد أصبح قول الحقيقة، كما تذكر بذلك ك.روسيه، لا أخلاقيا ومفجعا خاصة حينما تكون هذه الحقيقة مكروهة (بغيضة، كما يقول س.فرويد) ومقرفة، وهي مكروهة لكونها، بحق، خاطئة...

 

اقرأ أيضا

موقع التلميذ ضمن علوم التربية المعاصرة

مسألة القيم المدرسية

علوم التربية والبيداغوجيا

 

ومن هنا حدث، من جهات عديدة، هروبٌ إلى الأمام: فالمؤسسة المدرسية، وبعد عدد كبير من التعديلات، حددت هدفها الأسمى في أن تكون الأم الـ(صالحة) القوية والحاضرة باستمرار، وكأن الكلام الأبوي لا يكون قابلا للإدماج إلا حين يكون في صيغة النفي، أي أمومي. ولم يكن لهذا الهدف أن يتطور إلا بعد القيام بمحاولة لمواجهة عمق الأزمة الجسيمة للعلم الإبستيمي (épistémè) الحديث الذي يعيق الوظيفة التمثيلية ويولّد القضايا التي تتكرر كلما كانت هناك ضرورة إلى الإحالة على قطيعة (une discontinuité مسببة للإخصاء. في هذا السياق، ولأن المدرسين مضطرين إلى استثمار وظيفتهم التدريسية كلما تعرض مثال الأنا لديهم إلى الإساءة، فسيكون عليهم، من جديد، اتخاذ بعض الترتيبات، التي يتعلق بعضها، حسب تأثير الفترة، باستغلال الـخطاب الهستيري.

لا يكون العرض الهستيري حاضرا، كما يخبرنا س.فرويد، إلا ليذكرنا بحاجة الفرد المستمرة لهذا الـ"شيء ما" الذي يعلن عنه الخطاب الأبوي. والكمال، شأنه شأن التحكم، ليس من المستحيلات: إنه اعتراف لا يمكن تحمله، يؤدي بالهستيري، كما يشير إلى ذلك جاك لاكان(6)، إلى محاولة دعم رغبة الأب، ومحاولة تحريف ما يأمر به عبر إثارة التباسات معقدة بين السجلات الرمزية والسجلات التخيلية. قد تقبل المؤسسة المدرسية، دون أدنى شك، مواجهة حاجة لا يمكن بأي شكل من الأشكال سدها، لكنها لا تقبل بتاتا بتواجد حاجة دون أي مبرر موضوعي لوجودها. من الممكن تعريف التنظيم الهستيري بعملية تجنب الإخصاء. إلا أن الهستيري، أكثر من غيره، يحاول أن يجعل الإخصاء، بشكل أحادي الجانب، من نصيب الآخر: إذ الهستيري، كما يذكر بذلك ج. لاكان، محتاج بالضرورة إلى شريك مخصي (châtré)(7). وبإمكان المؤسسة المدرسية حتى تقوم بحالة غش ناجحة، أن تبدو محتاجة، تنقصها المعرفة، وباحثة عن مساعدة الغير...إلا أن هذا ليس سوى عملية إغراء تبيح كل المناورات. وبإمكانها، بطبيعة الحال، البحث عن مدرس جديد، شريطة أن يكون التحكم فيه سهلا عليها.

هكذا يجد المعلمون والمدرسون أنفسهم، من أجل تأمين وظيفتهم، مجبرين، كحل وحيد(؟)، على التمسك بخطاب الحاجة، وأن يقوموا بابتكار وإعادة ابتكار ذواتهم كلما تنازل ذلك الخطاب عن رغبة غير مشبعة، وذلك في علاقة مع إدماج علم النفس في المجال المدرسي. من المفروض عليهم أيضا أن يحموا أنفسهم من أي اكتساح مفترض قد يقوم به علماء النفس الآخرون، وذلك بتبني خدعة عدم وجود أية حاجة إليهم بسبب توفرهم على علماء نفس مدرسيين، شركاء مخصيين بالفعل، مكونين وفق مخططاتهم.

يقدم علم النفس المدرسي إذن لهؤلاء المدرسين ما يحتاجون إليه في الجانب السيكولوجي، على الرغم من أن بعض الانعكاسات تبقى، وفي أحايين عديدة، مفارقة بشكل لا تقبل الاختزال. وعليه، فبفضل علم النفس المدرسي هذا يخرج المدرسون بخسائر أقل، بل، ولإحكام المؤامرة، يعمل على منحهم الراحة التي يوفرها خطاب الحاجة، واجدا لتحقيق هذه الغاية هذه المرجعية الحالية المملاة في جزء منها من قبل العلم الإبستيمي الحديث. أما فيما يخص تلك المكيدة وذلك النفاق فإنهما يجسدان بشكل فعلي ما جاء في كلمة س. فرويد حين يقول:" ألا تلاحظون أن كل فيلسوف، أو كاتب، أو مؤرخ، أو كاتب سيَر يضع لنفسه سيكولوجيته، و يعرض فرضياته الخاصة حول العلاقات الكائنة بين الأفعال النفسية والأهداف منها، التي تتباين كلها من حيث درجة "إغرائها"، لكنها أيضا دون أن تكون محط ثقة. من الواضح أنها تفتقد الأساس الذي يوحدها. ينتج عن هذا أيضا أن على المستوى السيكولوجي لا وجود لأي تقدير ولا لأية سلطة. لكل واحد الحق أن "يساهم فيه "بحسب هواه" ولو بطريقة ممنوعة"(8) .

إنها رؤية تعود لسنة 1926 لا يزال لها وقع في وقتنا الحاضر...

لقد كان من واجب قانون1985، المتعلق بعلم النفس، أن يمارس سلطته...إلا أنه حرف من طرف المؤسسة المدرسية، دون أن يكون هناك أي رد فعل: لا مردَّ من تصديق أن ما تثيره الوظيفة السيكولوجية من ردود أفعال انعكاسية تسبب في بعض الأحيان الانزعاج والمضايقة. و- لا ندري إن كان هذا يشكل تناقضا حقيقيا؟ - حتى تستمر في استعمال علم نفس مغشوش، نجحت المؤسسة المدرسية في تأكيد شرعية أنشطتها الغير القانونية، كاشفة بذلك على قدرة كافية من الاستفادة من ردود الأفعال الأكثر تناقضا التي تقدمها هذه المرآة (علم النفس المدرسي) الفريدة من نوعها. وهكذا يبقى علم النفس المخصص للمجال المدرسي سيكولوجيةً مدرسية.

 



 المصدر

·-- نشر في "مجلة علوم التربية"، المجلد الثاني، العدد الحادي عشر، السنة السادسة، أكتوبر1996.ص: 74-80.

وهو مقال مترجم من Psychologie et éducation, N°23, décembre 1995,AFPS, ed:la  pensée sauvage pp: 81-87

ميشل دوسيه دكتور في العلوم الإنسانية. حاصل على دبلوم جامعي لدراسة التطبيقات الاجتماعية، وعالم نفساني مدرسي.

 الهوامش

 4 -  مبدأ وضعه س. فرويد سنة 1919، ويرتبط بمبدأ اللذة ارتباطا وثيقا ومتبادلا، بحيث يقومان بتنظيم الحياة العقلية. ويؤدي مبدأ الشدة إلى اعتبار الواقع كما هو وليس كما يمكن تخيله، أو توقعه، أو ترقبه "حتى وإن كان غير مقبول "كما يشير إلى ذلك س. فرويد: S. FREUD. 1911 "Formulations sur les deux principes du cours des événements psychiques". Résultats, Idées, problèmes I .1890-1920. Paris, PUF, 1984.(PP:135-143)

إن مبدأ الواقع يتسبب في الفصل بين سجلات المتخيل وسجلات الواقع التي تحاول كل من الأوهام، والأفكار الطوباوية جاهدة نفيها.

وانطلاقا من محاولتها في ملاءمة هذا المبدأ مع نظريتها عن الواقع، قامت كليمون روسيه Clément Rosset اعتمادا على النقل بصياغة تصور عن مبدأ الشدة الغرض منه، التذكير بأن الواقع إذا بدا مقرفا ( خاصة بالنسبة للأوهام والمعرفة التي يريدها الإنسان كلية) فإنه ليس أقل واقعية... C.ROSSET, 1988, Le principe de cruauté. Paris, Editions minuit.

5 - أوهام، لكن أيضا مجموعة من الإنكارات، خصوصا نكران الفشل المدرسي.

6 - J.LACAN,1964, Le séminaire. Livre XI. (Les quatre concepts fondamentaux de la psychanalyse).Paris, édition du seuil, 1973 (particulièrement le chapitre III: "du sujet de la certitude",PP:31-41)

7 -1970-1971 ,Le séminaire ,livre XVIII.( d'un discours qui ne serait pas du semblant). (Séminaire inédit) (Séance du 16 juin 1971).

8 - S.FREUD,1926, La question de l'analyse profane. Paris; éditions Gallimard,1985,(p.41)

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-