أخر المقالات

جينيولوجية السلطة والمؤسسة التعليمية: المراقبة والمعاقبة* (الجزء I)

        

إيريك

بقلم: إريك دوبروك

                                                                 ترجمة: نورالدين البودلالي        

 

اقرأ مقالنا بالضغط على العنوان التالي: مدرس الفلسفة فيلسوف؟

 

أنوي من خلال هذا العمل، ومن خلال بعض الخطاطات التحليلية التي تنبئ عن دراسةٍ أكثر تعميما (التي أتمنى التوسع فيها في عمل تحت عنوان عام «قلب طفل»)، بسط فرضية عمل وضمان تماسكها. أود في نفس الوقت أن أستع رض بإيجاز بعض العناصر المنهجية، وأسلط بعض الضوء على ما تعنيه «فلسفة التربية». وبذلك لا ينحصر هدفي فقط في بسط ما يمكن الاستفادة منه من نصوص تربوية قديمة، من شأنها أن تشهد على ماض ولى منذ قرنين من الزمن من تاريخ المفاهيم التربوية، أو ربطها بمسائل المنهج، ولكن محاولة صياغة فرضية حول دلالة التجربة التربوية الديموقراطية والحديثة. عدم إهمال حجم التجارب والتاريخ نصرةً لبناء المفاهيم يجعل إخضاعها لمعالجة قرائية للنصوص أمرا ضروريا. ولن ينحصر الهدف من إعادة تناول بعض أعمال فوكو فقط في توضيح طريقة قراءة النصوص، ولكن أيضا لنثبت أن باستطاعتنا فهم التاريخ الحديث باعتباره سلسلة من التحولات الأخلاقية والميتافزيقية التي يطلب من الطفل في نهايتها، باعتباره النموذج الأولي للإنسان الحديث، كي يصبح موضوعَ داخلانيّةٍ intériorité [الما هو داخلي] متجدرةٍ فيه بطريقة متجددة.

وصف هذا الموضوع الذي أنعته بتعبير الداخلانيّة الطفولية هو اما يبرر إعادة قراءة بعض النصوص وفحصٍ متجددٍ لمفاهيم تربوية متجاوزة عفا عليها الزمن من غير رجعة، وليس إحساسا جماليا لمتذوق للمذاهب العتيقة، أو، بصفة أقل، مشروعا مشكوكا فيه لإنعاش رماد بارد.

 

اضغط على العنوان لقراءة: تأملاتكانط حول التربية

 

جينيولوجية السلطة والمؤسسة التعليمية: المراقبة والمعاقبة

إلى حدود فترة كتابة المراقبة والمعاقبة ([1])، والذي أصبح الآن ممكنا، إثر نشر الدروس المقدمة بكوليج دو فرانس، تمثل تشكُّلها بصورة أفضل ([2])، لم يكن فوكو قد تكلم كثيرا عن التربية والمؤسسة المدرسية. إلى مؤسسات الملجأ والمستشفى انضافت مؤسسات أخرى: إذ تم وضع السجن والجيش والمعمل، وفي الأخير المدرسة بشكل متوازٍ جنبا إلى جنب في قلب المجتمعات الحديثة المؤَسسة على فكرة الحرية، للكشف عن الشكل الخفي للسلطة. هذا الطرح، وعلى الرغم من جاذبيته البادية ودقته بشكل جزئي، يعاني، على ما يبدو لي، من حدود ونواقص.

 

موضوعَا ميلاد السجن

يبرز ميلاد السجن نية الكشف، ونحن على أعتاب العصر الحديث، عن ظهور تأثير السلطة على الجسد وتحكيم قبضتها عليه بشدة. إن «تكنولوجية سياسية للجسد»، التي أصبحت ممكنة بفضل معارف جديدة تؤسس لسيطرة متجددة على الأفراد، هي، حسب فوكو، القضية الرئيسية الذي يجب أن تعطى لها أهمية، مما يعني تجاوز منظور الفلسفة السياسية التقليدية التي ترى في الدولة وأجهزتها المجال الرئيسي للسلطة، وال «تخلي عن النموذج القانوني للسيادة» ([3]). كشف النقاب عن المعيارية نظرا لفعاليتها في الترويج لعملياتها –أو ما يسميه فوكو «"ميكروفيزياء" السلطة» - هو المحور الأول الذي ركزت عليه تحليلات الرقابة والمعاقبة. والحق أن التحكم الحديث في الأجساد لا يجد مصدره في أي مؤسسة من المؤسسات، لكنه يبقى دون أي توطين معين في المجتمع بل ينتثر فيه([4]). وعلى كل يتم تصور السلطة، أولا وقبل كل شيء، على أنها مجموعة من التأثيرات التي يمارسها المجتمع، الذي نجح في إحداثه التاريخُ، على الأفراد الذين يعيشون فيه، علما أن الجديد هنا كونها تُمارَس على أجسادهم دون الكشف عن هويتها. ما يسميه فوكو ب «مجتمع المعيار»، هو في الحقيقة شكل من أشكال الحياة التي لا تتضاءل فيها سيطرة سلطة ولا سيادة القوانين -ولا تزاد - وإنما تتغير. لم تعد السلطة تنبع من مركز أو هيئة يمكن التعرف عليه بكل سهولة، لكنها تطور آثارها في أكثر علاقات الحياة اليومية. بعض أشكال المعرفة والخطاب –الطب، الطب النفسي، أو، على النقيض، البيداغوجيا، وحتى بعض أنواع الخطابات السياسية أو الأخلاقية- تتشكل في العادة من تصور وتنظيم العلاقات بين الأفراد، وتكتسب وظيفة اجتماعية تعمل على توحيد المعايير([5]).

 

اضغط على العنوان لقراءة: فلسفة التربية: بصدد الكفايات

 

إلا أن الجسد ليس هو الموضوع الأوحد بل ولا حتى الرئيسي لهذا الشكل الجديد للمجتمع. يتم التأكد في المراقبة والمعاقبة بطريقة أقل وضوحا أن «السلطة تعمِّق داخلاَّنية لدى كل فرد»، بواسطة عملية للتّذوتن subjectivation لا تهم فقط المسجونين المحروسين، ولكن أيضا المتمدرسين، والحمقى، والمرضى، والعمال وجميع الأفراد الذين يتأثرون، بشكل أو بآخر، بممارستها. ثم إن المراقبة والمعاقبة هو أيضا «جزء من جينيولوجية ال "روح" الحديثة» وذلك لأن السلطة التي تخترق المؤسسات تعمل على نمذجة الأفراد من الداخل:

لا ينبغي القول إن الروح وهم، أو تأثير إيديولوجي.  إنها موجودة بحق، ذات واقع، ويتم إنتاجها باستمرار، حول الجسم، وعلى سطحه وبداخله بفضل عمل سلطةٍ ممارسة على من تعاقب –بصفة عامة على المحروسين، على من يتم ترويضهم وتقويمهم، على الحمقى، والأطفال، والمتمدرسين، والمستعمَرين، على من يتم تثبيتهم أمام آلة للإنتاج وللمراقبة طوال حياتهم ([6]).

صحيح أن هذا البعد التحليلي يبقى، إلى هذ الحين، محتشما، من جهة بسبب الطابع السلبي بشكل كبير للميادين التجريبية المفحوصة (المرض، الموت، العقاب، الجنون، التعذيب...) و، من جهة أخرى، لأن فوكو كان حينها يعتزم الكشف، فيما وراء العمليات التحررية البائنة لدى الفرد الحديث المستقل، عن أشكال الهيمنة الأكثر شراسة التي تظل مجهولة ومتخفية. بيد أن تقنيات المراقبة التي تلقي بكلكلها على الفرد لديها القدرة بالفعل، إضافة إلى بُعد إخضاع الأجسام، أن توعز لهذا الفرد بممارسة مراقبة وضغط ذاتيتين. من وجهة النظر هذه، يتبين أن محتوى وشكل الكتابة لدى فوكو هي قريبة، حتى في أسلوبها المتألق، من الفكرة التي اقترحها نوربيرت إلياس Norbert Élias عن سلطة مميزة للحضارة الحديثة: سلطة مستدخلة «للقهر الذاتي autocontrainte» يمارسها نفس الأشخاص الذين ينطبق عليهم ([7]). فتقنيات السلطة، حسب فوكو، تؤدي إلى إخضاع الفرد-الذات لسلطة تأديبية جماعية ومجهولة هو «هدف»ها. وتتجلى الفكرة، ذات الإيحاء النقدي والتقدمي، في توضيح آليات الهيمنة التي نعتقد أن محوها سيحقق قدر أكبر من الحرية. وليس الجسد وحده هو موضوع هذه السلطة التأديبية، بل وبشكل أعمق «الروح»؛ إذ السلطة التأديبية تُنمذج جسد وروح الذوات التي تصبح داخلانيّته –الداخلانية المنتجة، الداخلانية التي يجب أن تُحرِّر و أن يتم تُحررَّ- بهذا تحديا سياسيا وأخلاقيا.

 



المصدر

Dubreucq Éric, « Philosophie de l'éducation et philosophie du sujet. Pour une enquête philosophique sur la figure moderne de la subjectivité dans l'expérience éducative moderne », Le Télémaque, 2006/2 (n° 30), p. 77-106. DOI : 10.3917/tele.030.0077. URL : https://www.cairn.info/revue-le-telemaque-2006-2-page-77.htm

 

هوامش

[1] - M. Foucault, Surveiller et Punir, Paris, Gallimard, 1975

[2] - انظر على الخصوص M. Foucault, Le Pouvoir psychiatrique et Les Anormaux, cours au Collège de France, 1973-1974 et 1974-1975, Paris, Gallimard – Seuil, 2003 et 1999

[3] - حسب صياغة دروس كوليج دو فرانس لسنة 1976؛ انظر  cf. « Il faut défendre la société », Paris, Gallimard– Seuil, 1997, p. 22 et « Il faut défendre la société », in Dits et Écrits, Paris, Gallimard (Quarto), 2001, t. II, p. 124.

[4]- M. Foucault, Surveiller et Punir,  p. 31.

[5] - انظر مثلا:  L’extension sociale de la norme » [1976], in Dits et Écrits, t. II, p. 74 sq»

[6] - M. Foucault, Surveiller et Punir, p. 34

[7]- أنظر N. Élias, La Civilisation des mœurs, Paris, Calmann-Lévy, 1973, réimpression Paris, PressesPocket (Agora), 1997. التشابه بين رواية تعذيب داميان Damiens التي تستفتح المراقبة والمعاقبة و «حياة فارس» المأخوذة من كتاب منزل من القرون الوسطى  Mittelalterliches Hausbuch التي يختتم بها إلياس كتابه حضارة العادات (ص. 299-315) يبدو لي جد مثالي.

هام: سجلوا تعليقاتكم بالمستطيل الخاص بالتعليقات أسفل الصفحة
نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-