القيم نسبية، متعددة ومتنوعة، ومضامينها تختلف بحسب
الزمان والمكان. إنها –القيم- تتمتع بوجود فعلي بكل المجتمعات الإنسانية، إذ حيثما
كان هناك فعل تربوي ثمة قيمة، تقوّم حياتها الاجتماعية وتنظّم العلاقات داخلها،
لكنها تتميز بكونها تختلف من مجتمع لآخر، بل وداخل نفس المجتمع. إنها في العموم تتشكل
من ثنائيات: الفضيلة والرذيلة، الحسن والقبيح، وعموما الحكم و نقيضه. زد على ذلك أن
ما يعتبره مجتمع ما فضيلة، أو لنقل قيمة إيجابية، لا تكون كذلك بالنسبة لآخر: حكم أكل
لحم الخنزير، مثلا، بين اليهود و المسلمين وبين غيرهم. القيمة ليست معرفة يحصلها
ويكتسبها الفرد، إنها قول وفعل يرضاه منك وسطك المجتمعي وحجة على استدخال مُثله،
فالوفاء والشجاعة والتسامح... قيم تتجسد من خلال سلوكات وأفعال، ولا يكفي أن تكون
معرفة يستحسنها الواحد دون أن يمارسها: سبق للشاعر توفيقي بلعيد أن استشهد بحالة
مجموعة من الأحرار التنويريين الذين ينسون أفكارهم حين صراعهم من أجل اقتسام الورث
حسب أحكام الشريعة.
من
المعلوم أن المؤسسات التعليمية تعمل جاهدة على جعل روادها يستدخلون عددا من القيم
الأصيلة والمستحدثة عبر تحصيل واكتساب المعرفة التعليمية. ونقصد بالاستدخال أي
جعلها لبنة أساسية من مكونات الشخصية للشخصية الأساس.
نقرأ في متصفح المعاني: القِيَم
هي الفضائل
الدِّينيّة والخُلقيّة والاجتماعيّة التي تقوم عليها حياة المجتمع الإنسانيّ؛ وهي
في اللغة جمع قيمة، أي ما له قدر وثمن، وهي أيضا المستقيم والمعتدل وما يقبل
التقويم؛ أما من حيث الاصطلاح فهو الحكم الذي يصدره الانسان على شيء منارته في ذلك
مجموع المبادئ والمعايير المقبولة والسلوك المرجو.
نقرأ كذلك في الكتاب الأبيض أن في مجال القيم المؤطرة
للبرامج والمناهج التربوية المغربية هناك الثابت والمتحول فرضتها " ظروف
معينة في زمن معين"، ويؤكد على أن هذه المناهج تهدف إلى "المساهمة في
تكوين شخصية مستقلة ومتوازنة ومتفتحة للمتعلم المغربي، تقوم على معرفة دينه وذاته،
ولغته وتاريخ وطنه وتطورات مجتمعه".
وبإطلالة
سريعة على أدبيات التربية المدرسية الفرنسية سنجدها تضع كأولى الأولويات المُدرسة
قيمة العلمانية*. فمنذ فيري والمنظرون التربويون الفرنسيون
يضعون قيمة العلمانية، التي تدعو إلى فصل المجال الديني عن المجال السياسي، مَثَلا
أعلى لا ينبغي التهاون في تحقيقه وترسيخه لدى الفرد الفرنسي. هذا التأكيد الملحاح
لا نجده في إنجلترا ولا ألمانيا ولا إيطاليا و لا حتى بأمريكا. أكثر من ذلك إن
دولا تابعة لنظام الحكم الفرنسي كجزر المارتينيك، مثلا، تجد صعوبة كبرى في ترسيخ
قيمة العلمانية وقيم أخرى تطبع المؤسسة المدرسية الفرنسية.
ليس
هناك غرابة في الأمر إذا اقتنعنا أن المجتمع وتاريخ تطوره محددان أساسيان للقيم
السائدة. أكثر من ذلك، الأنثروبولوجيا الثقافية برهنت أن القيم تتنوع بتنوع
الثقافات، وأن فرض قيم مجتمع على آخر إنما يدخل في عداد الاستعمار الثقافي
والفكري. وإني لأجد أنه غير موضوعي أن يدافع المغربي (أو العربي بشكل عام) عن فكرةٍ،
كالعلمانية مثلا، دون أن يفعل سوى أن ينقل، على شاكلة تقطيع-إلصاق، دون القدرة على
ملاءمة النظرية المستوردة مع واقع المجتمع الذي أُدخلت إليه بفعل الاستعمار بشتى
أنواعه، بل ولا حتى إغناء ذات النظرية أو التأكد تجريبيا بملاءمتها لمجتمع غريب
عنها. من جهة أخرى، أكد الدكتور علي أومليل أن قيمة التسامح مثلا، كقيمة يتم الدفاع
عنها باعتبارها إنسانية تماما كالعلمانية(!)، هي ليست قيمة محايدة، إذ بحجتها
استعمرت دول دولا واستنزفتها. [الآن تتولى مؤسسات دولية مهمة إرضاخ دول تابعة لقيم
تنعت بالإنسانية، من بينها الإنسانية]
على
الرغم من أن عددا من المنظرين التربويين الفرنسيين، كميريوه وهوساي ودوفلاي
وغيرهم، سيعترفون بكون قيمة العلمانية ليست كونية، ولا يمكنها بالتالي أن تكون
مطلقة، إلا أنهم يعودون دوما إلى تأكيد ضرورة جعلها مثالا أعلى بالنسبة للإنسانية
لاقترانها بقيم أخرى كالحرية والعدالة وغيرها. مسألة طبيعية بالنسبة للفرنسيين ما
داموا يدافعون عن نظام بأكمله يخص تدبير الشأن السياسي لدولتهم والدول التي
سيادتها هي من سيادة الدولة الفرنسية. لا ننسى أيضا الجدل الواسع الذي دار، ولا
يزال يدور، بين المحدثين والجمهوريين الفرنسيين إثر قضية الحجاب ولباس السباحة
الإسلامي اللذين، على الرغم من كل القوانين الجزرية للحد منهما، يستمران في إثارة
أسئلة ذات طبيعة قيمية إنسانية بالمجتمع الذي تشرب الثقافة الإنسانية.
قيمة
العلمانية تساير النظام العام الفرنسي، والنظام التربوي منه خاصة،
لكن تبقى، أقل أو أكثر، نسبية بالنسبة لباقي الدول الأوروبية منها وغير الأوروبية.
إنها غير كونية ولا مطلقة، لكنها تناسب وضعية بلد عرف تطورا تاريخيا لعبت فيه
حيثيات تاريخية واجتماعية دورا كبيرا قادتها البورجوازية من أجل تدشين دولة يحكمها
قانون أرادته فرنسا بالضبط أن يكون مدنيا لا يتدخل فيه الدين قيظ أنملة، في حين
كان هذا الفصل غير مطلق بالنسبة لدول أوروبية وبأمريكا.
تاريخ
المغرب كان أولا تاريخ قبائل متناثرة، ثم مر إلى فترة الفتوحات الإسلامية التي
قادها المسلمون، إلى مرحلة تأسيس الدول المغربية التي يرأسها ملوك كلما ضعفت دولة
انبنت على أعقابها دولة أخرى تنتمي إلى عصبية جديدة. عاملان أساسيان ظلا ثابتين
منذ تأسيس الدولة الادريسية إلى الآن: اللغة والدين. إنهما الوتد الذي عليهما
تتأسس الدولة، وهما روح القيم التي تترسخ في كيان المغربي. ويبقى السؤال الآني
الذي لابد من الاجتهاد فيه هو: ما السبيل لصياغة نظرية فلسفية تعجن الخاص
(المغربي) والعام (الإنساني) ضمن تصور لا يحس فيه ال"مواطن" المغربي
بالغربة الكينونية؟
-----------------
·
لا أرى أن عبارة العلمانية هي الترجمة الدقيقة ل laïc وأن فيها من
الاعتبارات المعيارية ما أفسد دقة العبارة، وأن رنتها الحقيقية قد تحيل على غير
الديني وربما حتى إلى الإلحادي.
نشرت على مدونة "عربي22"