أخر المقالات

عن الترجمة الفلسفية: اللغة الفنلندية نموذجا (الجزء الثاني)

 



تينا أربي Tiina Arppe

 

اقرأ الجزء الأول من المقال من هنا

مسألة أصول الاشتقاق étymologie

تجعل الأصول الاشتقاقية، في بعض الأحيان، الترجمة الدقيقة من الفرنسية إلى الفنلندية مستحيلة. كلمة «إحساس sentiment» مثلا تثير مشكلا: إنها تشير بشكل أساسي إلى الانفعالات، والانطباعات، وهي تحمل أيضا معنى الحس السليم. بذلك سيكون مبررا استعمال المصطلح الفنلندي، الأخرق شيئا ما، sentimentti، حين العزم، مثلا، على ترجمة نصوص عالم الاجتماع إيميل دوركهايم الذي يرتبط ال«إحساس» في نظريته ارتباطا وثيقا بالحس السليم (بل إن لدوركهايم معجمه الاصطلاحي الخاص حين يتحدث عن الدوافع impulsions الداخلية القوية التي لا تسترشد بالعقل). مثال آخر يتمثل في «شغف passion» الذي يمحو مقابلها في اللغة الفنلندية intohimo («شغف passion»، «اشتداد véhémence») بشكل تام في السياق الفلسفي المعنى العام للمعاناة المرافق لها (انظر « pathos » في اللاتينية) وأيضا الفكرة الأساسية للسلبية المرتبطة بها (والتي، علاوة على ذلك، تم تسليط الضوء عليها، على سبيل المثال، في القرن السابع عشر، في إطار نظرية الانفعال التي بلورها ديكارت). فبحسب هذه النظرية، يظل جانب التفكير في الروح سلبيا تحت رحمة الأهواء، لأنها تأتي من الجسد، وأصلها جسدي بحت. في فلسفة روسو، مثلا، للإنسان، في حالته الطبيعية، دافعان أصيليان: التعاطف la compassion وحب الذات l’amour de soi. إلا أن القارئ الفنلندي سيجد صعوبة في ربطهما بالمصطلح الفنلندي intohimo بسبب الاختلاف الأساسي في المعنى (لدى روسو، لا ترتبط «المشاعر الضارة passions nocives» المزعجة للفرد –المشاعر بالمعنى الفنلندي للكلمة- إلا بولادة المجتمع).

تجعل الطبقات اللغوية والثقافية للغةٍ ما ترجمةَ النصوص الفلسفية بنفس صعوبة ترجمة أي نص أدبي. فبإمكان مصطلحٍ أو تعبيرٍ أن يحمل داخله زخما من التلميحات والترابطات التاريخية والثقافية، يكون من المستحيل في الغالب نقلها إلى قارئِ النص المترجَم. بالطريقة نفسها، قد يحيل مصطلحٌ في الفلسفة على تاريخه المفاهيمي بأكمله، مع كل ما يعني ذلك من حوارات ونقاشات جرت حوله، وسيستحيل في الغالب على المترجم جمع مجموع هذه التلميحات الاصطلاحية في مصطلح واحد، خاصة إن علمنا أن هذه النقاشات منعدمة باللغة الفنلندية. في عمل ذي رؤية علمية، يمكن بالطبع شرح بعض الإيحاءات الاصطلاحية في التمهيد أو في الهوامش، غير أن حجمها سيكون محدودا أيضا.

 

اقرأ أيضا: جاك ديريدا مُترجَما: بين الفلسفة والآداب (في خمسة أجزاء)

اختلافات في المجالات المعجمية، ومسألة الاتساق ومسألة اللغة الوسيطة

بطبيعة الحال، إن تميُّز اللغة الفنلندية (ذات الأصل الفنلندي الأوغوري) لا يسهل مهمة المترجم. هذا يفرض عليه بالمقابل أن يفكر ويحلل مضمون المصطلحات بمزيد من الدقة وبرؤيا مختلفة عن تلك المتبناة، مثلا، من قبل مترجم يترجم إلى الإنجليزية، الذي يمكنه في غالب الأحيان أن يعيد إنتاج المصطلح الفرنسي في شكل مماثل تقريبا. فتشابه الأشكال قد يؤدي في بعض الأحيان إلى حدوث أخطاء. والمجال المعجمي المرتبط بلفظة في لغة ما ليس من الضروري أن يكون هو نفسه في اللغة الأخرى: الكلمة الإنجليزية economy [ادّخار] لا تتوافق بالضرورة مع نظيرتها الفرنسية «اقتصاد économie». كما يجب بالضرورة أيضا مراعاة التطور التاريخي للمصطلحات. ففي زمن مونتينيي، مثلا، كانت كلمة «وقت temps» تعني أيضا «فرصة l’occasion». وبذلك فتعبير «أخذ الوقت prendre le temps»، الذي يستعمل اليوم بشكل عادي بمعنى «أخذ الوقت»، قد يعني أيضا في القرن السادس عشر «اغتنام الفرصة قبل ضياعها» (حين يتعلق الأمر باستعمال تاريخي كهذا، فمن الطبيعي أن يخطئ في استعماله المتحدثُ الفرنسي نفسه).

لذلك فنسبة الوقوع في الخطأ مرتفعة بشكل خاص إن تمت ترجمة نص فلسفي إلى اللغة الفنلندية من خلال لغة وسيطة. غالبا ما نصادف هذا المشكل في المؤلفات الترويجية، الزاخرة باستشهادات فلاسفة مختلفين، أو مجامع موجهة للجمهور العريض. بالنسبة لي أحرص على التحقق في حينه من القولة في لغتها الأصلية، إذا بدا لي أن النص يحتوي على مصطلح «تقني» أو فلسفي واحد (بطبيعة الحال، ليست الأمور دوما على هذا الحال، إلا أن الخبرة والتكوين الفلسفيان يعينان على إثارة الشكوك حول بعض المصطلحات).

في بعض الحالات تُمكّن هذه الطريقة من الكشف عن أخطاء حقيقية في الترجمة. والمثال أدناه يوضح حالة نموذجية.

إياكم النص الأصلي باللغة الألمانية:

«... sondern um Grundweisen, in denen das menschliche Dasein beruht, um die Weise, wie der Mensch das ‘Da’, die Offenheit und Verborgenheit des Seienden, in denen er steht, besteht»   (Heidegger : Nietzsche, Bd. I. Pfullingen, Neske, 1961, p. 55)

الترجمة الفرنسية:

«Heidegger définit d’abord celles-ci [les passions, T.A.] ainsi que les affects comme “les manières fondamentales dont l’homme fait l’épreuve de son Da, de l’ouverture et du retrait de l’étant dans lequel il est” »  (Aude Lancelin et Marie Lemonnier : Les philosophes et l’amour. Paris, Plon, 2008, p. 198)([1])

لقد تم هنا اختيار ترجمة مصطلح Verborgenheit (والذي يقابله في اللغة الفنلندية kätkeytyneisyys، أي «فعل التنصل، فعل الاختباء») بمصطلح «الانسحاب retrait». علما أن ال«انسحاب» هي الترجمة التي تخص للمصطلح الهيدغيري Entzug، التي تترجم بصفة عامة في اللغة الفنلندية إلى vetäytyminen («فعل الانسحاب»). وبهذا إن كان المترجم الفنلندي قد اطلع على الترجمة الفرنسية فقط، لكان قد ارتكب خطأ جسيما في عمله.

الترجمة الفنلندية

« Heidegger määrittelee aluksi passiot samoin kuin affektit ’niiksi perustaviksi tavoiksi, joiden varassa Dasein on’; tavoiksi, joilla oleva, jonka piirissä ihminen on ja josta hänen Daseininsa muodostuu, koetaan ’paikalla-olemisena’, avautuneisuutena ja kätkeytyneisyytenä. » (Trad. Tiina Arppe)

 

اقرأ أيضا: ترجمة النصوص الفلسفية: عنصرلتكوين أساسي أم تخصص محصور على الفلاسفة؟ (في جزأين)

عندما يتفلسف المترجم

ما دام مترجم النصوص الفلسفية هو الذي يبلور المعادلات اللغوية المناسبة للبنى والشبكات المفاهيمية في علاقاتها العضوية فيما بينها، فمن الضروري أن يكون على بيِّنة تامة بفكر الفيلسوف الذي يترجمه. من البديهي أن تنطبق هذه القاعدة على ترجمة كل نسق نظرية أو نظام فكري (قليل من المترجمين سيكونون قادرين على ترجمة نص في مجال البيولوجيا أو الفيزياء النووية دون معرفة أي شيء عنها). وجود مترجمٍ للنصوص الفلسفية هنا إنما يعني إنشاء مجموعات مفاهيمية ضمن ترجماته، حيث يصعب الحفاظ على تماسكها وترابطها الداخلي، وذلك إن تبين له وجود ثغرات في المجال. مع ذلك، ليس من الممكن معرفة ذلك دوما. لنأخذ على سبيل المثال المؤلفات الترويجية التي سبق لنا ذكرها، التي نبذل جهدا مضنيا للتعريف من خلالها بتاريخ الفلسفة من أفلاطون إلى سارتر. فزيادة على الاطلاع على المصادر بلغتها الأصلية، من الضروري بشكل عام في وضعيات كهذه  اللجوء إلى المختصين وإلى شبكات الزملاء. وبذلك تتطلب هذه المؤلفات الترويجية في الغالب مزيدا من العمل والتدقيق من جانب المترجم مقارنةً بترجمات النصوص الأكاديمية التي تبدو تقنية أكثر وجد صعبة، بحيث أنها ستتطلّب وقتا أطول في إجراء بحوث وتحقيقات من جميع الأشكال.

علاو على لك، لا يتعلق الأمر في الفلسفة بترجمة «معرفة» موضوعية متفردة، أي مجموعة من الحقائق الفعلية، التي يمكن للمترجم الإحالة عليها لإنجاح عمله. فاختياراته تستند دوما على تأويله الخاص للنص الفلسفي –بعبارة أخرى، إن ترجمة نص فلسفي هي دائما نوعا من التفلسف، استعمال للعقل في مسائل فلسفية.

تنويه: تمت ترجمة المقال من اللغة الفنلندية إلى الفرنسية من قبل Sanna Hulkkonen، Veera Hynninen و Mika Peltola، وتمت مراجعته من قبل Gaïdig Dubois.

 



المرجع

Tiina Arppe, « De la traduction de la philosophie », Traduire [En ligne], 227 | 2012, mis en ligne le 01 décembre 2014, consulté le 30 avril 2019. URL : http://journals.openedition.org/traduire/469 ; DOI :10.4000/traduire.469

الهامش

[1]- ترجمة النص الفرنسي مني: «يعرّف هايدغر هذه أولا [المشاعر، تينا أربي] والتأثيرات كذلك باعتبارها "الأساليب الأساسية التي يختبر بها الإنسان حضوره هنا Da، والانفتاح ثم الانسحاب من الوجود الذي هو فيه"» (Aude Lancelin et Marie Lemonnier : Les philosophes et l’amour. Paris, Plon, 2008, p. 198)

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-