أخر المقالات

عن الترجمة الفلسفية: اللغة الفنلندية نموذجا (الجزء الأول)

 



تينا أربي Tiina Arppe

 

اقرأ: جاك ديريدا مُترجَما: بينالفلسفة والآداب (في خمسة أجزاء)

 

ذات يوم، حينما ذكرتْ إحدى صديقاتي الفنلنديات، المقيمة بفرنسا، لأحد معارفها المحليين، وهو أستاذ فلسفة، أنني كنتُ بصدد ترجمة نص لجاك دريدا إلى اللغة الفنلندية، أشار هذا الأستاذ في كلمة مقتضبة انها كانت بكل تأكيد الطريقة الأفضل للانتحار.

إنها مستملحة تلخص بشكل هزلي التحدي اللغوي الذي تطرحه الفلسفة الفرنسية المعاصرة، لكنها، في نفس الوقت، تسْهم في إثارة الغموض ليس بالنسبة للترجمة الفلسفية كفعل، بل أيضا العلاقة العضوية بين الفلسفة والترجمة. فبقدر ما تتضمن الفلسفة شرطا محددا للكونية –أي ضرورة علو صلاحية الحجاج الفلسفي على الزمان والمكان- بقدر ما تكون الترجمة شرطا لوجودها. تكون هذه الفكرة صحيحةً بشكل عام، لكن شرط أن نقوم بتغيير زاوية النظر وتوقفنا عن النظر إلى ترجمةِ دلالاتِ لغةٍ ما، أي عملية النقل من لغة إلى لغة أخرى، كوظيفةٍ لغويةٍ فرعيةٍ محددةٍ تجعل منها اللغة ممكنةً، بل عتبرها بمثابة شرط إمكانية اللغة ذاتها: فمفهوم الدال نفسه يتطلب إمكانية الاستبدال الأساسية، وحقيقة أن شيئا (المدلول) يظل هو نفسه لا يتغير في حين يكون شيئا آخر (الدال) قابلا للتعويض والتغيير.

إن الهدف الرئيسي من هذا المقال ليس هو التعامل مع الترجمة كمسألة فلسفية، وإنما فحص المسائل المميزة التي غالبا ما تعترض المترجم للنصوص الفلسفية، مستعينين في ذلك بأمثلة. جزء كبير من هذه التحديات يعرفها أيضا مترجمو الإبداعات القصصية وغير القصصية، رغم أنه، بالنسبة للنص الفلسفي، يمكن أن تحكم أسبابٌ مختلفة اختيارا محددا للترجمة.

 

اقرأ: ترجمة النصوص الفلسفية: عنصرلتكوين أساسي أم تخصص محصور على الفلاسفة؟ (في جزأين)

 

اختبار كليشيهات الترجمة

بداية يثير النص الفلسفي العديد من التساؤلات حول الصور النمطية الخاصة بالترجمة، على غرار الفكرة الشائعة جدا والتي مفادها أن المترجم لا يترجم الكلمات وإنما الأفكار. ينطبق هذا بطبيعة الحال بشكل مبتذل على الفلسفة أيضا: إذ على المترجم أن يكون قادرا على نقل حجة الفيلسوف إلى القراء دون إغراقها في بنية لغوية جد معقدة. إلا أن العديد من النصوص الفلسفية، الحديثة منها على الخصوص، تتميز بكون الحجة، أو ال«محتوى»، لا يمكن فصلها بشكل عام عن الصياغة اللغوية: فـالشكل اللغوي هو بالتحديد الذي يحدد جوهر الحجة. العلاقة بين الفلسفة ولغتها هي علاقة تبادلية، لكنها تبادلية بطريقة مختلفة عن تلك السائدة في عدد من الأعمال الأخرى غير الأدبية. تقترب الفلسفة في هذا من الأدب، بل ومن الشعر أيضا (تمثل مسألة الحدود بين هذه الأنواع أيضا واحدة من التحديات الخلافية الأساسية في الفلسفة الحديثة).

تبرز خاصية اللغة الفلسفية هذه بشكل جلي في نصوص الفلاسفة الذين يلجؤون في الغالب إلى الألفاظ المتماثلة صوتيا homophone، والاشتقاقات étymologie، واللهجات الاصطلاحية  Idiome والتورية jeux de mots. جاك دريدا، مثلا، يستعمل الحجة القائمة على سمات اصطلاحية خاصة باللغة الفرنسية –لنشر من بين عدد كبير من الأمثلة إلى عطاء don ( «الهدية le cadeau»، «الموهبة le talent»، «المِنَّة le bienfait»، الذي اشتُقت، مثلا، منها كلمة par-don) وحاضر présent («الهدية cadeau»، وأيضا «الحضور la présence» أو «اللحظة الحالية le moment présent»)، حضور  présence («تواجد être présent» أو «أمام مرأى الناس être au regard des gens») وتقديم présentation («القيام بعرض le fait d’exposer»، «العرض»، «فعل الاستحضار le fait de rendre présent»، وغيرها) وأيضا propre («شخصي personnel»، «مُميز caractéristique»، لكن أيضا «صافي net»، «دون وسخ sans tache») ملكية propriété («الامتلاك la possession»، «الصفة la qualité»، «ما يمتلكه المرء ce dont on dispose»، الخ. تتداخل كل هذه المعاني في نصوصه، تلعب مجتمعة، وعلى المترجم أن يكفل أيضا، بطريقة أو بأخرى، حضورها في النسخة المترجمة.

من جهة أخرى، ترتبط رهانات هذه المصطلحات الخاصة، ضمن بعض نصوص دريدا، ارتباطا مباشرا بالتفكيك الهايدغري للميتافيزيقا الغربية، وبالتالي ببعض المصطلحات الفلسفية لهايدغر (على سبيل المثال eigen، Eigentlichkeit: التي تترجم في غالب الأحيان ب«الأصالة authenticité» ويترجمها دريدا ب«خاصية propriété»، بمعنى ما هو خاص). هذه المصطلحات تنطوي على قضايا فلسفية وعلى تقليد في الترجمة يوجب على المترجم معرفته لإيجاد المقابل الأكثر تناسبا أو على الأقل تجنب الاختيار السيئ.

المثال المقدم فيما يلي مأخوذ من تحليل العطاء le don ضمن كتاب دريدا «إعطاء الوقت Donner le temps» (1991).

النص في الأصلي بالفرنسية:

 « Pour qu’il y ait don, il faut que le donataire ne rende pas, n’amortisse pas, ne rembourse pas, ne s’acquitte pas, n’entre pas dans le contrat, n’ait jamais contracté de dette. […] Il faut, à la limite, qu’il ne reconnaisse pas le don comme don. S’il le reconnaît comme don, si le don lui apparaît comme tel, si le présent lui est présent comme présent, cette simple reconnaissance suffit pour annuler le don. »([i])    

ترجمة سوزانا ليندبورغ

« Jotta lahja olisi olemassa, vastaanottaja ei saa palauttaa, kuolettaa, hyvittää, kuitata, sitoutua sopimukseen eikä velkaantua [...] Äärimmillään hänen täytyy olla tunnistamatta lahjaa lahjaksi. Jos hän tunnistaa lahjan lahjaksi, jos lahja ilmenee hänelle sellaisenaan, jos lahja on esillä hänelle lahjana [’si le présent lui est présent comme présent’], niin jo tämä yksinkertainen tunnistus riittää mitätöimään lahjan. »

لا وجود، في اللغة الفنلندية، لكلمة تحمل في نفس الوقت معنى «الحاضرle présent» («اللحظة التي نحن فيها») و«العطاء le don» («هدية un cadeau»). بذلك فُقد المعنى المزدوج للكلمة الفرنسية «présent». وهكذا وجب ترجمة le don و le présent بنفس الكلمة الفنلندية lahja [هدية].

 

اقرأ: ترجمة المصطلحات الفلسفية

تكمن الخطورة المحدقة بشكل مستمر لمثل هذه الفلسفة التأملية الذاتية في الحصول على ترجمة جد «محكمة»، تُفقد فيها الحجة لصالح تورية معقدة وألفاظ مبتكرة غامضة تمت بلورتها لنقل أفكار فلسفية نوعية. حينها لن تكون الترجمة مفهومة إلا من طرف المترجم نفسه، ولتجنب هذا يتم في الغالب إضافة معاجم ضخمة إلى المؤلفات المترجمة، كي تساعد على فهم هذه المفاهيم، (هذه الوضعية نموذجية بالنسبة للترجمات الفنلندية لهيدغر). والترجمة الفلسفية الجيدة عليها أن تكون قادرة على المناورة بين هذين الاحتمالين –وهو تحد أكثر من مألوف بالنسبة لأي مترجم للنصوص الأدبية.

على مستوى أكثر واقعية، قد تعترضنا بعض الصعوبات في التمييز بين الاستعمال ال«تقني» لبعض التعابير وبين استعمالها العادي واليومي، الخالي من المعنى التقني (على سبيل المثال دلالة: «المعنى»، «فعل تقديم معنى»). أضف إلى ذلك أنه في نفس النص يمكن استخدام الصيغتين بشكل تناوبي. لذلك من الأهمية بمكان التحكم في الفروق الدقيقة في المعنى داخل اللغة الأجنبية وفي استعمال التعابير الاصطلاحية idiomatique أيضا.

تابع بقية المقال عبر هذا الرابط



المرجع

Tiina Arppe, « De la traduction de la philosophie », Traduire [En ligne], 227 | 2012, mis en ligne le 01

décembre 2014, consulté le 30 avril 2019. URL : http://journals.openedition.org/traduire/469 ; DOI :

10.4000/traduire.469

الهامش

[i] - ترجمة النص الفرنسي مني: «حتى يكون العطاءُ عطاءٌ، على الموهوب له ألّا يردها، ولا يقلل منها، لا يسددها كدين، لا يتخلص منها، أو التدخل في العقد، ولا تحمل أي دين. [...] عليه، في النهاية، أن يعترف بالهدية كهدية. إن اعتبرها هدية، إن بدت له الهدية باعتبارها كذلك، إن كان المُهدى مقدما له كهدية، فهذا الإقرار البسيط كافٍ لإلغاء الهدية.»

نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-