بقلم:
هنري سلفا
الحظوة التي تتمتع بها المدرسة باعتبارها ناقلة للثقافة،
تقابلها، كنتيجة طبيعية، ميزة كونها الكاشف المنتقى للفوارق العقلية والثقافية
الموجودة بين الأطفال.
والفشل المدرسي واضح بشكل كبير، ومتواجد بكثرة لدرجة أنه لم
يعد يشكل حالة شاذة، مما جعل البحث عن أسبابه يتم بالضرورة بعيدا عن الفوارق
الطبيعية في القدرات (باستثناء حالات القصور التكويني والعضوي التي تسبق مرحلة الولادة
أو تأتي بعدها أو تحيط بها، التي لا يمكن إنكارها بكل تأكيد، وهي لا تمثل سوى نسبة
صغيرة جدا من الساكنة)، وذلك تحت طائلة الإقرار بكون نصف الأطفال الملتحقين بالمدارس
ليسوا عاديين أو غير متكيفين.
والحق أن الفشل المدرسي ليس سوى أحد نتائج نظامنا التعليمي
وتأكيد على إفلاس مجتمعنا.
لقراءة مقالنا اضغط على: مدرس الفلسفة فيلسوف؟
إن النظام التعليمي، من حيث أنه انعكاس بنيوي للاقتصاد الليبيرالي،
هو نظام يحكمه المضاربة، والتنافس، والانتقاء. المناهج الدراسية، من بدايتها إلى
نهايتها، ليست سوى سباق، طويل أو قصير، من الموانع، ومن الامتحانات والمباريات. وعلى
ذلك تشهد البنية في شموليتها.
ما إن يوضع جميع أطفال السادسة على نفس خط الانطلاق، مع
افتراض تمتعهم بنفس القدرات ونفس الإمكانيات، حتى يجدون أنفسهم منذ شهرهم الأول
يتقلدون دورا غير الذي تمنحهم إياه بشكل كامل وضعيتهم كتلاميذ: دور التلميذ الأول،
دور التلميذ الثاني...دور التلميذ الأخير. هكذا ستحدد النقط والرتب والدفتر المدرسي
موقف كل من المدرس، والآباء، والأصدقاء، والإخوان والأخوات، بل وموقف الطفل نفسه.
لنأخذ مثالا عاديا
حيث يقرأ الطفل بشكل سيء، ويكتب بشكل سيء، ويرتكب أخطاء، ولا يعرف دروسه الخ. إنه
يتعرض للتوبيخ و العقاب، ويحصل على درجات سيئة، ويرتب بين تلاميذ الصفوف الأخيرة. و
أيا كانت أصول الصعوبات التي يعاني منها، عضوية أم وجدانية أم هما معا، فإنها
ستحدد نمطا من العلاقات الخاصة مع المحيط. أما المعلم، باعتباره شخصا وممثلا
للمؤسسة في آن، فيجازف بالظهور كشخصية خطيرة، مخيفة، متشددة، ومعاقبة.
لقراءة المقال اضغط
على: معنى المدرسة
إذا ما استمر الفشل، كما هو الحال في كثير من الأحيان، فذلك
يؤدي إلى تفاقم التأخر في المسار الدراسي. ينتقل هذا التمثل السلبي من المعلم إلى باقي
زملائه، وقد تصبح المدرسة بأكملها حقلا من التجارب المؤلمة بالنسبة للطفل. و في
كثير من الأحيان يزكي الآباء هذا النظام من العلاقات، فيعيشون فشل أطفالهم المدرسي
وكأنه فشل شخصي، جاعلين الفضاء المدرسي المزعج يجد امتدادا له بالمنزل عبر التوبيخ
بسبب »الدفتر المدرسي السيئ« وال» دروس الخاصة«، والعمل الإضافي الذي يعتبر عقابا.
إن الآباء لا يستطيعون فهم ردود الأفعال المثارة لدى الطفل، من قلق وعدم استقرار مرورا
باللامبالاة والاستسلام، بل لا يرون فيها سوى النتيجة الأكيدة لنقصان في ال»ملكات«، أو للكسل أو لل»أساس الهش«، أو، على العكس من ذلك، يحملون أنفسهم مسؤولية فشل طفلهم: »الخطأ خطئي، فلا طريقة لي«، »لا أعرف كيف أقوم بذلك«.
إن هذا الجانب العلائقي من الصعوبات المدرسية، الناتجة عن
الأدوار التي توكلها المؤسسة المدرسية للمتمدرس السيئ، قد يكون لها، علاوة على عدم
اكتساب المعارف وتلاشي الفرص المهنية، أثارا خطيرة على شخصية الطفل ذاته، وعلى نمو
شخصيته بصفة عامة ويُخشى أن تمتد آثارها إلى ما بعد فترة التمدرس.
إن الوقوف، مرة أخرى، على شروط
عمل المتمدرس أمر له أهميته:
الأعداد الوفيرة للمجموعات
المدرسية الحضرية، حيث يكون أثر الكتل الضخمة والتخفي فيها عامل استيلاب لشخصية
الطفل، أما ساحات الاستراحة، التي تبدو وكأنها خلية نحل حقيقية متحركة، فلا يكون
للطفل فيها، بشكل مناقض، الحق في اللعب ب»عنف« وفي ال»صراخ«، علما أن ذلك يمثل حاجة حقيقية بالنسبة إليه بعد قضاء ساعتين من
الاختناق داخل القسم، دون أي ارتخاء جسمي.
أما المدرس، الضائع من جهته في
قسمه المكتظ بالتلاميذ، والذي يتولى دور نقل المعارف، فإنه لا يجد الوقت للتوفيق
بين مستلزمات جدوله الزمني و تنفيذ برنامجه، وبين الحاجيات الخاصة المختلفة
للأطفال، مما يجعل الانضباط والعقوبات تمثل بالنسبة إليه الوسيلة الأوحد لضمان المحافظة
على وضعيته كمعلم.
والحق أن التلاميذ لا يستفيدون
جميعا بنفس الطريقة من الثقافة التي تقدمها المدرسة، خصوصا وأنهم يخضعون لنفس وثيرة
التعليم، مما يفترض توفرهم على نفس درجة النضج الجسماني، والعقلي والوجداني، وعلى
نفس الدوافع.
لقراءة مقالنا اضغط
على: قراءة في عنوان كتاب
"الدرس الديني وعوائق بناء قيم التسامح"
والحق أن التلميذ لا يظل سلبيا
أمام توفر أبويه على مدخول يسمح بالحصول على مسكن واسع، تهويته مناسبة، مريح
وهادئ، وتغذية سليمة ومتوازنة، ونوم عادي. وفي هذا الإطار وضح جيلي GILLY([2])
أن هناك فوارق في النضج الجسماني وذلك بحسب اختلاف المستوى الاجتماعي- الاقتصادي.
فأطفال الوسط الميسور ينضجون بشكل مبكر: حيث تبرز الأسنان
الدائمة ثلاثة أشهر قبل موعدها؛ وتحيض البنات في وقت مبكر. القامة بدورها تختلف
(بسنتمتر إلى ثلاثة) ما بين الأطفال الذين يشتغل آباؤهم كأطر أو في المهن الحرة،
وما بين من يشتغل آباؤهم كعمال.
ما من شك أن لهذا التفاوت في النضج الجسماني أثر على حالات
الإنتباه، والحركية ومقاومة التعب.
كما أن للهشاشة الجسمانية، الملاحظة بقوة لدى تلاميذ الأوساط
المحرومة، أثر سيئ على إمكانية التعلم بفعل ما تسبب فيه من حالات عدم الانتباه.
إلا أن الفارق الموجود بين الفقر الثقافي للوسط وحالات الاغتناء
المستمر المقترحة من قبل المدرسة هي التي تعتبر السبب الفعلي لعدم التوافق
المدرسي.
فالسرعة المفرطة في إيقاع التعلم بالمدرسة( تعلم النطق خلال
الثلاثة أشهر الأولى) إضافة إلى غياب المعزز الثقافي والفقر اللغوي للعائلة
المنتمية للأوساط المحرومة، تتسبب جميعها في عدم استعمال الأطفال لإمكانيتهم
بطريقة فعالة أكثر، لانطلاقهم منذ بداية مسيرتهم مجردين من أي سلاح.
إن التعليم المدرسي وبرامجه، اللذين يستندان أساسا على
دعامة شفاهية، لا يمكنه إلا أن ينتقي أولئك الذين يستهدفهم حقا، وليس غريبا أن
تعمل البنيات المدرسية على إعادة إنتاج البنيات والطبقات الاجتماعية-الاقتصادية.
لقراءة المقال اضغط
على: فلسفة التربية: بصدد الكفايات
وضعية المعلم([3])
إن الطابع المحافظ للمؤسسة المدرسية، المتفشي والمتكتم
والمتخفي، تزيد من حدته بعض المواقف التي »تفرط في تحديدها« هيئة التدريس([4]).
إن الأصل الاجتماعي للمدرسين يشهد بالفعل على التوجه الليبرالي
للمدرسة. إنه النموذج جميل عن حركية اجتماعية يشيعها التعليم، إبان »المرحلة المجيدة« بحسب الخطاطة
الكلاسيكية: فلاح- معلم- أستاذ. وحتى إن عرفت حركات الارتقاء الاجتماعي، في زمننا
هذا، تزايدا بين الفئات الاجتماعية المتقاربة جدا، فإن التدريس يبقى، بالنسبة
للمعلم على الأقل، الوظيفة الأكثر »شعبية« (فلاحون، عمال، تجار، ضباط).
من الطبيعي أن يرى الأساتذة أن نجاحهم، إن لم يكن يعود
لقدراتهم، فلعملهم الخاص بمدرسة تحقق تكافؤ الفرص. إنهم، بهذا، ينقلون إيديولوجية »نظام الاستحقاق «ضمن مثلهم الأخلاقية والسياسية( فهم دعاة للتحرر أكثر منهم
ثوريون) وضمن الفكرة التي يكونونها بشأن الخاصيات الطبيعية التي يتطلبها التفوق
المدرسي لتلامذتهم( النواقص الأكثر شيوعا التي سبق ذكرها ومنها الكسل وعدم
الانتباه).
و اختيار شريك الحياة يعتبر بدوره عاملا ذا دلالة: 90% من
الأساتذة متزوجون من نساء مدرسات أو مثقفات.
أما فيما يتعلق بالطرائق البيداغوجية المستعملة، فإن
الأجوبة الحذرة أو المتهربة، والامتناعات العديدة تشهد على ما يعانيه عدد من
المدرسين من حالات عدم الارتياح: إذ ثمة رغبة في القطع مع الرتابة، تحول دونها الواجبات
التي تفرضها المؤسسة( المقرر، أعداد التلاميذ، نقص الوسائل ...) مما يعوق كل
محاولة للتجديد البيداغوجي.
إجابةً عن السؤال »أين تقضون أوقات فراغكم«، أبرزت
الإجابات طابع» الاسترسال الزمني الطويل chronophagiqe**» الذي يميز عمل
المدرس: فساعات العمل، وإعداد الدروس، والمهام الإدارية الخارجة عن أوقات العمل،
تعمل جميعها على التهام جزء كبير من وقت المعلم، تاركة وقتا أقل لممارسته هواياته.
يخصص جزء كبير من هذا الوقت المتبقي للحياة العائلية و الثقافية المرتبطة بالمهنة.
و تكتمل الصورة لدينا عن العزلة النسبية التي يعيشها المدرس حين نعلم أنه يختار عن
طواعية أصدقاءه من وسطه المهني. هذا الانغلاق عن العالم يمكن تفسيره، من جهة، بالوجه
المحافظ للمدرسة، المفارق للواقع، و، من جهة أخرى، الطابع التلقائي للطوباوية
البيداغوجية الذي يبقى المعلم، في ظل إخلاصه للمدرسة، خير مدافع عنه.
بهذا يعتنق المدرسون قيم النظام، الذي هم أنفسهم نتاجه، معتبرين
أن الفضل في ثقافتهم ونجاحهم الاجتماعي يعود إليه. هذه المطابقة بين المدرسين وبين الطبقات
الاجتماعية العليا لا تُرى، من هذا طرف أو ذاك، باعتبارها كذلك. وعلى هذا النحو،
فالأمر أشد خطورة من كل تواطؤ منظَّم.
لنفس الأسباب يمكن لبعض من حالفه الحظ في مساره الدراسي،
المنتمين للطبقات الدنيا، أن يُضْفوا نوعا من الشرعية على الانتقاء المدرسي حيث تترك
لديهم انطباعا مفاده أن النجاح هو مسألة ملكات:
» مستلبين
بتحررهم، فإن نجاحهم المدرسي سيكون ثمنه اقتناعهم بجدارة نظام الاستحقاق الذي تعد
المدرسة ركيزته، هذا النجاح الذي سيضاعف قناعتهم في المدرسة، التي يعود لها الفضل
ولو جزئيا في هذا النجاح([5])«
المرجع: *Henri Salvat:
L’école, une course d’obstacles; in: L’échec scolaire: doué ou non
doué,editions sociales, 1976? Paris, Pages:22-27
الهوامش
[1]-
عمل
هنري سالفا HENRI SALVAT ، في كتابه: الذكاء: أساطير وحقائق، على تجميع نتائج
العديد من الأبحاث، ومراكمة الوثائق، والتحاليل والدراسات النقدية، بغرض البرهنة
على أن »الذكاء »الخالص« وهم يغطي حقيقة وجود ذكاءات
متعددة الأوجه، تحدث إبان السياقات التاريخية للأفراد؛ يتنافى هذا تماما مع الطرح
الذي يجعل هذا ذكيا وذاك أقل منه ذكاءً. إننا ندعو بإلحاح الأساتذة، و الآباء
والطلبة إلى قراءته. والصفحات التي ننشرها هنا مأخوذة من الفصل III، ص: 111وما يليها، وص: 147ومايليها.(إشارة من المنشورات
الاجتماعية)
[2] - Bulletin
de Psychologie, numéro spécial, 1967.
[3] - ص.147
[4] -
لابد من قراءة كل الأبحاث السوسيولوجية المنشورة في هذا الموضوع، على الخصوص،
العدد الخاص من مجلة
Enfance sur «La condition du maître» nos 2-3, 1966 ; L'Univers des instituteurs
de Ida Berger et R. Bendamin, Editions de Minuit, Paris, 1964 ; Les
Professeurs de second degré de Gérard Vincent, A. dolin, Paris, 1967 ; Mythes et réalités du « prof» y sont analysés d'un Œil clinique et
pertinent. (Note de H. Salvat.)
** -
ابتكرت في عصر النهضة من كلمتين إغريقيتين chronoالتي تعني الزمن و phageinالتي تعني أكل، والمصطلح يخص
كل متسرع يعمل على التهام وقته، أو يحس أن الوقت لا يكفي لإنجاز المطلوب
[5] - P. BOURDIEU : Les
Héritiers, Editions de Minuit, Paris,1964.
هام: سجلوا تعليقاتكم بالمستطيل الخاص بالتعليقات أسفل
الصفحة