Éric Dubreucq
هل من الضروري التخلي عن فوكو؟
في هذه الأثناء يمكننا أن نبقي على ارتباطنا
ببعض جوانب هذه الأطروحة، ولا يبدو لي من المشروع «نسيان فوكو». أولا وقبل كل شيء
فيما يتعلق الأمر بإيضاح الوضع الكارثي، من نواح عديدة، لسجناء الأمس كما اليوم.
في هذه النقطة، ليس لنا الحق في الاعتقاد أن م. فوكو كان و لايزال محقا في التنديد
الذي صرح به. من جهة أخرى لابد من التذكير كذلك أنه لا يدعي كون النظام الحبسي هو
مماثل لنظام معسكرات الاعتقال الشمولي. السجون "لا تفعل سوى" تنميط ضبط
وتقويم الحياة اليومية والسيطرة عليها من جميع أبعادها؛ إنها لا تعمل البتة على
تخريبها أو القضاء عليها، حتى وإن كثر الموت بالسجن عنه في أي مكان آخر. ثمة درجة
من الاهتمام بفرضية «السلطة الصغرى micropouvoir»، باعتبارها تجعل من الممكن إدراك ما لا تسمح دراسة المؤسسات
ونظرية الدولة باستيعابه والامساك به، وبوجود إجراءات تأديبية منتشرة تُحدث آثار
على الدواخل. يمكن قول الشيء نفسه، وإن بدرجة أقل، عن التحليلات المفصلة والدقيقة
التي تقوم بها المؤسسات الاستشفائية والتصنيعية.
رابط مقالنا: مدرس الفلسفة فيلسوف؟
اعتراضاتي تجاه
تحليلات م. فوكو ليس المقصود منها، كما هو الحال في الغالب، إعادة تأهيل ما يندد
به هو من خلال محاكمتي لموقفه. فالاعتراض هو أولا وقبل كل شيء اعتراض منهجي يهم
الامتداد الذي يكاد يكون غير محدود والذي، في سياق ما يمكن تسميته بلعب المتوازيات
الغير المتوازنة أو التماثلات المتكاثرة، يلاحظ في المراقبة والمعاقبة. فمن
مقارنة مؤسسة السجن، الأكثر وصفا بشكل خاص، بمؤسسات أخرى تمت الاشارة إليها أو
استحضارها عبر لمسات قصيرة ك: المعمل، الملجأ، الجيش، المدرسة، المستشفى وغيرها،
قد يبدو أن نص 1975 انتهى بالقياس من تحليل محلي إلى تحليل المجتمع برمته. قد يقول
قائل إن هذا التعميم المفرط نموذجيٌ لحالة ذهنية سادت في هذه
الفترة. إلا أن مجموع العمليات التربوية التي يتم من خلالها إنتاج أفراد راشدين
قادرين على العيش في مجتمع، وذلك بالتأثير عليهم ابتداءً من سن طفولية معينة –ما
سأسميه، باستخدام المصطلح الفوكوي، تقنيات تكوين الفرد- تبدو لي موضوعا جديرا
بالاهتمام بمعنى أنه ينطوي على شيء آخر غير أشكال الهيمنة، والتي سبق أن أشارت
إليها تحليلات المراقبة والمعاقبة: ظهور بعض أشكال الداخلانيّة المميزة
للإنسان الحديث. ولأن العمليات التربوية هي جزء من الأشكال الرئيسية التي يضمن
المجتمع من خلالها إعادة إنتاجه ويثابر على صيانة كيانه من جيل لآخر، فإنه يقدم
التوتر الخاص بالحداثة بطريقة مثالية. الدعم المتبادل بين الثقافة وتنمية
الفردانية من ناحية، وتقنية غرس الطباع والقيم من ناحية أخرى، لا تمثل شكل العلاقة
بين السطح والعمق التي يتخفى بفضلها النظام التأديبي تحت قناعٍ ليبيراليٍ. صحيح أن
الأنظمة الـتأديبية لإخفاء هوية الأفراد التي ظهرت خلال العصر الحديث هي خاصة بهذه
المرحلة، وتبدو ضرورية أكثر بالنسبة لمجموعات سكنية كبرى مقارنة بالمجتمعات الصغرى
كالقرية الفيودالية خلال العصور الوسطى أو المدينة الإيطالية في القرن الخامس عشر Quattrocento (أو أشكال
المجتمع القبائلي لنامبِكوارا Nambikwara). وعوض أن نرى فيها باراديغم مجتمعٍ تأديبي بأكمله، بوسعنا أن نصف
من خلالها ميلاد الذات الحديثة، على حساب بعض الفروق الطفيفة أو التعديلات. إذن،
لنعد إدراج التحليل مع افتراض ظهور فرد مستقل مجهول الهوية، أو، إن فضلنا، الظهور
الحديث لكائن مجرد ومُجزَّأ هو نموذج الإنسان الحديث و، في نفس الوقت، موضوع نقد
مستمر. التأكيد على الحياة الذاتية، وغرس حياة داخلية ذات قيمة خاصة وأصيلة لدى كل
واحد، والتمسك بحميمية خاصة، أو إن شئنا مطالبة كل واحد بالعمل على التفكير في
قرارة نفسه، والعيش في العالم الداخلي الخاص بالذات، أو العالم الداخلي الخاص
بالنحن المحدد في المجتمع الصغير الخاص لأفراد حميمين، هما مصطلحان من القيم الحديثة التي
من شأنها أن تضاعف الوجود الاجتماعي للفرد المجهول. والفرد الحديث لا يرغب، وبشكل كبير،
التضحية بفرادته أو التخلي عما يعبر به عن فردانيته. فإنشاء حدود بين معيارية
مجهولة وبين داخلانية متفردة هو ما يبدو لي يميز الحداثة أكثر من محو هذه الأخيرة
من أجل جعل الأولى ذات سلطة مطلقة. ما يؤكد ذلك هي القيمة المعطاة للتلقائية
الأصيلة، التي تبرز بقوة في الفن، كما في مسألة العلاقة بالرغبات أو برؤية الطبيعة
([1]). الحميمية
الفردية، وأيضا بعض إسقاطاتها على العالم المحيط، هي مساعي تأخذ على عاتقها
مسؤولية فك تشفيراتها في عز فترة انبثاقها التلقائي و، في ذات الوقت، تنمية وإنتاج
إمكانيتها. آليات تكوين الفرد التي تتمثل في التربية، وأيضا تقنيات علم النفس
والتحليل النفسي أو الفن والآداب، ستشكل في هذه الفرضية تقنيات الذات
البراديغمية لعصرنا نحن.
رابط المقال: المدرسة،فسحة للتفكير
إن كانت هناك بالفعل أنماط متعددة تعطي الانطباع بوجود
سلطة كلية في العصر الحديث - نظام للمراقبة يعتمد « رؤية بانورامية système panoptique» ، هندسة
معمارية تتيح الشفافية و المراقبة أو سجلات بيانات مصاحبة لنظام بيروقراطي و
روتيني للإشراف العام على الحياة اليومية- فمن المفارق أن إنتاج عفوية فردية من
خلال عمليات غرس استقلالية أصيلة هو على الأقل سمة من سماته الأساسية. إنها جزء من
عملية إقامة مسافة و حدود بين لحياة الخاصة و الحياة العامة، في إطار تطور ما
يسميه شارلز تايلور بالعالم، الأصيل و الغير المسبوق إلى حد كبير، للحميمية([2]). وبهذا
يمكن إذن تأييد فرضية أن إعطاء قيمة للداخلانيّة الفردانية أمر يميز الحداثة ويفصح
عن نفسه من خلال جعل الحياة اليومية غير معلومة، وأن التبني الضمني لهذا التقدير
للذات الحديثة يؤدي إلى إدانة عمليات المراقبة والتأديب. فالطابع المحدود المميز
لتحليل فوكو للسلطة هو في الأساس واحدة فقط من أكثر النسخ، الرائعة بالتأكيد،
الشائعة لنقد المجتمع والحداثة لاعتبارها تجزيئية و مجردة، وبعبارة أخرى إنها
واحدة من آثار أمرٍ زجري حديث بغرس الذاتية والعفوية بالداخلانية الفردية. المطلب
الأساسي، الموجود في أماكن عديدة من كتاباته ابتداءً من المرض العقلي و الشخصية
و حتى الصفحات الأخيرة من الحياة الجنسية، والذي لم يتعرض أبدا للنقد أو
للتقييم، هو على ما يبدو لي شرط الثقافة الشخصية للفرد. و عوض أن يشكك م. فوكو في
منبع هذا المطلب الزجري المتمثل في ثقافة الذات، أعاد فعلا تأكيده و بلورته.
Dubreucq
Éric, « Philosophie de l'éducation et philosophie du sujet. Pour une
enquête philosophique sur la figure modernede la subjectivité dans l'expérience
éducative moderne », Le Télémaque, 2006/2 (n° 30), p. 77-106. DOI :
10.3917/tele.030.0077. URL : https://www.cairn.info/revue-le-telemaque-2006-2-page-77.htm
هوامش
[1] - تدخل هذه الاتجاهات في تكوين ما يسميه شارلز تايلور ال«ثقافة
الحداثة». أنظر: Sources
of the self, Cambridge, Cambridge University Press, 1989 ; trad.
fr. C. Melançon, Les Sources du moi. La formation de l’identité moderne,
Paris, Seuil, 1998.
[2] - أنظر: C. Taylor, Le Malaise de la modernité, Paris,
Le Cerf, 1994.