أخر المقالات

تاريخ التربية والتعليم داخل العلوم التربوية وخارجها (الجزء 3)

 





 François Jacquet-Francillon

لقراءة: الجزء الثاني

فعالية المذاهب وخطابها

يفترض تاريخ التربية والتعليم التقليديين قدرة مركزية للخطاب المودوع في طي المذاهب على إثارة مشاريع واتخاذ القرارات، وعلى توجيه الممارسات، وبالتالي على توليد التاريخ الحقيقي، بحيث يجد هذا الأخير حقيقته في ذاته. هكذا نجد تاريخ البيداغوجيا يتحقق من خلال التطور في حب الأطفال، ويسجل تاريخ المؤسسات المدرسية سياسة الجمهورية، أو يكتمل تاريخ البيداغوجيا بالمناهج الحديثة. فهناك معنى في التاريخ ومعنى للتاريخ. والحاضر يفسر الماضي، لا العكس.

إضافة إلى ذلك، تقضي وجهة نظر الفعالية المذهبية (بالتالي وحدة الخطاب) بفهم الموضوعات التي، بعد تفرعها إلى مذاهب وأفكار، تعمل على تحويلها إلى دلالات، ومبادئ وقواعد قابلة للتعليقات والتطبيقات. نفكر هنا في موضوع «مركزية الطفل» (مبدأ التمركز حول الطفل puérocentrique)، وموضوع «التلميذ النشط» (معيار سيكولوجي)، وموضوع الـ«علمانية» (المثال الجمهوري)، وغيره. هكذا سيتم، بما يتجاوز المذاهب والأعمال، توضيح أنشطة الفاعلين، المعتادين على الأهداف التي تنص عليها تلك المذاهب.

إن التاريخ الاجتماعي والثقافي للتربية لا يتوخى نفس الأهداف. فهو، من جهة أولى، يسعى، من خلال تكوين سلاسل من المعطيات، إلى موضعنة سلوكات جماعية وتمثلات دون افتراضات مسبقة؛ لكنه، من جهة ثانية، يربط بين هذه المعطيات المتعلقة بالسلوك وبالعقليات ليس بوحدة أي مذهب كان، وإنما بتعدد السياقات الاجتماعية والثقافية التي تظهر فيها. وهكذا فإن التطور الذي أحرز في مجال محو الأمية، كما وصفه كل من فوريه وأزوف يمكن تفسيره بالتحولات الأنثروبولوجية والديموغرافية (التحولات العائلية)، والتحولات الاقتصادية والاجتماعية (علاقات المدن والقرى، ومختلف الأنماط الاحتكار القروي)، التطورات الثقافية (التوسع والتبادل الثقافي المكتوب)، وغيرها. كما أن أعمال ر. شارتييه بشأن تاريخ الممارسات الثقافية، لاسيما ممارسات القراءة واستخدامات المطبوعات، تتبنى إجراءً مماثلا، من خلال مُساءلة الوسائط (هل يتعلق الأمر بالآداب العالمة أم بكتب شعبية متداولة عن طريق الباعة المتجولين؟)، والاستخدامات (قراءة صامتة أم الجهرية؟)، وأنماط التملك (قراءة علنية أم خصوصية؟)، وما إلى ذلك. من هنا ظهرت طريقتين للقراءة في القرنين 18 و19. فمن ناحية، هناك قراءة «مكثفة» (الإلمام التقليدي بالقراءة والكتابة traditional literacy)، المبنية على التبجيل والاحترام، التي تتعامل، مع عدد محدود من النصوص مثل الإنجيل، وكتب التقوى، والتقاويم almanachs، والتي تفضل فيها الوضعيات الجماعية (القراءة والاستماع جماعي، بين أفراد الأسرة، وفي الكنيسة). ومن جهة أخرى، قراءة «واسعة»، التي تطورت ما بين 1750 و1850، ومورست على نصوص أكثر عددا، تقرأُ بصمت وداخل وضعيات حميمية، مع توفير ظروف مادية مناسبة، بما فيها أثاث محدد: مختصر القول إنها قراءة معلمنة([1]).

وباختصار، يعيد التاريخ التقليدي للتربية والتعليم بناء فضاءات للفكر والعمل متجانسة، التي لا تعرف قطيعات، وإنما تعارضات مذهبية (كالتعارض بين احترام الطفولة وترسيخ السلطوية، أو بين الدوغمائية المسيحية والتسامح الجمهوري). على العكس من ذلك، يتناول التاريخ الاجتماعي والثقافي عوالم من الخطابات والممارسات غير المتجانسة، تعمل فيها الانقطاعات والانزياحات والانحرافات (كما هو الحال بين محو أمية لدى الرجال ولدى النساء، أو بين التلقين الديني وأشكال المخالطة الاجتماعية الدنيوية). وعليه، إذا كانت الأولى تتصور التطورات عقلانية كونية حيث الحاضر دائما في صراع مع الماضي، وأنه يُترك في النسيان، فالثاني يسائل بالفعل التحولات غير القابلة للارتداد، وأيضا تكيفات غير ثابتة/الهشة أو راسخة، الناجحة أو الفاشلة، التي تُنجح تفاهمات محلية بين الجديد والقديم، تطورية أو مركبة.

 

تاريخ المعارف المدرسية

ما بين التاريخ التراثي والتاريخ السوسيو-ثقافي، هناك تنوع جوهري في المواضيع، وليس فقط في زوايا النظر إلى المواضيع نفسها. قد أشرتُ إلى تاريخ محو الأمية وتاريخ التمدرس، وأود هنا أن أتطرق إلى تاريخ الثقافة المدرسية، وأيضا إلى تاريخ الممارسات والتقنيات التعليمية القريبة منه. بهذا أطمع في استكمال نظرتي العامة هذه بوقوفي على مضامين التعليم. اليوم وقد ترسخت بشكل جيد هذه المقاربة، يكشف لنا هذا التاريخ عن تكوين أصناف الثقافة المدرسية وأصناف التخصصات المدرسية. أود التأكيد على هذه النقطة تحديدا. فالاهتمام بالمحتويات قد كان ضعيفا جدا في إطار التاريخ-الذاكرة. هذا الإغفال أصبح مثيرا للدهشة، بما أن الكتاب الافتتاحي لدوركايم، تطور البيداغوجيا في فرنسا([2]) (ربما هو الكتاب الذي يستوجب على علوم التربية أن تستند إليه قبل غيره)، قد جعل منذ صدوره من هذا الموضوع بالتحديد محور اهتمامه. وقد بُدئ في إصلاح هذا الإغفال ابتداءً من بحوث أ. شيرفيل، ومن مقال نشر بمجلة تاريخ التربية سنة 1988([3]). قد تضمن نفس العدد أيضا مقالا جد مهم لهيبرار، وضع فيه برنامجا مختلفا بعض الشيء. ولا يقل أهمية التذكير أنه، في نفس السنوات، بدأت سوسيولوجية المنهاج الدراسي في إنجلترا تُعرف جيدا في فرنسا.

لإعطاء فكرة عن نتائج هذا النوع من المقاربات، سأستشهد هذه المرة بمثال من بحوث أ-م. شارتييه حول تعلم القراءة في المدرسة (انظر على وجه الخصوص «أبجديات مناهج تعلم القراءة: نشأة الكتاب المدرسي الحديث قبل قانون فيري»([4])). ويزداد المثال وضوحا إذا ما قورن بآخر يندرج تحديدا ضمن تاريخ تراثي، ويتمثل في الدراسة التي نشرت بقلم ج. غيون ضمن المؤلف الجماعي تحت إشراف غ. أفانزيني الذي أشرت إليه أعلاه. بحسب هذا المؤلف، تاريخ القراءة هو في الواقع سلسلة من «الطرائق» القائمة على مبدأ عام، والتي على إثرها، ومن خلال الابتكارات المتراكمة (التهجئة الجديدة بعد القديمة، ثم التهجئة المقطعية بعد الإملاء، وغيره)، سوف نشهد تطورا ضروريا للعقل الديداكتيكي، إلى أن تتبلور في النهاية تقنيات عقلانية وفعالة. إن التاريخ ينبني، مرة أخرى، على ثنائية القيم –الصور النمطية- بين الـ«الرجعي» والـ«حداثي».

دعونا نتأمل، مع أ-م. شارتييه، التهجئة المعمول بها في خضم النظام القديم والذي استعمل إلى حدود القرن 19. كان يطلب من التلاميذ تهجئة كل كلمة أو مقطع قبل أي قراءة للكلمة. فكيف يمكن فهم الانتقال من التهجئة السابقة (bé, cé, dé) إلى التهجئة الجديدة (Be, Ce, De)، ونحن نعلم أن الأولى تمثل أسلوبا لتسمية الحروف، في حين أن الثانية تهدف إلى نطقها، مما يعطي قيمة فونولوجية أفضل للأصوات الساكنة ضمن المقطع اللفظي؟ للحصول على جواب قد لا نجده إلا قليلا في التبريرات البيداغوجيين، إن وُجدت، علينا القيام بملاحظتين. الأولى، وهي ذات أهمية كبرى، أن هذا التنوع سيتوافق مع تعلم للغة الفرنسية، لا باللاتينية. أما الثانية، أن التهجئة القديمة كانت تمارس تأثيرها على النصوص المنقولة والمتعلمة شفويا، أي على صلوات بالدرجة الأولى، وهي نصوص مسموعة ومحفوظة عن ظهر قلب قبل فك شفرتها قراءةً، وذلك بمجرد تعلّم أسسها الأبجدية؛ في المقابل، إن التهجئة الجديدة، التي ظهرت ابتداءً من القرن 19، تُستعمل في تمارين تُحفظ فيها كلمات أو مقاطع صوتية يُعاد استثمارها لاحقا في فك رموز نصوص مجهولة –لكنها مأخوذة من نفس العالم الثقافي الديني. إذن، ما الذي توحي به هاتان الملاحظتان؟ أنه في سياق ثقافة جديدة حدثت هذه التحولات، وليس تحت تأثير مبدأٍ صريح أو عقلاني بلوره مذهب أو مؤلِّف (أيّ مذهب وأيّ مؤلِّف ومتى؟) لينقله إلى التابعين.

أما حين بدأت، في منتصف القرن 19، الطرائق «بدون تهجئة» توصي بالقراءة المباشرة للمقاطع والكلمات، وبدأت تنتشر القراءة المقطعية ودراسة تقابلات المنظومة الصوتية graphophonétique، تغيرت الرهانات مرة أخرى. لنأخذ، متبعين مرة أخرى أ-م. شارتييه، كتابا مثل الأبجدية وأول كتاب للقراءة، الذي نشرته ودعمته سلطات عام 1832، في الوقت الذي شاع فيه استعمال مصطلح «الطريقة»، وظهر فيه معجم جديد يضم كلمات غريبة ك«citolégie» و«statilégie» الخ. في هذا الكتاب المدرسي، الذي يُعد نموذجا مميزا ضمن التيار الحديث، لم يعد موجودا الترتيب الذي كان يضع الأبجدية في المقدمة، والذي يبدأ بتعليم القراءة بمجموعة من التمارين على الحروف المتحركة، ويواصل بتمارين على الحروف الساكنة، قبل أن ينتقل إلى المقاربة المقطعية، مارا من الأبسط إلى الأكثر تعقيدا، الخ. والواقع أن الحروف، التي أدرجت ضمن عائلات صوتية، هي مُقدمة في ترتيب جديد و، مع زيادة الوقت المخصص للمقاطع الصوتية، تصل النصوص المراد اكتشافها، والمجهولة، في مرحلة متأخر من المنهاج الدراسي. ومع ذلك، يمكن تفسير هذه التحولات، كما التي قبلها، بحسب السياق الذي يفضل في هذه المرة الثقافة العالمة أو على الأقل ثقافة في طريقها إلى العلمنة –دون أن تخلو من نوايا أخلاقية. على التلاميذ أن يحفظوا دائما عن ظهر قلب، لكن المضامين التي يخزنونها قد أصبحت من طبيعة مختلفة، فقد تكون أقل دينية، وأكثر «قربًا من الاستعمال اليومي»، وهلم جرا. في هذا إطار، حيث تفرض الفرنسية وأهداف الثقافة المُعلمنة نفسيهما، يتجلى الغرض الأسمى من تعليم الإملاء؛ إذ لفترة طويلة بدأ الزوج الإملاء-أسئلة يهيمن على المدرسة الابتدائية.

ولكي يكون المشهد مكتملا، لابد من إدراك التقارب المذهل بين هذه التطورات وتطورات أخرى، تلك التي تحدث هذه المرة داخليا، ضمن الإطار المدرسي والبيداغوجي. من ناحية، يتم دعم حفظ العناصر التي يجب نطقها وتطبيعها تقريبًا من خلال التعلم المتزامن مع القراءة والكتابة، والذي تم إدخاله في بداية القرن التاسع عشر (خاصة من قبل المدارس المتبادلة). ومن ناحية أخرى، وبعد بضعة عقود، حوالي 1850، سمح بالاعتماد السريع على الريشة المعدنية بتوحيد هذا المعيار للقراءة والكتابة معا، من خلال ما توفره من سهولة في استخدام وتوفير الزمن الذي وفرته هذه الأداة (حتى لو كان حجم ريش الإوزة يشغل بداية صباح اليوم الدراسي). بعد ترسيخ النظام الشامل، في النصف الثاني من القرن، وخصوصا في عهد الجمهورية الثالثة، كانت الكتب المدرسية تحدد في نفس الوقت ما يجب قراءته وما يجب كتابته؛ هي نفس حالة طريقة شولر، التي لقيت ترحيبا كبيرا من طرف ج. غيوم ضمن معجم البيداغوجيا والتعليم الابتدائي لبويسون.

وآمل أن يكون قد تم تبيُّن القدرة على تفسير مثل هذه التحقيقات التي تأخذ نموذجا لها العلاقات بين الممارسات المدرسية والسياقات الخارجية. و، بطبيعة الحال، سيبقى من الضروري فهم الكيفية التي تتحرك بها في الواقع التعليمي. لنفترض أن في ظروف خاصة، لا يمكن فصل المعارف (المدرسية) عن الاستعمالات الثقافية (غير المدرسية)، ولا عن التجارب التي تنجزها والتي توجهها هذه الاستعمالات التي توفرها ثقافة خاصة. لا يتعلق الأمر هنا بنقل أشكال بيداغوجية أو نقل المضامين التعليمية. من خلال الاستعمالات يتم نشر المُثل العليا لهذا العالم التربوي، مقدما لها من هنا قوة إنتاجية وسلطة معيارية (استنتاج الاختيارات البيداغوجية انطلاقا من المُثل الثقافية والتربوية هو ما يميز طريقة دوركايم في كتاب التطور البيداغوجي في فرنسا). يمكن، من ثَمّ، للسرد التاريخي أن يتمسك بوصف كيفية بناء المعايير الثقافية التي تشكل المعارف المدرسية –الأمر الذي لا يخلو دون تكيفات من مختلف الأنواع، وذلك لأن المعايير تمثل وصفات تُنقل باستمرار بواسطة الفاعلين الذين يقبلونها والمؤسسات حيث تتجذر فيها.

لهذه المقاربة العديد من المزايا، وأود، لأختتم، الإشارة إلى المزية الأكثر وضوحا. إنها الرؤية الجديدة إلى ممارسات التعليم التي تثيرها هذه المقاربة. يمكن القول أيضا أن بعدا مهما من أبعاد الممارسات التعليمية قد أصبح واضحا من اللحظة التي بدأ فيها الاهتمام بالمعارف المدرسية في علاقتها بالسياقات السوسيو-ثقافية الخارجية. هنا يكمن من دون شك الاختلاف الأكثر أهمية مع التاريخ-الذاكرة الذي يرتكز ليس على إنتاج المعايير من الأسفل (انطلاقا من السياقات العملية)، ولكن على تطبيق القواعد من الأعلى (انطلاقا من الخطابات والمذاهب).



[1] - انظر على وجه الخصوص Chartier 1985، 88 وما يليها. يستخدم R. Chartier شهادات وأدلة مأخوذة من السير الذاتية والروايات وجميع أنواع المحكيات، مثل المذكرات الشخصية، بما فيها أوصاف، أحيانًا عرضيًا وثانويًا، لطرق القراءة. كما تهمه أيضًا الوثائق الأيقونية: اللوحات والمنقوشات والمطبوعات. انظر أيضًا Chartier 1987.

[2] - Durkheim 1938.

[3] - Chervel 1988.

[4] - Chartier 2005.


نورالدين البودلالي
بواسطة : نورالدين البودلالي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-