Omelchenko |
نيكولاي أوميلتشينكو
ثبت على نطاق واسع أن الفلسفة، خلال
تاريخها الطويل، قد طورت، في كثير من الأحيان، منحى علاجيا. فأبيقور، على سبيل
المثال، كان كل أمله القدرة على استعمال فكره لتخليص الناس من ثلاث أنواع من
المخاوف: الخوف من الآلهة، الخوف من الحاجة، والخوف من الموت. حجته القائمة على أن
«الموت ليس له معنى بالنسبة لنا: إذ ما دمنا على قيد الحياة، فالموت غير موجود؛
وحين يقع، فإننا لا نكون هنا»، لا تزال –تلك الحجة- قادرة على إقناعنا بل ويمكنها،
إلى حد ما، أن تزرع الثقة فينا.
حين تثقل الحياة الناس بالخوف،
غالبا ما يجدون ملجأ أخيرا في عميق أرواحهم. ثمة يختبؤون، على غرار القواقع في
أصدافهم. ومع ذلك، حتى في هذه الحالة بالتحديد، يمكن للفلسفة أن تلعب دورا مهما في
علاج النفس البشرية. المذهب الشكي على حق حين يشجعنا على تعليق أحكامنا في حالة
حدوث هزات اجتماعية وميتافيزيقية، عندما تنهار الكينونة والقيم بفعل اليومي. وكأن
الفيلسوف الشاك يقول لنا: «لا تتعجلوا بتعاريفكم. فالأمور غير مؤكدة وملتبسة بشكل
كبير.» إنه يحث على التريث حين يكون هناك ضباب ابيستيمولوجي. فلسفة من هذا القبيل
تبدو لي حكيمة أكثر من تلك الايديولوجيات المزهوة التي تتعجل بتقديم تقييم شمولي
للشخص الذي تضعف معنوياته.
تنغرس الفلسفة عميقة في الطبيعة
الإنسانية. لا نتفاجأ حين يتفلسف الإنسان
العاقل l’homo sapiens. إنما نتفاجأ حين لا يفعل ذلك، ونستغرب حين
لا يتأمل طبيعة الأشياء. اليوم أخذت هذه القدرة تضعف شيئا فشيئا. نفقد بهجة
التفكير الحي ونحن مقيدين داخل نماذج من الشُّرْكة
socium
الحديثة. وإن كنا نرغب في البقاء
أناسا، يجدر بنا أن نفكر. فخلاص الإنسان مرهون بالفلسفة.
إذا كانت المعرفة الفلسفية للكائن
تفتح أمام الإنسان ما يسميه هيغل «نافذة على المطلق» (أي على اللانهائي)،
فبمقدورنا استنتاج أن الفرد، وبفضل هذه العلاقة، يمكنه أن
يثري وضعه العاطفي والفكري. لربما أن العلاقة الفعلية التي تجمع بين الشخصية
البشرية و جوهر الوجود اللامتناهي هي التي تحرره من العزلة التامة، وتسمح لهذه
الشخصية باكتشاف معنى آخر لوجودها وتنكشف لها الطبيعة الحقيقية لخلوده. بعبارة
أخرى، إن الإنسان حين يلامس اللانهائي على المستوى الذهني، يمكنه آنذاك أن يعي
خلوده.
التفكير في الجوهر اللانهائي للكون
يسمح، من جهة، بتصور جوهرٍ لانهائي للإنسان نفسه و وتثبيته في لانهائي الكون. و
يعني التفكير في اللانهائي، من جهة ثانية، اكتساب السلطة منه، والتي هي سلطة
لانهائية. بتعبير آخر، إن التفكير في اللانهائي يشْحَننا لانهائيا. إن الفلسفة
تعطي للفرد القدرة على تجاوز حدود تجربته المعيشة، ويجعل ذاته تتجاوز الواقع
اليومي إلى أبعد الحدود. من الواضح أن إسقاط الإنسان على الواقع
الميتافيزيقي، على عالم العلاقات الأساسية، هو، بالضبط، الذي يضمن الفعل العلاجي
للفلسفة.
من هذه الزاوية، تكشف الفلسفة عن
حدود بعض أشكال التحليل النفسي والطب النفسي، بإثارة انتباهنا، مثلا، إلى الطابع
المحدود لمسلماتها المنهجية. ثم إن الفلسفة، إضافة إلى ذلك، تملك من الأدوات ما
يمكنها من استيعاب نتائج ملاحظات التحليل النفسي بغية بلورة، مثلا، نظرية أفضل
محورها الحياة الروحية للإنسان. بمقدورنا إذن نبرز إمكانية العلاج الفلسفي، علاج
النفس الإنسانية بواسطة الفلسفة.
بشأن جوهر العقل الإنساني
أكدت أبحاث إيريك فروم على أن
العلاقة مع العالم الخارجي حاجة من الحاجيات الأساسية للكائن البشري. يمكن أن نرى
في هذا برهانا على صحة فرضيتنا التي تنص على أن جوهر الإنسان (ذكاء، روح، فكر)
يكمن في العلاقة، أو حتى نكون أكثر دقة، في مجموع العلاقات الكونية والثابتة (الداخلية
و الخارجية) الرابطة بين الفرد و العالم (Fromm
1955 : 22-66 ; Omelchenko 2005 : 94-99).
أما بالنسبة لشيلر، فالإنسان، بفضل
فكره، يحتل مكانة متميزة داخل الكون. ويقصد بالفكر اتحاد العقل أو الفكر المفاهيمي
بمجال الأحاسيس، والانفعالات، والارادة –و باختصار مجموع نشاطاته العقلية
المعروفة.
إذا تم النظر إلى جوهر جميع
الكائنات باعتبارها تدخل في علاقة ما، ستكون أمامنا فرصة إمكانية فهم جوهر الإنسان
باعتباره إنسانا مفكرا. دعونا الآن ننظر إلى مكونات الروح الإنسانية.
بدءا، يمثل كل فرد من الأفراد
البشرية جمعاء. وتشكل مجموع العلاقات الكونية المترسخة بين عدد من الأشخاص جزءاً
من جوهر الإنسانية. إن حاولنا تصور فرد معزول تماما عن المجتمع، سندرك سريعا أن
فردا مماثلا سيتوقف عن الوجود كإنسان. عزلة كهذه تعادل العدم. هذا يمكّننا من
التأكيد على أن مجموع العلائق الكونية الراسخة، ليس فقط بين الكائنات البشرية التي
تعيش الآن بل وبين الأجيال السابقة واللاحقة، تشكل في مجموعها أحد مكونات الجوهر
الإنساني (لوغوس).
في مستوى ثانٍ، ثمة علاقات ثابتة
داخل الجسم الإنساني. هذه العلاقات تحكمها دارات عصبية دماغية، ميكانيكية،
فيزيائية، كيميائية، فيزيولوجية، جينية وغيرها تعمل على تنظيم الجسد بأكمله. وتؤثر
هذه البنيات بعضها في بعض مشكلة «محورا» مركزيا، وأقصد به اللوغوس الداخلي
للإنسان. أكثر من ذلك هناك تفاعل بين الترابطات الداخلية والخارجية، التي تشكل
أيضا شرطا للجوهر الإنساني.
في مستوى ثالثٍ، يشتمل الجوهر
الإنساني على علاقات بين النوع الإنساني والطبيعة. بينما تشكل مجموعة العلاقات
الكونية الثابتة بين المجتمع والطبيعة جزءاً من الجوهر الإنساني.
من وجهة النظر هذه، يمكن، من ناحية،
تقديم الفكر (ذكاء، روح، عقل) كعلاقة بين الإنسان والعالم الذي يحيط به و، من
ناحية أخرى، كعلاقة للإنسان بنفسه (أي ظاهرة التأمل الذاتي). تصبح هذه العلاقات
مرئية و مسموعة بواسطة اللغة الإنسانية. وبهذا لا
يتموقع العقل البشري في الدماغ فقط بل أيضا خارج حدود الدماغ، أي في العلاقة بين
الجسد البشري والواقع الخارجي.
لهذا السبب لا يشكل الدماغ العضو
الوحيد في التفكير. فالكائن الإنساني يفكر باستعمال جميع مكوِّناته –كل أحاسيسه،
كل الفترات التاريخية المتقدمة عنه، كل تجارب وطنه، و تجارب مجتمعه، وتجارب
الإنسانية جمعاء. وعليه، فالجوهر الإنساني (ذكاء، روح، عقل) هو مجموعة من العلاقات
الكونية الثابتة (الداخلية والخارجية) الكائنة بين الفرد والعالم. يؤدي بنا هذا
إلى استنتاج أن العقل البشري حالة وجودية متحققة فعليا في الكسموس اللامتناهي: فهو
كسموس [عالم] مصغَّر لا يمكنه، من حيث هو كذلك، أن يكون محددا كليةً من طرف مؤسسات
اجتماعية محددة. إذ أن صيغة «الكائن الإنساني عالم مصغر» تنطبق على الماضي كما
تنطبق على المستقبل.
الروح البشرية هي الأخرى لا تستوي
فقط داخل الجسد البشري بل خارجه أيضا: بين الفرد والمجتمع، بين الفرد والكسموس.
إنها إذن تمتلك بعدا خارج-مكانيا وأبديا. و لكونها في الواقع لانهائية، فإنها لا توظف
تعريفا لا يقبل الطعن. تعريف للروح بهذه الصفة يعني موتها. فلانهائية الروح
البشرية هي التي تشكل خلودها. وبعبارة أخرى، يمتلك الكائن البشري مبدأ خالدا. وفي
الطبيعة الإنسانية يندمج الموت والخلود في بعضهما البعض.
دعوني أعرض لحجتين داعمتين لمبدأ
خلود الكائن البشري. بادئ ذي بدء، إن لانهائية العقل البشري تتجلى ضمن التصورات
الكونية، بدءا بالتصنيفات الفلسفية. فعلى سبيل المثال، يشير مفهوم ال«كائن البشري»
إلى فرد واقعي مسمى بهذا الاسم وفي نفس الوقت إلى شيء آخر أكثر عمومية ما دام
المصطلح يحيل على البشرية جمعاء: أولئك الذين عاشوا قبلنا، والذين يعيشون الآن
وهؤلاء الذين سيعيشون في المستقبل. وعليه، فمفهوم ال«إنساني» وحده يدفعنا خارج
حدود الشخصية الفردية و خارج الواقع الملموس ويسقطنا في اللانهائي. والحقيقة أننا
عاجزون عن رؤية مدى امتداد مفهوم ال«إنساني».
إن الإنسان، بفضل عقله، يحافظ ويصون
علاقة ثابتة مع اللانهائي، حيث يطور بالفعل مفاهيم كونية تمكنه من الدخول في علاقة
مع نفسه. هذا في حد ذاته يكفي للبرهنة على فرضيتنا التي تنص على أن الكائن البشري
مخلوق أبدي. اتصالنا باللانهائي جزء من حياتنا العادية اليومية: إذ الخلود جد مألوف
لدينا حتى أننا نكاد لا نلاحظه.
ثانيا، الخلق نفسه يعني الخلود. لكن
ماذا نعني بالخلق؟ أفلاطون يعبر عنه بشكل مثير للإعجاب في المأدبة (e206)
«الإنجاب هو ما قد يشمل خلود وسرمدية كائن ميت». ومع ذلك فكل الخلق قادر أن يُفسَّر على أنه ولادة وليس
استنساخا للحياة فقط. هذا يشرحه أفلاطون على المنوال التالي (c205(:
كل ما يشكل سببا للمرور من اللاوجود إلى الوجود هو «شِعر» أو
خلق. العمليات التي تنتمي لميدان الفنون هي إبداعات créations؛ و الذين يمارسون الفنون هم شعراء أو مبدعون خلاقون.
كل ولادة، سواء أكانت ولادة أطفال،
أفكار، مشاعر، صور، موسيقى، بنايات معمارية أو غيرها من الإنجازات المادية، تعطي
للإنسان «نوعا من الأبدية والخلود». لذا يمكن اعتبار الخلق من حيث هو تعبير عن
اللامتناهي في المتناهي، مبدأ لخلود المخلوقات الفانية. فنحن نستمر في الوجود من
خلال إبداعاتنا. و الإنسان بإبداعه يلج، إلى حد ما، إلى مرتبة الألوهية. إذ
الإبداع هو عامل خلود الإنساني، لكنه بوصفه مخلوقا بسيطا فالكائن البشري غير
مكتمل، محكوم عليه بالمعاناة، بالوجود دون أفق مستقبلية، بالتلاشي بشكل تدريجي حتى
الموت الحتمي.
وهكذا، فمن ارتساماتنا السابقة عن
الروح البشرية، نستنتج عدم إمكانية إعطائها أي تعريف نهائي. فالروح البشرية تقوم
على مبدأين: مبدأ الوفاة و مبدأ الخلود. مقدَّر على الإنسان أن يطور مبدأ الخلود
لديه، أي أن يميل نحو الألوهية. وبهذه الطريقة أرد على سؤال «ماذا يعني أن تكون
إنسانا؟».فلسفة الكائن البشري و التحليل النفسي الوجودي
« و وددت أنا
أيضا أن أكون... هذه نهاية
القصة.» هذه الكلمات المأخوذة من الغثيان
(1938) لجان بول سارتر يمكنها أن تكون عبارة توجيهية لمشروعه الخاص
بالتحليل النفسي الوجودي. في كتابه الوجود
والعدم (1943) يشير إلى أن المهم ليس هو الوجود الفعلي لهذا التحليل النفسي
وإنما حقيقة كونه ممكنا.
تشكل «الرغبة في الوجود»، بالنسبة
لسارتر، الخاصية الأكثر أساسية للإنسان. المشروع الأولي الذي يجد له تعبيرا في
كلٍّ من ميولاتنا القابلة للملاحظة تجريبيا هو مشروع الوجود. هذه الرغبة في الوجود تتكشَّف من خلال العديد من
الأحاسيس الخاصة: الغيرة، الجشع، حب الفن، الجبن، والشجاعة... و العديد من
التعابير ذات الصلة والقابلة للتجريب، التي يبدو لنا من خلالها الواقع الإنساني
كما يتبدى لدى فرد بعينه، و بهذه الطريقة فقط. وإذا كان صحيحا أن الواقع البشري
يتحدد ويتعرَّف من خلال الأهداف التي يسعى لتحقيقها، فإن دراسة وتصنيف هذه الأهداف
سيكون ضروريا. أضف إلى ذلك أن الطريقة الأفضل للإمساك بمشروع الواقع الإنساني
الأساسي تتلخص في القول أن الإنسان هو المخلوق الذي يطمح ليكون إلاها. «أن يكون
الإنسان إنسانا يعني أن يطمح ليكون إلاها. أو، إذا شئنا، إنها الرغبة في أن يكون
إلاها».
من الواضح أن ما يؤكد عليه سارتر
هنا مبالغا فيه. كلٌّ منا، وكما قال أفلاطون، بإمكانه الحصول على «جزء من الخلود
والأبدية»، بحيث لا نستطيع أبدا أن نشكل سوى جزء من الألوهية. فليس لفردٍ، من حيث
هو كذلك، أي حظ في احتلال مكانة الله ليصبح مطلقا جديدا. هذا سيعني أنه وجد
اللانهائي في كليته. و ال«رغبة ليكون إلاها» طموحٌ مبالغ فيه؛ بالتركيز على هذا
الطموح يضيِّع الواحد منا حياته. لذا فأهمية التحليل النفسي بالنسبة لسارتر تكمن
فقط في فهمٍ أفضل للكائن الإنساني بهدف القدرة على القيام بتفسيرٍ تحليل نفسيٍّ
صالح.
لكن دعونا نعود إلى مسلمة سارتر
القائلة أن: «الإنسان هو الرغبة في الوجود». نحن نتذكر أن لودفيغ فيورباخ
(1804-1872) قدم تقريبا نفس التفسير لجوهر الإنسان. مقالته في يودايمونيا[الرفاهية والسعادة الذهنية]
تبدأ بالتأكيد التالي:
كل مخلوق حي يحب حياته؛ يريد أن يحيا ما دام أنه حي؛ يريد أن
يكون ما دام أنه موجود؛ لهذا فهو يطمح بالأساس إلى الرفاه، والصحة، والسعادة...
إن التطلع إلى السعادة، بالنسبة
إليه، هو الغاية الطبيعية لكل كائن حي يحب، يوجد ويرغب في الوجود. فالسعادة تشمل
كل ما يمس الحياه، أو على الأقل كل ما يسعى إلى الرفاهية. وهكذا يتم التعبير عن
كنه الجوهر الإنساني من خلال الحكمة القائلة: «أريد، إذن أنا موجود»، بحيث أن
«أريد» تعني «أريد أن أكون سعيدا و لا أريد أن أتألم». فلاسفة آخرون أمثال جون لوك
(1632-1704)، نيكولا مالبرانش (1638-1715) أو كلود أدريان هلفتيوس (1715-1771) قد
عبروا قبلا عن أفكار مماثلة.
يؤكد فيورباخ أن الانتحار لا يتعارض
مع التطلع إلى السعادة. إذا بدا هكذا فعل للوهلة الأولى ضد التطلع إلى السعادة،
فهو غير ذلك في الواقع. والواقع أن هذا الفعل لا يكون ممكنا إلا إذا كان الأذى
الذي ينحو الفرد صوبه يبدو حسنا بالمقارنة مع الأذى الذي يعمل فعله على تجنبه أو
إزاحته تماما. و يضيف قائلا أن الذي يضع حدا لحياته ينشد الموت، ليس لأنه ينهي
محنه وآلامه، بل لأنه يبدو له العلاج الوحيد ضد العائق، أو يهدد بإعاقة غير
محتملة، لتطلعه إلى السعادة.
للتطلع إلى السعادة قدرة قاهرة. ومع
ذلك، فسلطتها المطلقة تبرز على الخصوص في حالة التعاسة. «يمكن القول أن فواجع
الحياة قد نفذت عميقا في أحشائي، حتى أنها شَفَطَت خارجي كل فرح وكل طاقة حيوية
حيث لم أعد أعرف قطعا سوى وجود واحد، هو وجود الفاجعة، و عدم واحد، هو عدم الفاجعة» (فيورباخ 1960).
وعليه، وحسب فيورباخ، الذين ينتحرون
أو يتعاطون الدعارة هم مدفوعون لذلك تشوقا للسعادة. ولابد من الاعتراف، بطبيعة
الحال، أن المجرمين والذين لديهم غريزة تدميرية يحْيون هم أيضا وفق قانون السعادة.
كل منهم يمكنه القول، على غرار سارتر: «أنا الآخر أريد أن أكون...».
معنى لحياتنا؟
يحتاج كل مخلوق لماهية تبرر وجوده
في العالم. و الكائن البشري، لتحديد ماهيته، يحتاج إلى معنى. من هذا المنظور،
يمكننا بسهولة قبول نظرية فرانكل القائلة أن الفراغ الوجودي هو العامل المؤدي
لعصاب جينة نو névrose noogénique الذي قد يؤدي للانتحار.
إن مريض اليوم، حسب فيكتور فرانكل
(1905-1997)، يعاني من شعور قوي بفقدان للمعنى يصاحبه إحساس بالفراغ؛ لهذا يتحدث
المحلل النفسي عن «فراغ وجودي». إنه يرى أن فقدان المعنى انطباع ينتشر أكثر فأكثر.
وعوض أن يقدم حججا، يفضل فرانكل (2006) توضيح أطروحاته بأمثلة. هذا واحد منها
تفيدنا الاحصائيات أن من بين أسباب
الموت لدى الطلبة الأمريكيين، تأتي حالات الانتحار مباشرة بعد حوادث الطرق.
محاولات الانتحار (التي لا تنتهي بالموت) هي خمسة عشر مرة أكثر من الانتحارات
الناجحة.
حصلتُ على هذه المعطيات الإحصائية
بعد لإجراء مسح على 60 من طلبة جامعة أيداهو قاموا بمحاولة انتحار. عندما سئلوا عن
دوافعهم، كانت الإجابات كالتالي: 85% منهم لا يرون معنى لحياتهم؛ 93% من هؤلاء
كانوا يتمتعون بصحة جيدة جسديا وعقليا، يعيشون في سعة، مرتاحين وسط أسرهم؛ لديهم
علاقات اجتماعية واسعة و كل ما يجعلهم راضين على أدائهم الأكاديمي.
مثال آخر مأخوذ من رسالة توصل بها من طالب أمريكي:
عمري 22 سنة؛ حاصل على شهادة
جامعية، أملك سيارة كبيرة، مستقل تماما من الناحية المالية، وأتوفر من فرص الحياة
أكثر مما يمكنني الحصول عليه. والسؤال الوحيد الذي أطرحه على نفسي باستمرار هو:
«ماذا يعنى كل هذا؟»
نلاحظ أن هؤلاء الطلبة لا مشكلة
لديهم مع وضعهم الاجتماعي. الخلل يكمن في المعنى من وجودهم. غياب المهم، المعنى
كنواة المركزية، يدمر كيانهم الداخلي و الخارجي. جدير بالملاحظة هنا أن الواقع
العقلي هو الذي يدمر الواقع الفيزيقي (أو الجسمي). هذا يعزز فكرتنا القائلة أن
الوجود بنيةٌ عقلية مستقلة، غير قابلة للاختزال إلى أشكال وجودية جسدية، أو
اجتماعية أو مادية.
إضافة إلى ذلك، يشكل الوجود واقعا
نوعيا متميزا بحياته الخاصة، بديناميته التي قد تكون بانية أو مدمرة، ليس فقط
بالنسبة لدلالة الوجود الإنساني بل أيضا بالنسبة للأشكال الوجودية الأخرى. يمكن
الحديث عن ظاهرة النشاط العقلي (عقل ومشاعر، مكونات عقلانية وغير عقلانية كالحدس،
والارادة، والحب...) حينما يمارس عقلنا تأثيرا مباشرا على العالم الخارجي وعليه هو
الآخر. يمكننا الحديث عن المجال الوجودي
للشخصية، وحتى عن مجال العقل
البشري. فعلى هذا المجال الذهني يمكن إحراز نتائج علاجية.
نشير أيضا إلى أن العوامل الخارجية
للتدمير تنسل عبر الواقع الوجودي. فالخوف، مثلا، عامل خطر إضافي يعمل على إبادتنا.
إذ الموت «يبيد»نا بواسطة الخوف.
الوجود نقالٌ للمعنى وللفهم. في هذا
الصدد، يمكن للقول المأثور عش أولا ثم
تفلسف vivre d'abord, puis philosopher أن يعني أنه من المهم أولا ضمان وجود كائن، عقل حي،
حتى نمارس التفلسف في وقت لاحق (صحيح أن الفلسفة تساهم في صيرورة وجودنا،
دواخلنا). بتعبير آخر إن التجربة الوجودية شرط أساسي للتأمل الفلسفي. فبدون الحياة
الداخلية للذكاء والانفعالات تصبح الفلسفة مستحيلة.
تجربة في تقديم استشارة فلسفيةcounseling philosophique
اسمحوا لي أن أعرض تجربة من هذا
النوع قامت بها الفيلسوفة المكسيكية يولاندا أنغولو بارا. ترى هذه أن الفلسفة لم
تكن دوما مهمة احترافية «جادة»، و لا فرع معرفي مُمَركز على الابستيمولوجيا أو
مجموعة المواضيع المخصصة للفلاسفة ولا يفهمها إلا هم وحدهم. لقد كان الفلاسفة قبل
هذا يتوجهون للناس العاديين، يتحاورون معهم، يقدمون لهم المشورة حول حياتهم
والقرارات التي يجب أن يتخذوها. في بعض الأحيان يواسونهم عن معاناتهم الجسدية أو
العقلية. بل من يمكن لنا تصور سقراط ممددا على أريكة خلال مأدبة، أو يدردش بانفعال
أثناء نزهة بهيجة مع صديق له. أو حتى سينيكا وهو يجهد نفسه، في خلوته، لإيجاد
الكلمات المناسبة لكتابه رسائل للوسيوس
أو مواساة هلفيا. ماهي الغايات
المرجوة من هذه الجهود المبذولة؟ أساسا مساعدة الآخرين على التفكير في مشاكلهم أو
في أوضاعهم، حتى يستطيعوا فيما بعد تحسين وضعهم العقلي و الحصول على سكينة
أرواحهم.
توضح أنغولا بارا أن الاستشارة الفلسفية في زمننا المعاصر،
التي أصبحت في بعض النواحي من العالم محترفة، من الممكن اعتبارها طريقة علاجية،
لكن أيضا كنصيحة أو توجيه أو مساندة. فحين نتوجه إلى فيلسوف للاستفادة من خبرته،
فلأن هناك مشكل ذو طبيعة وجودية، ولأن الحياة أضحت دون معنى، وأمسينا عرضة لصراعات
بين القيم أو في مواجهة مختلف المشاكل التي لا تدخل ضمن الفئة الباثالوجية، لكنها
مع ذلك لا زالت تتطلب اشرافا احترافيا.
الموجه الفلسفي يعزز استقلالية
الفرد من خلال تحسين مهارات التفكير المنطقي لديه، بحثِّه على البحث شريطة أن يكون
الهدف الوحيد هو القيام بعمل استبطاني يقوده إلى فهم أفضل لأناه الداخلية. لقد كان
هذا واحدا من الأهداف الأساسية عند سقراط. إلا أن معرفة الذات ليست هي الهدف
النهائي لضرورة تحويل كينونة الفرد بطريقة تسمح بأن يصبح شخصا أفضل على المستوى
الأخلاقي.
بحسب يولاندا أنغولا بارا يتعلق
الأمر، في نهاية المطاف، بتنظيم حصص تشاورية
فلسفية فردية أو جماعية: مثلا في سجون للنساء المكسيكيات، بغية مساعدتهن على فهم
أوضاعهن وتقديم الوسائل الفلسفية الضرورية لتدبيرها.
الوجود الإنساني، الأحلام و الإيمان
انطلاقا من الفرضية القائلة أن
الكائن الإنساني عالم مصغَّر، نتاجا للطبيعة الطابعة (natura naturans)، يمكننا استنتاج أنه بالأساس ليس فقط
كائنا مخلوقا بل أيضا كائنا خالقا -
homo creans- ليست إنجازاته سوى شكل من خلق الكون Cosmos. ما يعني أن الإبداع الإنساني هو ظاهرة
كونية. فالكائن البشري له القدرة على المساهمة في الخلق الماكرو والميكرو كوني.
تجد هذه المقاربة امتدادا لها في
فكرة الطبيعة النشيطة للذكاء البشري. فالنشاط سمة من سمات عقل الفرد، مما يدل على
أن عقل الفرد لا يوجد خارج أفعاله. وكما أنه
لا يمكن تصور حياة عضوٍ بيولوجي
خارج نشاطه، فوجود الذكاء البشري لا ينفصل عن نشاطه –عن العقل، عن المشاعر، عن
الإرادة وعن الأحاسيس. لا يمكن تصور حياة النوع البشري في معزل عن الحركة. و يمكن
للنشاط العقلي أن يكون في نفس الوقت بنّاءً وهداما.
يتم التعبير عن الإبداع العقلي في
أشكال مختلفة من الإبداعات الروحية. فعلى سبيل المثال ليس التأمل الفلسفي وحده هو
الذي يمكن اعتباره ابداعا تشاركيا للبنيات الأساسية لموضوع الدراسة وإنما كل فعل
معرفي. هذا يعني بشكل خاص أن كل حكم يتضمن مكونين على الأقل: أولا عرض للحالة،
ثانيا الإبداع المميز الذي يخصه بالتحديد. وهكذا، إن عرفت أن ولدي كذب علي وقلت له
ذلك، فإني أقوم أولا بعرض مضبوط للوضعية، كون «ولدي كذاب»؛ وثانيا أنني من تقييمي
أخلق أو، حتى أكون دقة، أشارك في ترسيخ هذه السمة السلبية لدى ابني. بسهولة يمكنني
تصور النتيجة المحتملة إذا ما تكرر إصدار هذا الحكم يوما بعد يوم.
يبدو لي أن الأحاسيس تمتلك، كمثيلها
الفكر، إمكانات إبداعية. كل فعل عقلي له توجهين: نحو الموضوع ونحو الذات الفاعلة.
يعني هذا بالخصوص أننا نصير بالتأكيد ذاك الشيء الذي نفكره ونحسه. حين نعرف
الحقيقة نصير حقانيين أكثر، و واقعيين أكثر وأحرارا أكثر –مادامت «الحقيقة تجعلكم
أحرارا» كما يقول الانجيل: فالحرية صفة للوجود الإنساني الحقيقي. وبهذا فالحقيقة
عامل يساعد على جعل الإنسان أكثر إنسانية.
الواضح أننا نصير نحن كذلك ذاك
الشيء الذي نحسه، نريده، نرغب فيه، نحبه، نكرهه، ذاك الشيء الذي نتذكره ونجربه،
الذي نؤمن ونحلم به. فالوظائف العقلية إذن تساهم في تكوين الموضوع التي تؤثر فيه،
والذات التي تنتمي إليها وأخيرا فيها هي ذاتها.
من هذا المنظور، يمكننا استحضار
الطبيعة الثلاثية للأحلام. فالأحلام تكشف، أولا، عن إمكانياتنا. إذا كنت تستطيع أن
تحلم بالأشياء الكبيرة، فأنت قادر أيضا على القيام بها. «اخدموا الناس إذا توفر
لكم ذلك»، كما قال كاهن للعالم الروسي ميخائيل لومونوسوف (1711-1765). إذا أتيح
لنا ذلك، إذن فنحن نحلم من خلال إبراز هذه الملكة الداخلية. وبكلمة واحدة، تساعدنا
الأحلام على معرفة أنفسنا بشكل أفضل، هي أداة لمعرفة الذات.
وبحسب الفيلسوف الروسي إيفدجنيش
تروبتشكويْ (1863-1920)، الوعي هو دوما حجة على شيء ضروري للغاية، على معيارٍ ما
يجب إن يتبعه الجميع، دوما وفي جميع الحالات الممكنة. (Troubetskoï
1998 : 64-5.)
دعونا نتبع بشكل متوازٍ منطق تفكير
هذا الفيلسوف: الحلم هو أيضا رسالة حول أمر ضروري جدا، تخمين يخص عمق جوهر الإنسان
(أو الوطن، أو المجتمع). من هنا يمكن للتحليل الاجتماعي، والثقافي والنفسي المناسب
(على غرار ما قام به فرويد) أن يفيد كثيرا الخصائص الأساسية للإنسان. فالأحلام تبرز
بالفعل إمكانياتنا وقدراتنا.
ثانيا، الأحلام تشكِّلنا وتحولنا
بطريقة خلاقة. إنها تدفعنا إلى تحقيق كثير من الأشياء. والحلم، من دون شك، كما
الإيمان، يحتاج إلى التعزيز من قبل أفعال ملموسة. فالأحلام دون أفعال ليست بشيء.
إننا نصير ما نحلم به. إذ الأحلام تصبح
واقعا. وإذا قبلنا بالفكرة القائلة أن الأشياء التي تخيفنا تتحقق، لماذا
نشك عندما يؤكدون لنا بقولهم أن «الأمور التي نحلم بها تتحقق»؟ وكما يقول الكاتب
الأمريكي ريشار باخ (1986): «نرسم حياتنا على شاكلة ما نحتفظ به في أفكارنا».
ثالثا، تتقوى الأحلام بوجودها الخاص،
وهي تتطور، تظهر، تأخذ شكلا، وتصبح أكثر وضوحا. إنها، ككل الظواهر، تتغير بشكل
دائم. يتيح لنا كل هذا إمكانية التأكيد على أن الإنسان يمكنه ويجب عليه أن يحلم ما
دام فعل الحلم نفسه يجعله أكثر قربا من أحلامه.
بالنسبة لفلاديمير سولوفييف
(1853-1900)، وهو كذلك فيلسوف روسي، فالإيمان: «خطاب أولئك الذين ينتظرون وحيا من
اللامرئي» (Soloviev 1990 : 531). هذا يعني أولا ان الإيمان هو موقف الذين يأملون،
يتوجه للذين يأملون في تحقيق ما يؤمنون به. ويكشف الإيمان، في مرحلة ثانية، ما يظل
غير مرئي للإدراك العادي. بعبارة أخرى، إن الإيمان رؤية خارقة، تخمينات زائدة، ضوء
غامض (أو إن شئتم سحري) يسمح للإنسان برؤية ما لا يراه غير المؤمن. إذ الإيمان
يسمح للكائن ببلوغ كشف [وحي] جديد.
يمكننا، زيادة على هذه الخصائص
المذهلة والدقيقة من الناحية التجريبية لسولوفييف، إضافة أن الإيمان له طاقات إبداعية
قوية. فهو يضاعف قدرات الذي يمتلكه. ويقوي ملكاتنا المعرفية كلما ثقنا في قدراتنا
الإدراكية. يجعلنا فائزين إن آمنا بالانتصار. إنه يغيِّرننا ويقومنا، بينما يشعرنا
بالضياع كلما افتقدناه. ويمكن للإيمان إحداث تغييرات جوهرية حقيقية، لا تتطلب
مجهودات كبيرة جسمية أو مالية.
تعريف الإيمان هذا يمكنه أن ينطبق
كذلك على تعريف الحلم. يمكننا التأكيد على أن الأحلام هي رسائل من ينتظر انكشاف
غير المرئي، التواقين لحياة أفضل. والأحلام، في نفس الوقت، هي نفسها انكشاف غير
المرئي، انكشاف الممكن: بلورة المستقبل. وبهذا، في البداية كان الحلم.
هوامش ومراجع
●
Nikolay Omelchenknko: La philosophie comme thérapie. Traduit
de l’anglais par Jeanne Delbaere-Garant
Angulo
Parra, Y. (2009) « Power Relations, Forms of Female Subjectivity and Resistance
», dans N. Omelchenko (éd.) The Human
Being in Contemporary Philosophical Conceptions, p. 283-292. Newcastle upon
Tyne: Cambridge Scholars Publishing.
Bach,
R. (1986) Illusions : le messie
récalcitrant. Paris : J’ai lu.
Feuerbach,
L. (1960) « Der Eudemonismus », dans Sämtliche
Werke,
éd. Bolin et Jodl, t. X, p. 230-293.
Stuttgart : Frommann.
Frankl,
V. (2006) Découvrir un sens à sa vie :
avec la logothérapie, traduit
de l’anglais par Clifford J. Bacon
et Louise Drolet. Montréal : Éd. De l’Homme.
Fromm,
E. (1955) The Sane Society, New York:
Rinehart.
Omelchenko,
N. (2005) Опыт философской антропологии.
Volgograd: Издательство Волгоградского государственного университета.
Scheler,
M. (1979) La Situation de l’homme dans le
monde, traduit et préfacé par M. Dupuy. Paris : Aubier Montaigne.
Soloviev,
V. (1990) « Смысл любви », dans Сочинения,
t. 2, éd. Arseny Gulyga and Alexei Losev, p. 493–547. Moscou : Мысль.
Troubetskoï,
E. (1998) « Смысл жизни » dans Избранные
произведения, p. 16-336. Rostov : Феникс.
نشر بمدونة "كوة"