وأمي حامل بي، بالتأكيد كنت أسمع الكثير من همساتها أو صراخها؛ حين ولدت،
أكيد أنهن طوقنني من كل جهة، يدسسن كلمات الحب الأولى، ويحشِّمن تحت منادلهن
زغروتات الاعتزاز: خالاتي وعماتي وجارات أمي؛ أما أبي فكبَّر وكبَّر. لم تكن إلا
لغة واحدة تأتي سراديب محملة بتراب الأرض نحو طبل أذني: لغة بلادي.
حين ولدت، في حي شعبي بالمدينة الكبيرة،
كان التاريخ يلامس خروج المستعمر من بلادي، لم أدركه لأني حينها كنت ذلك الشبل الذي
يجرب لسانه. لكن حين أصرخ في وجه أترابي، أبتسم لهم، أتوسل: أُحدِث لي موقعا على الأرض
التي أمشي عليها، لم أكن أفعل ذلك إلا بلغة واحدة: لغة بلادي.
لم أصنفها إذ ذاك لا لغة العلم ولا
لغة الآداب، لكنها على كل حال لم تكن حينها لغة جهل. حينها كانت تحمل من أبجديات
المعرفة الكثير: حساب الكريات التي أَقْرِدُها (قَرَدَ فعل يعني جمع)، حساب كيفية
تدحرجها لتسير نحو الهدف... بعدما كبرنا، فقهنا
لغات إضافية: الفرنسية، انجليزية واسبانية، وحتى الايطالية. الفرنسيون، الإسبان والإيطاليون
يعجبون كيف نحدثهم أدبا وعلما بلغاتهم، هي نفسها المعارف التي نخاطب بها جمهورا مفترضا،
في محافل متنوعة، باللغة التي كنا نسمعها في أرحام أمهاتنا: لغة بلادي، لأن كل لغة
هي حاملة لعلم، هي لغة علم.
وما كنا لنستوعب معارف كبرت شيئا شيئا معنا، ما كانت لتكون بنية منا لو
أنها كانت في لغة لا نفقهها. ورغم أن الدولة سعت أن تربكنا، كلما هدء الشكل الذي بُلغنا
بها تلك العلوم، بهزة عنيفة كهز شكوة إخراج الزبد من اللبن، فقد تلصَّقنا وتسلقنا،
وكنا أبناء هذا الوطن الذي رسم حروف لغة هذا البلد على شفاه أطفال تناثروا في كل
البقاع.
عربية أم فرنسية تلك علكة الدولة، لا الحكومة التابعة (فهي فقط تابعة أيا
كان لونها)، نلوكها ما دامت هي تشاء لنا ذلك، فنحن لا نمتلك سوى أن نفعل ذلك. نحن مثلا
لا نستطيع أن نقول سوى أن العلم فرنسي اليوم في انتظار الغد، لأن الدولة أرادت
ذلك، و لأننا، تبعا لذلك، ألفنا أن ندفن عجزنا تحت أذناب الآخر. لكن حين نكون في
وحدتنا لا يمكننا إلا أن نعترف و بصوت جهور: حين ولدنا لم تكن مربيتنا فرنسية، و
لا كان اسم أبينا جاك. ما تكلمنا سوى لغة هذه البلاد.
نشرت بمدونة "إكسير"