طفولة فقيرة |
أمر واقع: مقتضيات الحداثة.. شروط التمدن..
ونحن صغارا، (أتحدث عن أوائل الستينات من القرن
العشرين وما بعدها)، لم يكن الوالدان يرضيان أن نذهب للمدرسة، أو أي مكان آخر بما
فيها المكان الذي نختاره للعب، ونحن نرتدي ملابس ممزقة. ميسورين، "نعدي مع الوقت"،
أو معوزين، الكل يعمل كل ما يستطيع كي لا يظهر لابسا ما كان يسمى أدبيا (أو على
الأقل إنشائيا) أسمالا. أن يسكنوا ببيوت القصدير، أو يتغدوا بالخبز والشاي ليس
مشكلة، لكن أن يرتدوا أسمالا فهذا لا يساير المظاهر العامة.
ظهور تلميذ بالمؤسسة الدراسية بملابس ممزقة
واستمراره على هذا الحال، غالبا ما يدفع تلاميذ من الجنسين يتحدون، بإيعاز من
المدرسين، ليكونوا لجينة تعمل على تجميع بعض المال، لشراء لباس يقدم للتلميذ
المعوز. لربما كان هذا يجعله أكثر انخراطا مع المجموعة المدرسية، ولربما كان سببا
في انتشاله من الهدر.
لا أريد تقمص شخصية فقيه الجمعة الذي يبدأ الخطبة
بما كان عليه السلف وما أصبحنا عليه اليوم. لكنها شروط التمدن.. ومقتضيات الحداثة.
الموضة جعلت الجينز الممزق لباس الساعة. لم يعد
الآباء يغضبون على أبنائهم وهم يلبسون ملابس ممزقة، هم يشترونها لهم متباهين. لم
يعد هناك فقير في العالم نتحد لنكسيه، ففي أرقى المحلات التجارية تجد ملابس ممزقة،
بل ومتسخة. لقد تم تعويم مفهوم الفقر، وأصبحت المؤسسات الدراسية تساعد على امتلاك
جينز ممزق لمن يفتقده. هذا النوع من اللباس الذي ابتكرته أمريكا للعمال، ها هي
تُعوْلِمه وتحرر الفقراء من حصرية لباسه.
الانتماء إلى العصر يفرض الإيمان، طوعا أو كرها،
بقيم الحداثة والتمدن. كل القيم التي
تدافع –الحداثة- عنها وتدعو إليها، وتعمل على ترسيخها إنما تهيئ العالم ليتماهى
على نفسه، ويتوحد حول قطب واحد. هذا القطب سمته الأساسية اعتماده اقتصاد السوق،
وهو يقبض بشراسة على آلياته. المتحكم في هذا لا يريد أن تسقط تجارة الجينز، ويرفض
أن يبقى هناك فقيرا وفي حالة غضب مزق الجينز من جهة الركبة أولا، ثم ا ستمرت حالات
التمزيق، ودأب المشاهير على اللبس، والناس يلبسون.
التفت إلي صديقي التاريخي، وقال باسما: «أنت يا
صاحبي باقي قديم «!
نشرت بمدونة "أكسير"